متى يستفيق رجل أوروبا المريض من أوهامه الاستعمارية ؟

أ. عبد الحميد عبدوس/
يبدو من الصعب التكهن بمدى السقوط الذي سيتدحرج إليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تعامله الطائش والمتذبذب مع الجزائر. إذ لم يكتف ساكن الإليزيه بما قام به من تراجعات ومكر ولؤم وخديعة وتنكر للعهود بفتح خريطة طريق جديدة في العلاقة مع الجزائر، أوفي تسيير ملف الذاكرة بين الجزائر وفرنسا، بطريقة عقلانية، بعيدا عن عقدة التعالي الاستعماري، ولا بما أظهره في مناسبات عديدة من هستيريا سياسية وتهريج دبلوماسي في تصريحاته بخصوص الجزائر وتاريخها ونظام حكمها، بل وصلت به الجرأة إلى التشكيك في شرف الجزائر… وسواء أكان ذلك السلوك الاستفزازي الماكروني وتصريحاته المنفلتة، نابعة من طبعه المتقلب، أو ناتجة عن ضغوط محيطه الحاقد على الجزائر، في سياق تصاعد التأثيرات الخبيثة على الساحة الفرنسية لتيار اليمين المتطرف الحامل للإرث الاستعماري العنصري. غير أن المؤكد، أن الرئيس الفرنسي تخطى يوم الاثنين الماضي 6 جانفي 2024 كل الخطوط الحمراء في تقاليد الأعراف الدبلوماسية، والقواعد الأساسية للعلاقات الدولية. وأطلق تصريحا غير مسبوق في رعونته وتطاوله على سيادة الجزائر، حيث اعتبر، في قصر الإليزيه، أمام جمع من سفراء فرنسا إن عدم إطلاق الجزائر سراح العميل اللقيط بوعلام صنصال: «قد أدخل الجزائر في قضية أفقدتها شرفها». لعل ما زاد في حنق وغيظ وإحباط السلطات الفرنسية وعلى رأسها الرئيس ماكرون من الجزائر، هو فشل الضغوط التي حاول ممارستها على السلطات الجزائرية لإطلاق سراح عميلها عديم الشرف والنسب بوعلام صنصال،دون محاكمة ولا مساءلة عن إساءاته الخطيرة والمتكررة للجزائر واستقلالها ووحدتها الترابية. وبدل الرضوخ لضغوط السلطات الفرنسية، أعلنت الجزائر، بعد حوالي شهر من اعتقال الخائن بوعلام صنصال، عن إحباط محاولات المخابرات الفرنسية زعزعة استقرار الجزائر عبر تجنيد عملاء لتنفيذ عمليات إرهابية ـ كما أكد ذلك، الشاب محمد أمين عيساوي، في اعترافاته المتلفزة ـ مما أدى إلى استدعاء السفير الفرنسي بالجزائر لإبلاغه باحتجاج الجزائر واستنكارها للتصرفات العدائية الفرنسية.
السلطات الجزائرية ردت على التصريح الاستفزازي للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بقوة وصرامة، حيث اعتبر مجلس الأمة، في بيانه أن: «التصريح هو جنوح وتهور وتصرف خطير للغاية وسوء سلوك، بل جرم سياسي وعمل عدائي».كما عبر مكتب المجلس الشعبي الوطني عن استنكاره الشديد لتصريحات الرئيس الفرنسي، واعتبرها تمثل «تدخلا سافرا في الشؤون الداخلية للجزائر ومساسا بسيادتها وكرامتها بشأن قضية قيد النظر وفق القوانين الجزائرية». الحكومة الجزائرية استنكرت عبر بيان وزارة الخارجية تصريحات ماكرون، معبرة عن رفضها وإدانتها لها لما تمثله من تدخل سافر وغير مقبول في شأن جزائري داخلي. كما بينت وزارة الخارجية الجزائرية في بيانها أن: «ما يقدمه الرئيس الفرنسي زورا وبهتانا كقضية تتعلق بحرية التعبير ليس كذلك بموجب قانون دولة ذات سيادة واستقلال بل يتعلق الأمر في جوهره بالمساس بالسلامة الإقليمية للبلاد وهي جريمة يعاقب عليها القانون الجزائري». وعبرت المؤسسة العسكرية عن موقف الجيش الجزائري في مجلة «الجيش» الناطقة باسمه، حيث أكد ت المجلة أن الجزائر: «لا تقبل الابتزاز والوصاية والرضوخ لأي جهة مهما كانت قوتها»، مضيفة أن: «المشهد واضح كل الوضوح ولا يتطلب تفكيرا طويلا وتحليلا عميقا حتى تدرك خبث نوايا أعداء الجزائر وأهدافهم الدنيئة»..
لم يقتصر الرفض والإدانة للتصريحات المتهورة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على الجهات الرسمية، لكنه أثار أيضا في صفوف الطبقة السياسية بمختلف تشكيلاتها الحزبية وتوجهاتها الإيديولوجية، وفي أوساط المنظمات والجمعيات والشخصيات الوطنية الجزائرية، عاصفة من السخط والاستهجان والاستنكار والتنديد برئيس فرنسا وتصريحه المسيء. مع إبداء الرفض القاطع لمحاولات توجيه دروس للجزائريين حول الحريات وحقوق الإنسان، من طرف سلطات دولة موبؤءة بالعنصرية، وحاملة لسجل حافل بالعار والجرائم التاريخية. جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، من جهتها، نددت في بيانها بتصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، واعتبرته: «سقطة شنيعة وانتهاكا صارخا لسيادة الجزائر، وتدخلا سافرا في شؤونها الداخلية». الموقف الصارم والحازم المنسجم لكل الفعاليات الجزائرية الرسمية والشعبية يدل على قوة الحس الوطني المتأصل لدى الجزائريين، واستعدادهم اليقظ والدائم للتصدي لكل محاولات النيل من كرامة الجزائر، ووحدتها، وشرف مؤسساتها، وقداسة استقلالها، في مواجهة دولة كانت ومازالت عدوة للجزائر ومتمسكة بغرورها العنصري واستعلائها الاستعماري. ومازالت تجند دكاكينها السياسية، وأبواقها الإعلامية، وعملائها الخونة الظاهريين والمستترين، للهجوم على الجزائر والتدخل في شؤونها الداخلية وزرع الفتن بين أبنائها. وتقدم زير الداخلية الفرنسي اليميني المتطرف برونو روتايو خطوة إضافية في تأزم العلاقة مع الجزائر،حيث لم يتردد في التهديد باستعمال «القبضة الحديدية» مع الجزائر، وتبعه على نفس النهج وزير الخارجية جان نويل بارو لوح بالرد على الجزائر لرفضها استقبال مؤثر من أصل جزائري مقيم على الأراضي الفرنسية، رحلته فرنسا مؤخرا إلى الجزائر. رئيس الدبلوماسية الفرنسية لم يكن يرى أنه يجب الرد على إهانة إسرائيل للسلطات الفرنسية عندما قامت شرطتها بتدنيس حرمة كنيسة كاثوليكية بالقدس الشرقية تديرها السلطات الفرنسية، والاعتداء على دركيين فرنسيين، خلال زيارة جان نويل بارو للقدس في شهر نوفمبر الماضي (2024).
يمكن القول أن تهور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وقصر نظره السياسي، جعلاه ينزلق إلى وضع الرئيس المعزول داخليا، والمنبوذ خارجيا، لقد حول نفسه بنفسه في صيف العام الماضي (2024) إلى «بطة عرجاء»، بدعوته المتسرعة إلى إجراء انتخابات برلمانية مسبقة، والتي تمخضت عن هزيمة انتخابية ساحقة لتياره السياسي، وجعلته رهينة سياسية في قبضة اليمين المتطرف. وبعدها تفاقمت إخفاقات ماكرون في السياسة الداخلية، وازدادت انتكاسات نفوذ بلاده في السياسة الخارجية.
لم يكتف إيمانويل ماكرون في خطابه المتهور أمام سفراء بلاده في قصر الإليزيه يوم الاثنين 6 جانفي 2024 بالإساءة إلى الجزائر، ولكنه حاول إهانة القادة الأفارقة والتطاول على بلدانهم متهما إياهم بالجحود بنكران جميل فرنسا في إنقاذهم من الإرهاب وطلب منهم تقديم الشكر لفرنسا،قائلا: «القادة الأفارقة نسوا أن يقولوا شكرا، وأن لا أحد منهم يستطيع إدارة دولة ذات سيادة لو لم تنشر فرنسا جيشها». لم يتأخر رد القادة الأفارقة على السفاهة السياسية للرئيس الفرنسي، فقال رئيس الوزراء السنغالي، عثمان سونكو، بأن: «فرنسا لا تمتلك لا القدرة ولا الشرعية لضمان أمن إفريقيا وسيادتها» مضيفا أنه على العكس من مزاعم إيمانويل ماكرون بإنقاذ الدول الإفريقية من الإرهاب، فإن «فرنسا ساهمت في كثير من الأحيان في زعزعة استقرار بعض البلدان الأفريقية إلى حد أنها تسببت في تدهور أمن منطقة الساحل». وأكد عثمان سونكو: «أنه لولا مساهمة الجنود الأفارقة في الحرب العالمية الثانية في تحرير فرنسا من الاحتلال النازي لربّما كانت فرنسا اليوم لا تزال ألمانية» أما وزير الخارجية التشادي، عبد الرحمن كلام الله، فذكر من جهته، رئيس فرنسا بالدور الحاسم الذي قامت به إفريقيا في تحرير فرنسا خلال الحربين العالميين. ولكن فرنسا لم تقدم شكرها للأفارقة عن تضحيات جنودهم لتحريرها.
لقد أصبحت تصرفات الرئيس ماكرون، بعد سبع سنوات من حكمه، توحي بأنه يسير بفرنسا نحو الانهيار، فقبل سنوات معدودة كانت فرنسا تعتبر قوة عالمية كبيرة وقائدة القاطرة الأوروبية، وقتها، كان يقود فرنسا زعماء كبار، وسياسيون متمرسون، لكنها أصبحت في عهد ماكرون دولة مأزومة تتحول تدريجيا إلى رجل أوروبا المريض.