ازدواجية المعايير الغربية: بين الإبادة في غزة والانتصار السوري

د. بدران بن الحسن */
تواطؤ وانتقائية
منذ عقود، وغزة تعيش مأساة مستمرة تتجدد مع كل عدوان إسرائيلي على القطاع المحاصر. ومعركة “طوفان الأقصى” التي بدأت في أكتوبر 2023، لم تكن استثناءً، حيث شهد العالم مشاهد غير مسبوقة من العنف والدمار الذي طال المدنيين الأبرياء. هذه المأساة، التي تمثلت في القصف العشوائي، تدمير الأحياء السكنية، واستهداف المستشفيات والمدارس، كشفت مجددًا عن ازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع حقوق الإنسان والقوانين الدولية.
وبدلاً من اتخاذ مواقف حازمة ضد الجرائم الواضحة التي ترتكبها إسرائيل، تواصل القوى الغربية دعمها غير المشروط لها، سواء من خلال توفير الأسلحة المتطورة أو الدعم الاقتصادي والسياسي. هذا الدعم لا يُقدم فقط في سياق تحالف استراتيجي طويل الأمد، بل يتم تبريره بخطاب سياسي مضلل يركز على “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، في حين يتم تجاهل السياق الحقيقي المتمثل في الاحتلال والاستيطان وسياسات الفصل العنصري.
على الجانب الآخر، كان الشعب السوري يعيش ملحمة تاريخية ضد نظام استبدادي قمعي يقوده بشار الأسد. ورغم الجرائم الفظيعة التي ارتكبها هذا النظام بحق شعبه – من قصف بالكيماوي إلى التهجير القسري – اكتفى الغرب بإطلاق تصريحات إدانة غير فعّالة. بل إن المجتمع الدولي كان في كثير من الأحيان عائقاً أمام أي تحول جذري لصالح الشعب السوري، حيث تغاضى عن التدخل الروسي والإيراني الذي ساعد النظام على البقاء.
المفارقة هنا أن الغرب، الذي دعم الحراك الشعبي في بعض الدول العربية تحت شعار “الربيع العربي”، كان انتقائياً في موقفه من الثورة السورية. فالاعتبارات الجيوسياسية والمصالح الاستراتيجية كانت تتحكم في صياغة المواقف، مما جعل السوريين يشعرون بخذلان دولي مزدوج: أولاً من النظام الذي قمعهم، وثانياً من القوى التي تزعم دعم حقوق الإنسان لكنها تركتهم فريسة لمصير مأساوي.
أسباب ازدواجية المعايير
المصالح الجيوسياسية والاستراتيجية
تتحكم في سياسات القوى الغربية تجاه الشرق الأوسط (العالم العربي) مصالحها الاستراتيجية. فالقضية الفلسطينية، على سبيل المثال، تُرى من خلال منظور التحالف مع إسرائيل كحليف أساسي في المنطقة. هذا التحالف يخدم المصالح الغربية، مثل تأمين مصادر الطاقة، وحماية خطوط الملاحة، واحتواء النفوذ الإيراني.
أما في سوريا، فيتجنب الغرب الدخول في مواجهة مباشرة مع قوى كبرى مثل روسيا وإيران، إذ إن أي تصعيد في الأزمة السورية قد يؤدي إلى صدام عالمي يضر بالمصالح الغربية. وبالتالي، تتبنى هذه القوى سياسات متوازنة تتجنب التدخل المباشر، حتى لو كان ذلك على حساب معاناة الشعب السوري.
الاعتبارات الاقتصادية
يمثل دعم إسرائيل اقتصاديًا وسياسيًا جزءًا من علاقة مربحة للقوى الغربية. فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، هي المورد الأساسي للأسلحة لإسرائيل، مما يجعل استمرار النزاع مصلحة اقتصادية لشركات السلاح الأمريكية.
أما في سوريا، فتتأثر المواقف الغربية بوجود مصالح متعلقة بمناطق إنتاج الطاقة وخطوط أنابيب الغاز والنفط. لذلك، تُعامل الأزمة السورية ببراغماتية تهدف إلى حماية هذه المصالح بدلًا من التركيز على العدالة الإنسانية.
التأثير الأيديولوجي والثقافي
تُعتبر ازدواجية المعايير جزءًا من أيديولوجيا غربية ترى القضايا الإنسانية في الدول غير الغربية – خاصة الإسلامية – على أنها أقل أهمية. يعاني الفلسطينيون والسوريون من تصوير إعلامي وسياسي غربي ينزع عنهم صفة “الإنسانية الكاملة”، مما يجعل التعاطف معهم أقل مقارنة بشعوب أخرى.
كما ترى بعض القوى الغربية نفسها وصية على “القيم الإنسانية”، لكنها تتبنى نظرة استعلائية ترى شعوب الشرق الأوسط كطرف غير قادر على إدارة أموره بشكل ديمقراطي أو حضاري، مما يبرر لها دعم أنظمة قمعية أو تجاهل مآسي الشعوب.
دور اللوبيات وجماعات الضغط
يعتبر اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة وأوروبا أحد أكبر المؤثرين على السياسات الخارجية لهذه الدول. إذ يستخدم اللوبي قوته السياسية والإعلامية لضمان دعم غير مشروط لإسرائيل، وتبرير جرائمها في غزة، مما يساهم في تشكيل السياسات الغربية المنحازة بشكل واضح.
بالإضافة إلى اللوبي الصهيوني، هناك شركات متعددة الجنسيات تستفيد من استمرار النزاعات، سواء من خلال تجارة الأسلحة أو مشاريع إعادة الإعمار. هذه الشركات تضغط على الحكومات الغربية لاتخاذ مواقف تخدم استمرار مصالحها التجارية.
الإعلام وتشكيل الرأي العام
تمتلك القوى الغربية وسائل إعلام ضخمة تساهم في تشكيل صورة محددة عن الصراعات في الشرق الأوسط. حيث يتم التركيز على روايات تخدم السياسات الغربية، وتُعرض الجرائم في غزة كممارسات دفاعية، بينما يُهمش صوت الفلسطينيين. وفي سوريا، يتم تصوير الشعب كمجموعة من الفصائل المتنازعة بدلًا من التركيز على القضية الإنسانية الكبرى.
كما أن الإعلام الغربي يُعيد صياغة الأحداث بطريقة تجعل الجرائم ضد الإنسانية تبدو أقل حدة، بينما يتم تسليط الضوء بشكل مكثف على قضايا أخرى تخدم الأجندة الغربية، مما يساهم في بناء رواية غير متوازنة لدى الرأي العام العالمي.
غياب الردع الدولي
هناك شلل شبه كلي للمنظمات الدولية؛ ويعود ضعف دور الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان جزئيًا إلى الهيمنة الغربية داخل هذه المنظمات. فالدول الكبرى تستخدم الفيتو أو الأدوات السياسية لتفادي أي عقوبات تُفرض على إسرائيل أو الدول التي تدعمها.
ولهذا نرى الازدواجية في تطبيق القانون الدولي؛ حيث يتم تطبيق القانون الدولي بشكل انتقائي. فبينما تُفرض عقوبات صارمة على دول أو قادة يناوئون المصالح الغربية، يتم تجاهل جرائم حلفاء الغرب، مثل الجرائم الإسرائيلية في غزة أو استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا من قبل النظام أو حلفائه.
تجزئة القضايا العربية والإسلامية
يمثل ضعف الموقف العربي والإسلامي علامة بارزة في أسباب ازدواجية معايير القوى الغربية. ففشل الدول العربية والإسلامية في تقديم جبهة موحدة لدعم القضايا الإنسانية في فلسطين وسوريا يؤدي إلى ترك المجال مفتوحًا أمام القوى الغربية لتطبيق ازدواجية معاييرها.
كما ساهمت بعض الدول العربية، من خلال اتفاقيات التطبيع، في إضعاف الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية، مما أعطى القوى الغربية ذريعة لتجاهل الإبادة في غزة.
خاتمة
ما نختم به القول هو أن ازدواجية المعايير الغربية ليست مجرد ظاهرة عابرة، وليست مجرد مسألة أخلاقية، بل هي تحدٍ كبير أمام تحقيق العدالة للشعوب المظلومة، بل هي نتيجة لتشابك معقد بين المصالح السياسية والاقتصادية والأيديولوجية. هذه الازدواجية لا تؤدي فقط إلى تفاقم المعاناة الإنسانية، بل تسهم أيضًا في زعزعة استقرار المنطقة وتعميق مشاعر الغضب وعدم الثقة تجاه الغرب.
ومواجهة هذه الظاهرة تتطلب تحركًا عربيًا وإسلاميًا موحدًا يرتكز على خطاب قوي ومبادرات عملية، تكشف زيف الشعارات الغربية وتدعم النضال من أجل حقوق الشعوب المظلومة.
كما أن الأمل يظل قائماً في وعي الشعوب وقوتها على الاستمرار في النضال من أجل حريتها وكرامتها، رغم كل العقبات.
* مركز ابن خلدون، جامعة قطر