مساهمات

“اللغة العادلة” في القرآن الكريم وخطاب المؤنّث

د. سعيدة درويش/

يُعدّ تأثير اللغة في الأدوار الاجتماعية وتأثرها بها، موضوعًا مهمًا يعكس العلاقة بين اللغة والثقافة؛ حيث تكون اللغة وسيلة للتعبير عن القيم والمعايير الاجتماعية. وفي مجال النّضال النّسوي العالمي والعربي، اعتبَرت “النّسويات” اللغةَ متحيِّزةً للذكورة، ومعزّزةً للأدوار الجندرية.
وقد طرحت النّسويات العربيات موضوع الجنس النحوي (المذكر والمؤنث)؛ باعتبار تمييز اللغة العربية الواضح بين المذكر والمؤنث في قواعدها النحوية، فغالبًا ما يُعتبر المذكر هو “الصيغة الافتراضية” في اللغة، فمخاطبة مجموعة من الرجال والنساء، تنحاز للضمير “هم”، بينما لا يتم استخدام المؤنّث إلا في الحالات التي تشير حصريا إلى المرأة، وهذا –حسب رأيهنّ- يؤسّس لمركزية المذكر.
ولقد عمّق فكرة النّسويات عن التحيّز اللغوي، كون الألقاب والتعريفات الاجتماعية، تجعل من النّساء تابعات للأزواج أو الأبناء، فقلّما يُلتَفَت لإنجازاتهن الفردية؛ ممّا يربط هوية المرأة بالرجل أو بالأسرة، فتبلورت في الطرح النّسوي العربي، مقاربات لإعادة النّظر في استخدام اللغة، وتعزيز المساواة بين الجنسين في مواضع لغوية، منها:
– استخدام صيغة “هو/هي” أو صيغة الجمع المحايدة.
– الإصرار على كتابة المؤنث في الوثائق الرسمية، وإعادة تأطير اللغة وصياغة، مصطلحات أكثر شمولية مثل “المواطنون/المواطنات”، ومصطلحات تعكس أدوارًا متساوية مثل “القائدة” بدلًا من “المرأة القائدة”.
– اعتماد لغة رقمية شاملة كأداة لتغيير التصورات الثقافية، في وسائل التواصل الاجتماعي وإعلاميا، وطرح عبارات تُظهر النساء في أدوار قيادية وغير تقليدية، وأكثر انفتاحا.
أما في القرآن الكريم، فقد جاء خطاب المؤنث بـ”لغة عادلة” تقرّ له بحق الوجود، من دون ذوبان في المذكر، فالعلاقة بين اللغة العربية وأدوار النّساء فيه، تقدّم رؤية متوازنة بين استخدام اللغة و قضايا المؤنث.
وقد جرى مبدئيا، استخدام خطاب “يا أيها الناس” في نصوص كثيرة من القرآن الكريم للجنسين معًا، بصيغة جامعة وشاملة؛ الأمر الذي يعكس غياب التحيّز الجنسي، والاعتبار الكامل لكينونة المرأة وأهليتها.
وقد تجلّى ذلك من خلال مجموعة من الآيات، أهمّها:
1 – آية الخلق والتكريم: إبراز الأصل الواحد في الخلق، وأن التكريم الإلهي لا يرتكز على على الجنس، فقد جاء في الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات: 13].
2- آية التساوي في التكليف الأخلاقي والشرعي والمصير: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ…}[الأحزاب: 35]، فهذه الآية أنموذج صريح للتماثل بين الجنسين في الأخلاق والعمل الصالح والجزاء، ففصل المذكر عن المؤنث، يُعَد تأكيدًا على أهمية التكليف الشخصي والفردي لكل طرف واستقلاليته.
3- آية الاستخلاف والولاية المتبادلة: يقول تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ…} [التوبة: 71]، تشير الآية إلى أن الرجال والنساء يتشاركون أدوارًا اجتماعية وروحية، تحقّق مبدأ الخلافة على الأرض، ويتبادلون الولاية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4- مواجهة الأدوار النمطية وتغييرها: رفض التصوُّرات والممارسات النمطية المجحفة في حق المرأة، كعادة وأد البنات، فجاءت الآية: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ}[التكوير: 9-8]، وجاءت مواجهة كلٍّ مِن تصور: “الأنثى عار”، وسلوك: “الوأد” النّمطيين صارمة، بإعادة الحياة للمؤنّث، والتأكيد على قيمته منذ الولادة.
5- تكريم المرأة كفرد مستقل: يُبرز الله –عز وجل- من خلال قصة السيدة مريم في القرآن الكريم، دورها كأمٍّ لعيسى عليهما السلام، لكنه يكرِّمها أيضًا كشخص صالح اصطُفِي، ومثال يُحتذى {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ}[آل عمران: 42].
6- وحدة المعايير في الجزاء والحساب: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً..}[النحل: 97]، فهذا النص يعكس وحدة المعايير الإلهية في الحساب والجزاء، فلم تتوقف الآية عند الاسم الموصول “مَن”، بل تمّ التأكيد على الجنسين منفصلين.
وعليه، فالقرآن الكريم يُقدّم أنموذجًا لغويا متوازنًا في معاملة المذكر والمؤنّث، فلغته شمولية عادلة في تناول القضايا، وهي أداة تكرّس مبدأ إنصاف النساء وتكريمهن.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com