كلمات في توديع العام: دور الأمّة في الفعل الحضاري (1)

أ.د. عبد المجيد بيرم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
لم تبق إلا أيّام معدودات ويغادرنا هذا العام من التّقويم الشمسي حاملا معه سجلا مثقلا بالأحداث والآلام والمعاناة والدّعوات والأعمال. سنة عنوانها الأبرز أن حقوق الإنسان ليست أمرا متفقا عليه كما يُزْعَم، وأن القانون الدّولي وهم صدّقَهُ الكثيرون . لقد قدّمت لنا غزة درسا مكثفا قاسٍيا، عرّت فيه النّظام الدولي العنصري الانتقائي، وعرّت فيه ضعفنا و هواننا، درسا مفاده: أنّ الحقّ لا بدّ له من قوّة تسنده، وأن المسلمين لا خيار لهم إلّا أن يأخذوا بأسبابها، أو يتعايشوا مع هذا العجز المخزي والتّهرب من تسمية الواقع كما هو.
أهميّة الزّمن في الفعل الحضاري
وأحد أهم مفاتيح النّهوض: الوقت، فالزّمن هو رأس المال الحقيقي للشّعوب والأمم لتثبت وجودها في التاريخ، وهذا يتوقف على تحقيق شرائط؛ منها وجود الفكرة وتحديد الأهداف ووضع الخطط، ومراعاة سنن الله في الأنفس والآفاق.
ففي كتاب الله عزّ وجلّ آيات كثيرة تبرز قيمة الزّمن في حياة الأفراد والأقوام، ويكفي أنّ بعض سور القرآن سميت باسم زمن وأخرى أقسم الله فيها بالزّمن؛ منها سورة الفجر والليل وسورة العصر وسورة الدهر والتي تسمّى أيضا سورة الإنسان، فضلا عمّا في كثير من الآيات من حديث عن تعاقب اللّيل والنّهار، وعن سنن الله في التّمكين وفي الابتلاء كقوله تعالى: «الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا»[الملك/2]، وغير ذلك من الآيات. وفي هدي نبينا عليه الصلاة والسلام تنبيهات على أهمّية الوقت في حياة المسلم صاحب الوظيفة الرسالية، وحسبنا قوله صلى الله عليه وسلم في بيان ما يسأل عنه العبد يوم القيامة : «وعن عمره فيما أفناه» [رواه الترمذي].
وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنموذج عملي تفصيلي للأمّة إن أرادت أن تحقق فعلا حضاريا يعلي القيم التي جاء بها الإسلام، وفي مقدّمتها العدل الذي يعمّ كلّ البشر.
والزّمن على رأي الأستاذ مالك بن نبي – رحمه الله- نهر قديم يَعْبر العالم لا تتوقّف مياهه عن الجريان وتتوزع جداوله في كل زاوية وناحية من الأرض، وحظ الأمم والشعوب من الزّمن واحد لا يختلف، وإنّما الذي يفرّق بينهم هو الإرادة والحركة والقدرة على تحويل هذا الوعاء الزّمني إلى إنجاز فعلي، وعندئذ تبرز قيمته ومكانته.
فالشعوب التي تدرك أنّ قيمة الوقت أغلى من كل شيء، وأنّه لا يمكن شراؤه ولا بيعه أو تأجيره أو استعارته أو مضاعفته أو تصنيعه، هي التي تفرض وجودها وتُسمع كلمتها، وقديما قال الشاعر:
والوقت أَنْفَسُ ما عُنيت بحفظه *** وأراه أسهل ما عليك يَضيع.
محطة للمراجعة والتقويم
درج الناس أفرادا ومؤسسات على جعل نهاية السّنة محطة للمراجعة والتقييم لمعرفة ما تمّ إنجازه وتحقيقه طيلة شهور العام ورصد الإخفاقات والنّقائص لتفاديها في مستقبل الأيام واتّخاذ الأسباب لتصحيحها، فتتراكم الخبرات وتنفتح الآفاق، وتتوسع تجارة التاجر وينمو رأس ماله وتقوى أسس مؤسسات وتثبت، واذا كان هذا شأن التّجار فان الأمر آكد اذا تعلق بالشأن العام للأمّة، فإنّ المراجعة والتقييم والنقد الذاتي شروط ضرورية لرصد الأولويات ورسم الخطط وتحديد زمن الإنجاز، خاصة في ظلّ الظّروف الإقليمية والدولية المعّقدة القائمة على المصالح وعلى الصراع على النفوذ، فالواجب والحال هذه التشمير والأخذ بالأسباب وتوطين النفس على الإجتهاد ومسابقة الزّمن للحؤول دون محاولات التّمدد والاحتواء التّي تمارسها القوى المتنافسة من خلال بلورة مشروع وطني يتجاوز الأنانيات والأفراد .
إن اجتماع الهمّة على هدف عظيم و نبيل يؤدّي بالضرورة لاجتماع الكلمة ووحدة الأمّة ويبعد عنها خطرالتفكّك والتشظي، ويجنّب بلدنا أن يكون مرتعا للأطماع والمصالح، فنحافظ على استقلالية الوطن ووحدته.
وإنّ نبل المقاصد مقدمة لنبل الأفعال وإنّ الجميع مع موعد ليوم: «تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تودّ لو أنّ بينها وبينه أمدا بعيدا». (آل عمران/30) .