المفكر الألماني المسلم مراد هوفمان في ذكراه الخامسة

أ.د. مولود عويمر/
تحل اليوم الذكرى الخامسة لوفاة المفكر الألماني المسلم مراد هوفمان الذي وافته المنية يوم 12 يناير 2020 في مدينة بون عن عمر ناهز 88 سنة، كانت حافلة بالنشاط الدبلوماسي والعمل الفكري. وقد ساقه البحث المستمر عن الحقيقة إلى دراسة الاسلام ثم اعتناقه لهذا الدين الحنيف على خطى رنيه غينون، إيتيان دينيه، ليوبولد فايس، وجيولا جرمانوس، وغيرهم من المفكرين المسلمين الغربيين المعاصرين.
ومضات من مساره
ولد ولفرد هوفمان في 6 جويلية 1931 بمدينة أشافنبورغ بألمانيا. درس في مسقط رأسه الأدوار التعليمية المختلفة حتى نال شهادة الباكالوريا، ثم واصل دراسته العليا في ولاية نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية حيث درس علم الاجتماع والقانون والأدب الأمريكي. ثم عاد إلى ألمانيا وانتسب إلى جامعة ميونيخ حيث تحصل على الماجستير في القانون في عام 1955، والدكتوراه في عام 1957 حول موضوع: «حماية المحاكم من تأثير واستخفاف الصحافة وفقاً للقانون الألماني والأمريكي». ولم يكتف بهذا التحصيل العلمي، إذ عاد في عام 1960 إلى مقاعد الجامعة للتعمق في دراسة القانون الأمريكي في رحاب جامعة هارفارد العريقة. كما كان يهتم بتقدم البحوث في مجال العلوم والتكنولوجية كما يظهر ذلك في بعض كتاباته اللاحقة.
وبعد تخرجه من الجامعة في عام 1955، عمل هوفمان في مكاتب المحاماة في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية. انتقل في عام 1961 إلى وزارة الشؤون الخارجية للعمل في السلك الدبلوماسي، وتقلد عدة مناصب سامية، أذكر منها: مدير إدارة المعلومات والاتصال في منظمة الحلف الأطلسي (1983-1987)، وسفير لألمانيا الاتحادية في الجزائر بين 1987 و1990، ثم سفير في المغرب الأقصى بين 1990 و1994.
إضافة إلى نشاطه الدبلوماسي، اهتم هوفمان بالتأليف، فأصدر مجموعة من الكتب الفكرية، أذكر منها: «نهج فلسفي لتناول الإسلام»، «الفلسفة الإسلامية»، «الإسلام كبديل»، «الإسلام في الألفية الثالثة: ديانة في صعود»، «رحلة إلى مكة»، «يوميات مسلم ألماني»، «خواء الذات والأدمغة المستعمرة»، ….الخ.
وترجمت مؤلفات الدكتور هوفمان إلى لغات عديدة، منها اللغة العربية، واحتاجت ترجمة بعض كتبه إلى تضافر جهود مجموعة من الباحثين نظرا لما تشمله من موضوعات في تخصصات متعددة مثل كتابه «خواء الذات والأدمغة المستعمرة» الذي تعاون على تعريبه ومراجعته 5 باحثين نظرا لاحتوائه فصولا في الرياضيات والفيزياء وعلم الأحياء والفلسفة والثقافة الشرعية الاسلامية.
ونالت آراؤه أصداء واسعة في ألمانيا وخارجها، وأثارت مجموعة من أفكاره موجات من النقد والمناقشة في وسائل الإعلام الغربية. لكنه لم يكن يأبه بتلك الحملات المهاجمة له بخاصة بعد صدور كتابه «الإسلام كبديل»، بل كان يقارع دائما ظاهرة الإسلاموفوبية ويدحض الأفكار الخاطئة الجاهزة تجاه الإسلام والمسلمين، بالحكمة والحجة البالغة، ويعرّف بالأخلاقية السامية والقيم الروحية التي يدعو إليها الإسلام.
الطريق إلى الإسلام
في «يوميات مسلم ألماني» كشف مراد هوفمان خطواته في طريق الإيمان، بداية من رحلته إلى الجزائر في عام 1961، وصولا إلى اعتناقه الإسلام بعد الدراسة والبحث والتأمل الاقتناع. وقد أشهر إسلامه في يوم 25 سبتمبر 1980 بالمركز الإسلامي بكولونيا، واختار لنفسه اسم مراد فريد تأكيدا على بلوغ مراده كما قال في يومياته المنشورة.
قرأ التراث العربي الإسلامي واهتم بقضايا الإسلام والمسلمين، واطلع على أعمال نخبة من المفكرين الأوروبيين الذين اقتربوا من الاسلام ودرسوه بإخلاص، ثم اعتنقوه بعد ذلك أمثال رنيه غينون (عبد الواحد يحى)، إيتيان دينيه (نصر الدين دينات)، ليوبولد فايس (محمد أسد) وجيولا جرمانوس (عبد الكريم جرمانوس)… غير أنه تأثر أكثر بالمفكر النمساوي محمد أسد.
فقال في هذا الشأن: «ما من شخص آخر استطاع خلال المائة عام الأخيرة أن يبارز النمساوي محمد أسد … في إسهامه العظيم في شرح ونشر الإسلام في الغرب. ولا يعزى تأثيره القوي إلى ما يحظى به علمه وحكمته الغزيران من احترام فحسب، وإنما أيضا الصفات الخلقية لهذا المسلم الجسور والتي حظيت بتقدير مماثل». ومن علامات هذا التأثر والتقدير نجد تصدير محمد أسد لكتاب هوفمان المعنون «يوميات مسلم ألماني».
وبعد إشهار إسلامه، زار البقاع المقدسة لأداء سنة العمرة ثم أداء فريضة الحج في عام 1992 ثم في عام 2003. قد لمس بنفسه معنى الأخوة في الإسلام خلال رحلته إلى مكة والمدينة، فكلما التقى به عربي مسلم وعرف باعتناقه للإسلام بكى أمامه من الفرح. وقد فصل الحديث عن زياراته المتعددة للحج والعمرة وذكر مشاهد كثيرة في يومياته وكذلك في كتابه «رحلة إلى مكة».
دفاعا عن الإسلام والمسلمين في أوروبا
اختار مراد هوفمان بعد إسلامه طريق الدفاع عن الإسلام والتعريف بقيمه النبيلة بالقلم وباللسان، يحمل على كتفه رسالة شاقة في وسط ثقافي وإعلامي مضاد ومعادي خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 بنيويورك. انتقد الدكتور هوفمان في كتابه «الإسلام كبديل» تخلف العالم الإسلامي الذي كان سببه ابتعاد المسلمين عن جوهر دينهم، ودعا الغرب إلى تفهم الإسلام الذي بمقدوره حل الكثير من الأزمات النفسية والاجتماعية التي تعاني منها الشعوب الغربية، مقررا بأن «الإسلام لا يطرح نفسه بديلا (خيارا) للمجتمعات الغربية بعد الصناعية، إنه بالفعل هو البديل الوحيد».
أما في كتابه «الإسلام في الألفية الثالثة»، فقد انتقد الدكتور هوفمان الفكر الغربي المعاصر وتأثير وسائل الإعلام على عقول الناس وتأليبها على الإسلام والمسلمين، وما يترتب عن ذلك من آثار سيئة على الأقليات المسلمة في أوروبا وتضاعف التحديات التي تواجهها في حياتها اليومية.
كذلك طالب العلماء والمفكرين المسلمين بضرورة تجديد الفكر الإسلامي وإعادة النظر في موقف الإسلام من القضايا الثلاثة الآتية: حقوق الإنسان، حقوق المرأة، والديمقراطية. أما هو فإنه يرى -بعد البحث والمناقشة- عدم تعارض ديننا مع هذه المسائل السابقة التي تتكيّف مع جوهر الإسلام ومقاصده، وتساعد على تطوّره في المستقبل، وتحسّن علاقاته مع غير المسلمين خاصة في العالم الغربي.
لقد دعا الدكتور مراد هوفمان دائما إلى التسامح بين مختلف الطوائف الدينية المشكلة للنسيج الأوروبي، وحث المسلمين الأوروبيين على أداء أدوارهم الإيجابية في أوطانهم الجديدة، وناشد أهل القرار بالاعتراف بحقوق المسلمين الكاملة نظير ما يقدمونه من جهود جبارة من أجل تطوّر المجتمعات الغربية وتقدمها في المجالات المختلفة.
نشاطه الفكري
ألقى الدكتور هوفمان محاضرات كثيرة في الجامعات ومراكز الأبحاث في ألمانيا وخارجها. وقد ذكر أنه ألقى 139 محاضرة في الفترة ما بين منتصف 1994 ومنتصف 1999 حول القضايا الإسلامية في 9 بلدان غربية و9 بلدان إسلامية، كما حضر في نفس الفترة 27 ندوة ومؤتمرا حول موضوعات ذات صلة بالإسلام والمسلمين. كما دافع عن المفكرين الأوروبيين المنصفين للإسلام حينما يتعرضون لحملات تشويه من الإعلام الغربي، ومن الأمثلة على ذلك دفاعه عن المستشرقة الألمانية المنصفة الأستاذة آني ماري شميل التي هاجمها الإعلام الألماني بسبب مواقفها المؤيدة للعرب والمسلمين.
كان الدكتور هوفمان يركز في محاضراته على تشريح الأزمة النفسية والأخلاقية التي وصلت إليها الحضارة الغربية من جهة، والتعريف بالإسلام الصحيح والترويج لقيمه الإنسانية القادرة على إنقاذ تلك الحضارة من جهة أخرى.
كما كان يحرص في نشاطه الفكري والدعوي في ألمانيا على توجيه مسلميها للمشاركة الايجابية في مجتمعهم، والمساهمة في القضاء على الأخطار الأخلاقية والاجتماعية التي تهدده.
غير أن هذا الطموح المشروع لن يتحقق إلا إذا ارتقى المسلمون إلى مستوى مسؤولياتهم، ومارسوا تعاليم دينهم الصافية البعيدة عن الغلو، وسليمة من كل الشوائب المعلقة به. قال في هذا السياق: «إذا أراد المسلمون في ألمانيا أن ينالوا الاعتراف بهم، فإن عليهم إقناع الناس بأن يأخذوهم مأخذ الجد. وإذا رغب المسلمون في تحقيق هذا، وجب عليهم في المقام الأول أن يحذروا من أدنى شبهات الدجل والاحتيال والنفاق في عملهم».
أما في المجال السياسي الذي يملك فيه خبرة طويلة، فإنه نبّه باستمرار المسلمين إلى الطريقة المثمرة لتحقيق أهدافهم وكسب ثقة الأوروبيين وتحقيق العيش المشترك. وهي تتمثل في المشاركة الفعالة في الحياة الحزبية والحكومية ولا يتركوا غيرهم يقررون لهم ويشرع لهم الآخرون القوانين. كتب في هذا الشأن: «أهدافهم السياسية، لا يمكن تحقيقها- في المستقبل القريب- إلا من خلال الأحزاب السياسية الموجودة بالفعل على الخريطة السياسية الألمانية، حتى وإن لم يتفقوا مع كل ما تتضمنه برامجها السياسية، وأن يتم مع ذلك العمل بشكل ثابت على أن يكون هناك تفاهم للإسلام، وعلى الاعتراف به، والعمل على نشره».
لقائي مع هوفمان في باريس
تعرفت على الأستاذ مراد هوفمان خلال زيارته لباريس في جوان 2003 للمشاركة في مؤتمر فكري دولي حول الأقليات الإسلامية في العالم الغربي. وقد جالسته بعد الملتقى، واستمعت إلى حديثه العذب حول رحلته في البحث عن الإيمان اليقين، واعتناقه للإسلام، وتجربته في العمل الفكري، وعلاقته بالمفكرين والعلماء المسلمين والمستشرقين المنصفين.
وبمجرد عودتي إلى البيت في الليل، نقلت هذا الحديث من ذاكرتي إلى كراس ضاع مني فيما بعد، ولحسن الحظ أنني نشرت بعض الخواطر والمشاهد في جريدة «البصائر».
ذكر لي أنه زار الجزائر أثناء الثورة الجزائرية، وأعجب بكفاح الجزائريين من أجل تحرير بلادهم من المستعمر الفرنسي، وقد دفعته هذه التجربة الجزائرية إلى الاهتمام بالعقيدة الإسلامية والثقافة العربية، واعتناق الدين الإسلامي في عام 1980.
وقال لي أيضا أن فرنسا أكثر حظا من ألمانيا بخصوص جالياتها المسلمة، لكنها مازالت تضيع فرصا ثمينة معها. فسألته: كيف؟ فأجاب: «المسلمون في فرنسا ينحدرون من شمال إفريقيا وهم شعب متفتح على الغير، بينما مسلمو ألمانيا قدموا من تركيا وهم منغلقون على أنفسهم!» ولم أناقشه في هذه المسألة لأنني أعرف حبه لتركيا وزياراته لها باستمرار خاصة بعد أن تزوّج سيدة تركية التي كانت له نعم الرفيقة في الحياة، والمدعمة المخلصة لنشاطه الفكري ونضاله الحقوقي.
كان الدكتور هوفمان عالما ورجلا متواضعا جدا، يجمع بين الجد والمرح. ومن الطرائف التي سمعتها منه أنه حضر في أحد أيام شهر رمضان مجلسا لرؤساء دول الحلف الأطلسي بصفته مدير الاتصال لهذه المنظمة، ولما جاء وقت الغذاء قدم الخدم الطعام للجميع إلا للسيد مراد هوفمان، فلحظت مديرة التشريفات ذلك فأقبلت إليه وقالت: «أعتذر إليك عن الخطأ، وسنحضر إليك الطعام حالا، فقال لها: لم يخطئ الخادم بل كان يعرف أني صائم!».
لا يجب أن نستغرب من جرأة وصراحة الدكتور مراد هوفمان في إشهار إسلامه أمام الملأ، أو الافصاح عن آرائه المغايرة، أو التعبير عن مواقفه النقدية، ذلك بأنه نتاج الحضارة الغربية في أوضح تمثلاتها وأجمل صورها.