القضية الفلسطينية

في رثاء الشيخ الشهيد يوسف سلامة

عدلي صادق/

جاء نبأ ارتقائه، في وقت يَضخُ دماً ومآسي. فمن هو الأقدر من الشيخ على وصف ما جرى ويجري، ومن هو الأكثر بلاغة في رثاء من ارتقوا ويرتقون؟! حينما أذكر الشيخ الشهيد يوسف، أكون بصدد رجل له من الصفات العريضة ما لا يتسع لها شخص واحد. فأبو إياد يوسف، المثابر على إغناء تجربته بمراكمة الفعل المُضاف. عاش كما لو إنه مُنتَدب للوداد الاجتماعي، منذوراً للأُلفة، مُشتعل الذِهن، طليق اللسان بفصاحة خطابية وإنشائية، ظلت علاقته بالله تزداد عُمقاً وحرارةً وقوة، لا تلبس أراؤه مسوح الرُهبان، بقدر اهتمامه بأن تكون هذه الآراء معبرة عن اشواق حقيقية يتطلع إليها الوطن والمجتمع، مشبعة بالمُثل العليا والقيم الفاضلة! كان صديقي الشيخ يوسف، صانع كينونته كداعية ومثقفٍ، يتوافر على نهل المزيد من العلم الشرعي والإحاطة بشؤون دنيانا وأحداثها، حتى أوغل في الجِد، حتى قضى اغتيالاً بيد أعدائنا. حَسن الدُعابة، يكره التعصب والانحصار في مكان، أو الاكتفاء بميّزة بعينها. متسامياً على النميمة، فلا تُسمع على لسانه أسماءٌ مقرونة بالمآخذ، إن لم تُسمع أسماءٌ مصحوبة بالثناء. لا تسكن قلبه أية أحقاد، كريماً متواضعاً، يتحدث كثيراً عن القليل الذي يُعطى له من الآخرين، أو يعطيه الناس للناس، فيما ينسى الكثير الذي يعطيه لسواه. وفي أوقات حياته، يكسر الملل بمواهبه الكثيرة، وبجرأته، وقبل ذلك بوطنيته. على قَدْر ما مر من زمن الموت؛ أشتاق لذكرياتي معه، ولأوقاتنا الخاصة، وللأماكن التي جمعتنا معاً، ولتفاصيل وجهه الطيب. ضحكاته وأفعاله وأقواله وخفة الوقت معه، لا سيما في باحة منزله في “المغازي” بعد صلاة العشاء، عندما تبدأ مسرحية السَمر الجميل، بفتح فصل الدعابة الجميلة مع أحد الحاضرين، ليستمتع الجميع بالمفارقات الناشئة عن إفراط في امتداح رجل بسيط، بل في غاية البساطة، كأبي زياد، من مدينة يافا السليبة، فيخاطبه كمختار وينصت الجميع لردود الرجل وما فيها من مفارقات! كان الشيخ الشهيد، يصنع لنفسه ولمن معه، محطات استراحة في اي مكان ووسط أي زحام. كنا معاً في القاهرة، أثناء فصل الصيف القائظ. ذهبنا للصلاة في جامع الأزهر، وعلى بُعد أمتار منه في اتجاه ميدان العتبة، توقف الشيخ أمام محلٍ للعصائر، وإذا بصاحب المحل والعاملين معه، يتهللون بالترحيب، ويجلبون الكراسي لنا للجلوس على رصيفهم، كأنما الذي يزورهم هو شيخ الأزهر. حَضَرَتْ سريعاً أكواب عصير القصب دون أن نطلبها، وأشار الشيخ إلى صاحب المحل قائلاً لي: إنه إبن العم. كان ما فعله الشيخ قبلئذٍ، بعد أن لمح اسم سلامة على يافطة المحل، أن قدم نفسه كيوسف سلامة، ثم بدأ حديثاً وفاقياً مع الرجل، صنع من خلالها مقاربة لعلاقة عائلية، دون أن يزيد عن شرح الآية من سورة الحجرات “وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا”. كان ذلك مدعاة للرجل، لأن يزهو بمقاربة الشيخ المعمم أنيق الهندام، ويتحمس لتأسيس علاقة عمومة مُفترضة. وبالنسبة لي، وربما للشيخ، لا بأس من تتأسس نقطة استراحة على مقربة من جامع الأزهر، مع علاقة جوهرها الحقيقي الصداقة. فمثل هذه الصداقات ـ المفارقات، مألوفة في المجتمع المصري! في مساء ذلك اليوم، وفي فندق “بيروت” المتواضع في ضاحية “مصر الجديدة” حيثما اعتاد الشيخ النزول، اشتعل التضاحك بيننا، فأصر على إلباسي الجِبّة التي لم أتخيل يوماً أن تكون لباساً لرأسي. وقفت أمام المرآة، وبالنتيجة جعلني الشيخ أغشى من الضحك على نفسي. كانت للشيخ الشهيد يوسف سلامة، نظرة طريفة لأصدقائه من الشيوخ الأزهريين المعممين والتقليديين، ويميل الى إبعادهم عن قنوط بعضهم الظاهر بما يتجاوز الوقار الزائد. فالجهد الدعوي عفي رأيه، يصح أن يقترن بالبساطة والسلاسة والتواضع مع البسطاء والناشئة، وهو يعرف أن الأحاديث بينهم، عندما يُداعب واحدهم الآخر، تتسم بالأهاجي الساخرة، الودودة إن صح الوصف. فالشيخ لم يكن من النمط التقليدي القديم، الذي يقوم وينام على اصطناع التجهم! في هذا السياق كله، لم تكن تفارق الشيخ الآية الكريمة 105 من سورة “التوبة”:”وقُل اعملوا فَسَيرى اللَّهُ عَمَلَكُم وَرسوله والؤمنونَ وسَتُرَدُّون إِلى عالم الغيب وَالشهادة فَيُنَبّئُكُم بما كنتم تعملون”. فهو الآن بين يدي الله، وفي صحيفة أعماله، بعد العطاء الزاخر في تجربة التعليم الديني وبخلاف الخُطب المنبرية الجليلة والندوات؛ أنه كان الراعي الأول، لأفواج متتالية تخرجت من مراكز تحفيظ القرآن الكريم، وكان قد أصدر العديد من الكتب، بدءاً من كُراسات التعريف بأحكم الصلاة، مروراً بالتعريف التفصيلي لكل موضع في المسجد الأقصى المبارك، مع كتب فقهية وإرشادية. ثم كانت المأثرة بطباعة القرآن الكريم طبعة أنيقة ازدانت بها المكتبات، واقتضت متابعة شبه يومية، وحُسبت إسهاماً فلسطينياً في طباعة وتوزيع المصحف الشريف، ليس عن نقص في طباعته في العالم الإسلامي وفيه دول ذات وفرة مالية عظمى، وإنما عن حرص على إسهام بلادنا في طباعة كتاب الله. لم يقدم الشيخ الشهيد روايته عن نفسه، وأظنه لم يكن سيفعل. فهو في حياته لم يزعم لنفسه مآثر لم تكن له. فما كان له منها، كان يعزوها الى الواجب الشرعي والوطني، ولم يَدَّعِ لنفسه محمل الجِد، مكتفياً بحمل شُغلِهِ على ذلك المحمل، وكان يرى أن أمامه الكثير من الأعمال التي يطمح إلى إنجازها. كنت، أثناء عملي سفيراً لدى الهند، قد دعوت الشيخ يوسف لزيارة تلك البلاد التي يعيش فيها نحو 250 مليون مسلم. سافرنا في بداية الزيارة إلى ولاية “كيرالا” واستقبلنا هناك الشيخ الدكتورحسين أبوبكر كويا مدوور، رئيس جامعة الفاروق عمر آنذاك، ومدير جامعة مليبار الإسلامية ورئيس المجالس الأكاديمية للغة العربية في جامعة سري نارايانا غورو حالياً. وسرعان ما نشأت صداقة بين الشيخ الشهيد ود. حسين (أبو جهاد) الذي تحمس وازدادت همته بعد الندوة الأولى لشيخنا، فاصطحبنا الى العديد من المدن البعيدة في المقاطعة الشاسعة، وتوالت المحاضرات وعلا الترحاب. وقد انتهى إلى أسماعنا أن د. حسين أقام حفل تأبين في ولاية “كيرالا” للشيخ الشهيد يوسف بعد ارتقائه. وكان من أسعد اللحظات بالنسبة لنا، على الرغم من مشقة السفر براً، أن يحتفي بنا، وبكل حرارة ومحبة، الصغار والكبار من الذكور والإناث، من مسلمي تلك الولاية التي يبلغ عدد سكانها 35 مليون نسمة. وفي العاصمة دلهي، شرّفنا الشيخ بلقاءاته في الندوات والمساجد والمراكز الإسلامية وفي اللقاءات مع السلك الديبلوماسي العربي والإسلامي. وقد شجتني زيارته على دعوة آخرين من شيوحنا الأجلاء بعدئذٍ، إذ حضر الشيخ الجليل ياسين الاسطل عليه رحمة الله، والشيخ مفتي بلادنا محمد أحمد حسين! كأنما أرغب في الختام، أن أخاطب صديقي الشيخ يوسف، لا سيما وأنه ـ حسب رواية نجله العزيز إياد ـ كان يستفسر عن أحوالي قبل يوم من ارتقائه: أيها التقي النبيل، وقد عرفتك من القامات الطيبة غزيرة العلم والخُلق: إن الأتقياء مثلك، عندما تصعد أرواحهم الى السماء، كأنما يمشون على أطراف أصابعهم لكي لا يزعجوا أحداً، يغمضون أعينهم كمن أخلدوا إلى النوم. لكنك، يا صديقي، أسلمت الروح في انفجار، بينما صخب المقتلة الإجرامية، قبلك ومن بعدك، أوجب تشييعك في صمت، فتحاشيت إزعاج أحد، وكل أحد ما يزال تحت القصف. البقاء لله الذي ليس باقياً سواه. إن حُكم المنيَّة نافذٌ. فلتسقِ السماء قبرك. ستظل ملامح وجهك سليمة محفورة في القلب، وثق أن ألم الحياة بات أصعب وأشد من الموت!

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com