من تراثنا

العبرة في تعاقب الأعوام في نظر المفتي المولود بن الموهوب

أ.د. مولود عويمر/

يصدر هذا العدد من جريدة «البصائر»، والعالم يودِّع العام 2024 الذي كان صعبا جدا على الشعوب الحرة بخاصة أهل غزة الصامدين الصابرين الذين تعرضوا خلالها لكل أشكال الإبادة من طرف العدو الصهيوني وحلفائه، ويستقبل الناس عاما جديدا 2025 نأمل أن يحمل معه خيرا كثيرا للمسلمين وللبشرية، ويشهد فيه المظلومون في كل مكان نصرا مبينا.

وإذا كان التاجر الحاذق، يقف وقفة مراجعة لرصد حصيلة السنة التي مرت، وحساب الأرباح التي حصدها خلالها أو الخسائر التي مني بها، ويرسم خطة مناسبة لمواجهة تحديات السنة التي أقدمت بأيامها، فإن العالِم البصير يقيّم أيضا بهدوء أعماله التي أنجزها خلال أيامه الماضية فيقوّم النقائص ويصححها، ويثمّن المكاسب التي حققها فيستثمرها في المستقبل. ونضرب هنا مثلا المفتي المولود بن الموهوب (1866-1939) الذي ودع عام 1909، واستقبل عام 1910 بهذه الخواطر التي نذكرها لاحقا.
لقد نشر الشيخ المولود بن الموهوب مفتي المالكية بقسنطينة، مقالا في جريدة «كوكب إفريقيا» (العدد 140، 7 جانفي 1910) لصاحبها الشيخ محمود بن دالي كحول (1870-1936). وقد كتبه بمناسبة دخول هذا العام الجديد لأنه أراد أن يغتنم الفرصة لطرح فكرة الاستفادة من الأيام السابقة، والعمل الصالح على المستوى الفردي والجماعي في الأيام اللاحقة.
حاول الشيخ ابن الموهوب أن يستخلص العبر ليس من ذات العام وأحداثه السياسية والتاريخية المعروفة كما نجد ذلك عند عدد من العلماء والمفكرين العرب أو الغربيين، وإنما اختار أن تكون تأملاته مجردة من الأمثلة اليومية المتصلة بعام محدد ليركّز على الفكرة الكبرى التي طرحها في مقاله، وهي تحديد المنهج الأسلم لتحصيل الفائدة والمنفعة من الحياة وأداء رسالة الاستخلاف التي أمر بها الله سبحانه وتعالى الإنسان، وكلفه بعمارة الأرض على أحسن وجه. غير أن المجتمعات العربية والإسلامية كانت تعيش في تخلف منذ فترة طويلة في جميع جوانب الحياة. وهذا ما يطرح السؤال التالي على العلماء والمفكرين: أين الخلل؟
ولقد بادر عدد منهم للإجابة عن هذا السؤال. فبالنسبة للشيخ ابن الموهوب الإجابة تتمثل في تحصيل التربية التي تصقل الفرد على الهمة والإقدام حتى ينتفع بكل يوم من عمره ويفيد جنسه ووطنه بما يقدمه من أعمال بناءة. وهذه التربية السليمة تنطلق أساسا من البيت حيث تشرف عليها العائلة منذ فترة مبكرة من عمر الطفل، وتعوّده على التمسك بمكارم الأخلاق، وتزرع فيه قيم الفعالية والجدية، فيتعوّد الانسان على إنجاز واجباته في المجتمع بإتقانٍ وتفانٍ، ويأخذ حقوقه بانضباط واستحقاق. وتوصيه بالمراجعة المستمرة لأعماله وإصلاح الأخطاء التي وقع فيها لمواصلة السير قدما في الطريق الصحيح.
ولمح الشيخ ابن الموهوب إلى أن الدين الاسلامي يزخر بنصوص شرعية كثيرة كالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحث على تربية النشء تربية حسنة، وتدعو إلى الاستفادة من فترة الشباب لطلب العلم والاجتهاد في العمل والسعي في طلب الرزق الحلال وغيرها من الأعمال الصالحة التي تعود بالمصلحة للفرد والخير للمجتمع. كما نبّهت إلى أن الحياة هي نتاج تعاقب الليل والنهار، وحصيلة التداول بين الأيام، وحصاد التدافع بين الناس، فحركة التاريخ لا تتوقف أبدا عن السير، ومن حاول توقيفها فشل وانهزم في المعركة، وتخلف عن الركب الحضاري.
وإذا اكتفى الشيخ ابن الموهوب بمجموعة من الأبيات الشعرية والتلميح إلى تلك النصوص دون أن يستشهد بها، فإني أشير هنا إلى آية واحدة، وحديث نبوي شريف في الحث على استلهام العبر من تعاقب الأيام والأعوام والاستفادة من منح الحياة قبل الأوان، فقد جاء ذلك البيان في سورة آل عمران، من الآية 140: «وتلك الأيام نداولها بين الناس…»؛ وفي الحديث الشريف المعروف: «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك».
وإليك الآن أيها القارئ هذا النص الطريف المغمور الذي تعاقبت عليه السنون داخل أوراق جريدة قديمة أهملها القراء والباحثون رغم الكنوز الثقافية التي تحتويها أعدادها الصادرة بين 1907 و1914.
*** *** ***
«ودعتنا سنة 1909 بما فيها من خيرات وشرور، وأدبرت علينا أدبار أيامها ولياليها، وعلمنا من تقلص ظلها وانقضاء شهورها أن الأيام والليالي سدوم لا تدوم ولا تأثير لها في نفوس الأفراد والأمم إلا بمقدار ما يتوسع به في مضمار الحياة الدنيا ويترقى به في میدان العمران من المنافع والفوائد. ولهذا اهتم العارفون بمنزلة هذه الحياة وقيمة ما يترتب على بذل الهمم في مشروعاتها وصرف الجهد في تحقيق أكوانها وأطوارها.
أي لذة للحياة وأية قيمة لأوقاتها إذا مرت سنوها وشهورها وأيامها وساعاتها ودقائقها وثوانيها مر السحاب وهبت هبوب الرياح على هيئة لم يسع الفرد منها عن وجدان وشعور لإيجاد منفعة يجرها لذاته أو يجلبها لبني وطنه مدى أعوامها وظروفها فيبيت لا هم له إلا الإكتنان في خالفة الخمول كأن الدهر أخفى عليه بكلاكله وأمسك بتلابيبه عن الوقوف في هذا المعترك الحيوي وحال بينه كما حيل بين العير والنزوان.
من لنا بعاقل يفحص عن أمراضنا ويبحث عن الأسباب التي تأصلت بنفوسنا وأصبحنا نتلاعب بالأيام والليالي تلاعب الصبيان بالصولجان. وتلك الأيام تغالطنا وتعبث بعقولنا القصيرة وتهزأ به بمقدار أفكارنا التي لم تقدر للأيام قدرها ولم تستعد بالتدبير والتبصر والحنكة لمقاومة تيار طوارقها ومساجلة صروف آلامها فإذا باغتنا من الملمات مفاجئ عجزنا عن مقارعته وطأطأنا الرؤوس أمام حوادثه.
إذا بحث الباحثون وأطال المفتشون في علل هيئتنا وأمراضها وقارنوا بيننا وبين سوانا من الأقوام الذين عرفوا مقام هذه الحياة وبالغوا في الاحتياط لصروفها وكوارثها وقفوا على النقطة المركزية التي بنيت عليها الدعائم وشيدت على أساطينها الهياكل ألا وهي التربية العائلية.
يصل بحثهم ويقف دولاب تنقيبهم على أن العائلة المتقدمة بالغت في الاهتمام بتربية أولادها واتقان تهذيبهم منذ سن الفطام وأدواره وثابرت على صقل أذهانهم وتوشيتها بالكمالات وإضاءة مشكاة عقولهم حتى إذا خانتهم الوسائل في القليل ولم يكن النجاح حليفه في حلبات العلوم العقلية وجدوا له من مكاتب الصنائع ومدارس الحرف ما يضمن له سلامة حياته ويكفل له زهرة شبابه وألا يكون كلاً على ذويه ولا يذهب صباه في مراتع التذبذب والإهمال.
بهذا كانت تقام لمرور السنين وتعاقب الأعوام الأفراح والمراسم عند هؤلاء الأقوام، وكلما مر عليهم حول من أحوالها عدوه ميقاتا من مواقيت السعادة، وموسما من مواسم الحضارة والعمران، وشوطا من أشواط المرابح والمكاسب يقارنون فيه بينهما، فإن رأوا الفوز ثابروا على المسلك المرضي وانتحلوا من الدواعي ما يتسع به مجال أعمالهم وترقي شؤونهم، وإن بدت لهم بوارق الاختلال أسرعوا لتلافي الخلل، وبادروا لبتر علة الفساد التي تخللت أعمالهم بصايب الفكر والتدبير وطرق الاقتصاد والتوفير.
أما غير العائلة الأولى فعلى عكس ما ذكر توانت في تربية أفلاذ كبدها وهم أبناء المستقبل فترى الولد منها إذا ما بلغ دور الفطام كان لدى أوليائه بمثابة أضحوكة في المنزل يتضاحكون به، وألعوبة يتلاعبون بأحاديثه يتمازحون بما تلقنه من الوالدين إن خيرا فخير وقليل ما هو، وإن شرا فشر وكثير ما هو، فإذا انطوى دور فطامه وفاجأه طور الترعرع – ألقى حبله على غاربه تائها في فطاح اللعب وتحصيل فاسد الأخلاق وتثقيف الذهن بضروب الشتائم والسباب فيشيب لا حياء يردعه، ولا أدب يصده.
وأخلاق الصغير كما لا یخفى تظهر فيه منذ بدأ نشأته فلا يسترها بروية ولا فكر كما يفعله الرجل التام الذي انتهى في نشئه وكماله إلى حيث يعرف من نفسه ما يستقبح منه فيخفيه بضروب من الحيل والأفعال المضادة لما في طبعه فيتهاون بشرب الدخان حتى أمام والديه ويترقى إلى اکتراع الكأس وامتشاق الطاس ويردفه بتوابعه.
وهناك خراب العائلة واضمحلالها من وراء هذه الأميال التي جلبها له التغاضي وساعده على ارتكابها الأغضاء وعدم العناية بالتأديب والتقويم حتى نشأ كل طفل على سوء طباعه التي أضرت ضررها البين وتلاشى بسببها الكثير من العائلات.
هذه أهم نقطة يراها الباحثون من العوائق التي وفق بها ساعدنا عن اکتساب خصال الجد والكمال وتوانى عن تعاطي مهمات الأعمال وبها نفسها آل أمر معظم أحداثنا إلى الشرادة والفلت والانصباغ بصبغة مغضوب عليها مع ضميمة تقاعس همة أوليائهم وفشل عزيمتهم في هذا السبيل الذي لم يثمر إلا شر الأحوال.
إذا عرفنا هذا وشعر به شعورنا تيقنا ولا محالة من جهة مقدار اعتبار القسم الأول لمرور سني الدهر وأعوامه لأنهم صرفوها في وجوهها واعتبروا مقامها في هذه الحياة، وعلمنا من الأخرى سبب إهمال القسم الثاني لمرور الأزمان والأوقات وتغاضيه عن انقضائها بدون اعتبار وتدبر، وفي شريعته ما يدعوه بتدقيق لمحاسبة أنفاسه وأطواره وأدواره، ولنا في هذا المقام من قصيدة أخلاقية.
ألا يا دهر يكفي ما بلينـا *** به من نشر ذي الأمراض فينا
أليس اليسر يأتي بعد عسر *** فهل كان الشقاء لنا قرينا
نعم إنا شفينا إذ سقينا *** كؤوس الجهل لكن ما روينا
ينادينا الكتاب لكل خير *** فهل كنا لذلك سامعينا
يقول لنا النصوح ألا استفيدوا *** فجرنا واتخذنا الضد دينا
ولو أنا استفدنا ما فسدنا *** فسادا سر جمع الشامتينا
ولو أنا سعينا ما سعينا *** لفقر في فقار الجهل هونا
لا یا قوم ما «الإسلام» هذا ***ودين الله رب العالمينا».

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com