قصة نجاح/أ.د محمد الأمين بلغيث… من قسوة اليُتم إلى قامة التاريخ والذاكرة الوطنية
نشأة متواضعة مهّدت لطموحات كبيرة

إعداد: عبد الغني بلاش/
وُلد الدكتور محمد الأمين بلغيث عام 1956 في منطقة أبو كماش، بولاية تبسة الجزائرية، في كنف عائلة جزائرية عريقة. ورغم أن أسرته كانت من بين العائلات المعروفة في المنطقة، إلا أن الاستعمار الفرنسي ترك بصماته القاسية على حياتهم. في سن مبكرة، فقد والده الشهيد الذي كان أحد رموز النضال الجزائري، ليعيش طفولة مليئة بالتحديات والصعوبات، لكن بدلاً من الاستسلام، وجد في تلك الظروف الدافع لبناء مستقبله.
كانت والدته مصدر إلهامه الأول، فقد أولته اهتماماً خاصاً رغم الظروف الصعبة. آمنت بقدراته ورؤيته منذ طفولته، وكما كان يروي بلغيث: «كانت والدتي ترى فيّ مشروع عالم، وكانت دائماً تشجعني على التعلم وتضحي بكل ما لديها من أجلي.»
بدايات أكاديمية مميزة
في سنواته الدراسية الأولى، برزت موهبة محمد الأمين في الحفظ والاستيعاب. التحق بمدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، حيث تلقى تعليماً يجمع بين اللغة العربية والفرنسية. تفوقه في المدرسة الابتدائية، رغم الظروف الاجتماعية الصعبة، مكّنه من الانتقال إلى مدينة سكيكدة، حيث أكمل تعليمه المتوسط والثانوي، ليحصل على شهادة البكالوريا بتفوق رغم التحديات المادية والمعنوية.
الجامعة: بداية الحلم الأكاديمي
التحق بلغيث بجامعة الجزائر لدراسة التاريخ، ورغم أنه لم يكن اختياره الأول، إلا أن العناية الإلهية كانت تُوجّه مساره. برع في المواد التاريخية ووجد نفسه متميزاً بين أقرانه بفضل ذاكرته القوية وشغفه بالبحث. خلال سنوات الدراسة الجامعية، كان محمد الأمين يُظهر روح المثابرة والطموح، فكانت المكتبة الجامعية ملاذه المفضل، حيث قضى ساعات طويلة يبحث ويقرأ في التاريخ الإسلامي والجزائري.
منحة الدراسات العليا.. بوابة العالمية
في بداية الثمانينيات، حصل بلغيث على منحة لإكمال دراساته العليا، فكانت أولى محطاته القاهرة، حيث درس التاريخ في جامعة الأزهر. بعد فترة من الدراسة في مصر، حصل على فرصة للدراسة في جامعة السوربون بفرنسا، حيث تعمق في دراسة تاريخ المغرب الإسلامي والأندلس، واطّلع على المخطوطات النادرة في المكتبات الفرنسية.
رغم التحديات الثقافية والاجتماعية التي واجهها في فرنسا، استطاع محمد الأمين أن يثبت كفاءته، حيث أعد أطروحة الدكتوراه التي استغرقت 13 عاماً من البحث والتنقل بين مكتبات العالم. جمع في هذه الأطروحة وثائق نادرة ومخطوطات قيّمة، ما جعلها مرجعاً لا غنى عنه للباحثين في التاريخ.
الإنتاج الفكري.. موسوعة التاريخ الجزائري
بعد حصوله على الدكتوراه، بدأ بلغيث مسيرته كأستاذ وباحث في جامعة الجزائر. وخلال أربعة عقود من العمل الأكاديمي، أثرى المكتبة الجزائرية والعربية بـ 23 كتاباً تناولت مواضيع متنوعة في التاريخ الجزائري، من المقاومة الشعبية إلى الحركة الوطنية والثورة التحريرية.
تميزت أعماله بالدقة البحثية والعمق التحليلي، حيث لم يكتفِ بسرد الوقائع، بل سعى لتفسير الأحداث في سياقاتها التاريخية. ومن أبرز مؤلفاته: «الحياة العلمية في الأندلس»، «الرباط والمرابطون: دورهم في المغرب الإسلامي»، «فرنسا: مغول القرن العشرين».
رسالة وفكر.. مقاومة الاستعمار فكرياً
كان للدكتور محمد الأمين بلغيث موقفاً صريحاً من الاستعمار الفرنسي، حيث وصفه في كتبه ومقالاته بأنه «مغول العصر الحديث». وكرّس جزءاً كبيراً من حياته المهنية لكشف الجرائم التي ارتكبها الاستعمار في الجزائر وفي مستعمراته الأخرى بأفريقيا.
التدريس.. أستاذ يصنع الأجيال
لم يكن الدكتور بلغيث مجرد باحث أو مؤرخ، بل كان أيضاً أستاذاً ملهماً لأجيال من الطلاب. قضى أكثر من 37 عاماً في تدريس التاريخ في جامعة الجزائر، حيث درّس مواد متنوعة مثل تاريخ الأندلس، الحضارة الإسلامية، والسيرة النبوية. كان معروفاً بحرصه على تطوير مهارات طلابه وتشجيعهم على البحث والابتكار، ما جعله محبوباً بين زملائه وطلابه.
إرث خالد ورسالة مستمرة..
اليوم، يُعتبر الدكتور محمد الأمين بلغيث رمزاً للإبداع الأكاديمي في الجزائر. مسيرته تُلهم الأجيال الجديدة بأن النجاح ليس مجرد تحقيق الأهداف، بل هو التغلب على التحديات وتحويل المحن إلى منح.
قصته ليست فقط عن رجل تفوق في مجاله، بل عن إرادة صلبة وشغف بالعلم والمعرفة. وكما يقول دائماً: «التاريخ ليس مجرد أحداث، بل هو مرآة تعكس هوية الأمة وذاكرتها.»
بهذه الروح، يواصل الدكتور بلغيث كتابة التاريخ وتدريسه، مُخلداً اسمه في ذاكرة الجزائر كواحد من أعلامها الكبار.