الافتتاحية

الحوار البنّاء ومستقبل الأمّة

أ.د. عبد المجيد بيرم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/

تمرّ الإنسانية في هذه الفترة بمرحلة فارقة من حيث تسارع الأحداث و تزايد التحديات و بروز نزعة الهيمنة التي عملت الدّول الاستعمارية على اخفائها بأقنعة من شعارات المجتمع الدولي ، والقانون الإنساني، وغيرها من الشعارات البرّاقة، حيث طفا على سطح الأحداث تضارب مصالح الدول المهيمنة، وتصارعها باستعمال كلّ الوسائل القذرة بصفاقة لا نظير لها، وأصبحت مجاراة الأحداث من الصعوبة بمكان، ولم يعدّ أي بلد في مأمن من تداعيات هذه الأحداث ،وبخاصة إذا نظرنا إلى المحيط الإقليمي والتطورات الدولية ، مما يستلزم تضافر الجهود وتسخير كل الإمكانات للحفاظ على المكتسبات وتأمين الأمن القومي و الفكري و الاجتماعي والاقتصادي …والسعي الحثيث لمعالجة المشكلات، وتوفير مناخ إيجابي يشعر فيه المواطن بأنّه معنيّ بالدفاع عن أمن وطنه بكل ما تحمله هذه الكلمة من أبعاد

مشروع ‘صفر مشاكل’
من الأهداف الطموحة في بعض مجالات الحياة، ما أُطلق عليها ‘صفر ورقة’ في المجال الإداري، والمقصود بذلك هو التحكم في الرقمنة، بحيث يستغنى عن الأوراق، أو ‘صفر أخطاء’ في بعض المشاريع الاقتصادية، وهو يهدف إلى تحقيق أعلى معايير الجودة، وَلْيكُنْ من أهدافنا ‘صفر مشاكل’ من أجل تحقيق مشروع وطني جامع؛ وذلك بمواجهة كل الاشكالات العالقة التي تشوش الرؤية وتضفي عليها ضبابية من شأنها أن تُخِلّ بميزان ترتيب الأولويات، وتعرض المكتسبات للتآكل أو الضياع.
وكل ذلك من أجل تمتين اللحمة الوطنية، وتحقيق ‘البنيان المرصوص’ الذي هو شرط لا مناص منه لمواجهة ضخامة التحديات، والثبات في وجهها، وحسن إدارتها.

الحوار الوطني الشامل
ولا يسعنا في هذا المقام إلّا أن ننوّه بالمبادرة التي أطلقها رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون من خلال الدّعوة إلى حوار وطني شامل وجامع يناقش كل القضايا ويفتح كلّ الملفات التي من شأنها أن تحدث شرخا في الجبهة الداخلية، ومعالجة الإشكالات لتقويتها، وسحب البساط من أيدي المغامرين والمتربصين في ظل هذه التحديات الإقليمية والتداعيات التي يمكن أن تؤدّي إليها.
ولا شك أن من شأن مثل هذه المبادرات أن تعزز الثقة وتبعث على التفاؤل وتقوي التماسك الاجتماعي، و ترسخ قيم العفو والانصاف والتسامح و العدل والإحسان، وهذه القيم هي عنوان ديننا الإسلامي الذي نعتز بالانتساب إليه، وهي أيضا مواقف و أخلاق سيّد الخلق عليه الصلاة والسلام، وقد كانت غرّة في جبين أيام تاريخنا الناصع، وثقافة سلوكية لأسلافنا متوارثة جيل عن جيل.
والحوار الوطني المجتمعي آلية لتحقيق التشاركية مع جميع الفاعلين الاجتماعيين لتحقيق الأهداف الكبرى، ويكون مع الموافق، كما يكون مع المخالف، فالقواسم الكلية والمشتركات الجامعة، فضاء يسع الجميع، ولا يضيق ذرعا بأحد، ومساحة التوافق أوسع من دائرة التباين، وهذا ما يستدعي الانخراط في هذا المسعى، والعمل على استيعاب كل الجزائريين واشراكهم في صنع مستقبل واعد ومشرق للجزائر، يحقق المنعة ويعود على مستقبل البلاد والأجيال بالخير والنفع.
وقديما قال الشاعر:
تأبى الرّماح إذا اجتمعن تكسرا  *** وإذا افترقن تكسرت آحادا
ورحم الله العلامة ابن باديس حينما وضع هذا الشعار عنوانا لمجلته: ‘الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شيء’، وجسّد هذا الشعار في حياته، وأعلن أنّه يعيش للإسلام والجزائر.

تطلعات مستقبلية
إنّ ماضينا القريب والبعيد مشرق بالمآثر والمحامد ومليء بالخبرات والتجارب، ويمثّل رصيداً ضخماً من الانجازات والذكريات والأوجاع، والاستفادة منه إنّما تكون باستخلاص الدروس والعبر، فنأخذ الإيجابيات ونثمنها ونبني عليها، ونتجاوز العوائق، ونتعلم من الأخطاء والسلبيات، ونتحاشى العثرات، فلا نُلدغ من الجحر مرتين.
إنّ كل محنة تنطوي على منحة، وإنّ الأحداث المتسارعة التي نمرّ بها أظهرت بما لا يدع مجالا للشّك أنّه لا مجال لتحقيق الحياة الكريمة إلّا بالالتفاف حول الثوابت، وتوطين النفس على العمل لرفعة هذا الوطن.
لقد نبّه ابن باديس في شرحه لحديث النبي عليه الصلاة والسلام: «مثل المؤمنين في توادّهم» على معنى عظيم، وهو ارتباط كل فرد بأمّته ارتباط الجزء بكلّه، وأنّ هذا الارتباط يقتضي أمورا كثيرة منها ما جاء في هذا الحديث، ومن ذلك أنّ الفرد منظور إليه في النظر الاجتماعي العام بما ينظر به إلى أمّته، سواء أساواها في المستوى الذي هو فيه من رقي أو انحطاط، أم كان أسمى منها، أو أدنى؛ فقيمة الرجل بقيمة قومه.
والأمل يحدونا بأن يكون ما نستقبله خيرا مما استدبرناه، فينبعث الأمل في النفوس، وتقوى العزائم وتصدق النيات، ونتطلع إلى مستقبل واعد للأجيال، إن نحن أدركنا رسالتنا وما تتطلّبه هذه المرحلة من يقظة ووعي ومسؤولية تاريخية، حينئذ يمكننا أن نواجه التحديات أيّا كان نوعها، ومصدرها، ولن يَفُتّ في عضدنا كل ما يجري من حولنا من التغيرات العالمية المتلاحقة، ومحاولات التشويه والتشويش والابتزاز والتيئيس.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com