مظاهرات 11 ديسمبر ومافيها من العبر، لكل شعب يريد أن يتحرر

أ. محمد مكركب/
تعود إلينا الذكرى الرابعةُ والستُّون، لمظاهرات11 ديسمبر 1960م الصارخة في جنبات التاريخ، يوم أن خرج الشعب الجزائري ليقول للجيش الفرنسي المحتل: إننا الشعب الجزائري، نريد الحرية والاستقلال، والجزائر جزائرية عربية مسلمة، وليقول الشعب الجزائري، من خلال تلك المظاهرات، لكل طاغ، ومعتد، ولكل من يفكر أن يتطاول على سيادة الجزائر: فإن الشعب الجزائري قادر بإذن الله سبحانه وبالتوكل عليه، أن يقف في وجه كل تَحَدٍّ، وكل عدوان، الشعب الجزائري الْمُتَّحِدُ كالبنيان المرصوص، والمتضامن كرجل واحد، سلطة وشعبا وجيشا، وشبابا وشيوخا، كان ولايزال قادرا على صناعة البطولات، وتحقيق الانتصارات.
إن مظاهرات 11 ديسمبر 1960م تذكرنا بمبدأ الشعب الجزائري، الذي مثلته جمعية العلماء فكرا ودعوة وجهادا وتربية وأخلاقا، وفكر الجمعية الذي هو من أصالة منهاج القرآن الكريم، والسنة النبوة. حيث قال ابن باديس، رحمه الله، إمام النهضة الجزائرية في الثلاثينيات من القرن الماضي: {شعب الجزائر مسلم … وإلى العروبة ينتسب. من قال حاد عن أصلـه… أو قال مات فقد كذب. من كان يبغي ودنا … فعلى الكرامة والرحب. أو كان يبغي ذلنا … فله المهانة والحرب. هذا نظام حياتنا … بالنور خطَّ وباللهب.} ففي تاريخ الجزائر الحبيبة أربع محطات كبرى، هي من معالم تاريخ الدولة الجزائرية: محطة الفتح الإسلامي، في القرن السابع الميلادي. وتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.1931م. وثورة أول نوفمبر 1954م.
ويوم استرجاع السيادة والحرية، يوم الاستقلال، وخروج الجيش الفرنسي من أرض الجزائر، ذلك الجيش الاستدماري الباغي، الذي احتل الأرض الجزائرية من 1830م إلى:1962م وشاء الله عز وجل أن ينصرنا، فَمَكَّن لنا، وبَدَّلَنا من بعد خوفنا أمْنا وحرية. ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ماهي العبر التي تستفاد من تلك المظاهرات؟
العبرة الأولى: أن الشعب إذا اتحد وتوحد في دينه وأفكاره وجيشه وقيادته وتعاون مع علمائه، كما تعاون الشعب الجزائري مع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فإنه سينتصر بإذن الله تعالى، وهذه أكبر عبرة نعتبر بها، فإن اتحاد وتعاون الشعب الجزائري أيام الثورة، ومنها في المظاهرات المعبرة عن إرادة الشعب كله، والمعبرة عن عزمه على تحقيق النصر، فكان النصر، والحمد لله رب العالمين. فلما تم التعاون بين كل أطياف الشعب ومؤسساته تم لهم النصر، وعليه فمن أراد أن يدافع عن وطنه، وأن يبني دولته، ليحفظ عزته وكرامته، فعليه بالوحدة والاتحاد والعزم والإعداد.
والعبرة الثانية: أن القيادتين الكبيرتين: القيادة السياسية أثناء الثورة المتمثلة في جبهة التحرير الوطني، والقيادة العلمية الدينية الروحية المتمثلة في علماء الجمعية العلمائية، كلهم اتفقوا على عدم قبول التفاوض مع الاستعمار على أي مساومة كانت، فقد جربت السلطات الفرنسية يومها، جربت مساومة القادة الثوار في جزء من الصحراء، أو في الاستقلال الذاتي، وفي تقسيم الجزائر بين الشرق والغرب، وعن معاهدة هدنة لمدة زمنية. فكان الجواب من العلماء والمفكرين والثوار:{يا فرنسا قد مضى وقت العتاب.. وطويناه كما يطوى الكتاب. يا فرنسا إن ذا يوم الحساب. فاستعدي وخذي منا الجواب. إن في ثورتنا فصل الخطاب. وعقدنا العزم أن تحيا الجزائــــــــــــر}.
العبرة الثالثة: أن الثورات التي سبقت ثورة التحرير، أكثر من عشرين ثورة، وثورة التحرير نفسها، كل مقاومات وثورات الشعب، وانتفاضاته، كانت تحت عنوان الجهاد في سبيل الله عز وجل. فما أجمل أن يعتبر الفلسطينيون والشعوب التي لم تتحرر بعد، أن يعتبروا بجهاد الشعب الجزائري في وحدته العلمائية والقيادية. فكان من بين أكبر الأسباب في انتصار ثورة أول نوفمبر 1954م أنها كانت ثورة جهادية بالقرآن والسنة. فكانت انطلاق المعارك، بالتكبير: الله أكبر. وكانت جريدة الثوة تسمى {المجاهد}. والثوار يسمون {المجاهدين} وكانت كلمات السر: علي، وخالد، وعقبة، وحمزة، وبدر. وكان بيان القادة الثوار يبدأ بالآيات القرآنية، والقاعدة أن من جاهد بإقامة الدين نصره رب العالمين. فكان العمل الثوري الجهادي قائما على أحكام الشريعة الإسلامية، ومن بين العلماء الذين كانوا يستشارون من قبل الثوار، محمد أحمد المهدي الشريف، وهو الشيخ الذي حفظت القرآن على يده، رحمه الله، خرج مجاهدا مع جيش التحرير، واستشهد سنة 1959م بالبرواقية، ولاية المدية.
العبرة الرابعة: التدين، والتوبة إلى الله تعالى والتطهر من كل المعاصي والذنوب. حتى إن الثوار المجاهدين كانوا يعاقبون بأشد العقوبات من يتعاطى التدخين، أو يشرب الخمر، أو يرتكب أي فاحشة.
قد تقول: نحن بصدد الاعتبار بذكرى مظاهرات 11 ديسمبر1960م فما علاقة التدين، ومبادئ الثورة؟ والجواب: إن الشعب الذي يَتَّحِدُ مع بعضه، يتآخى مع إخوانه، ويثور على الأجنبي المعتدي، دفاعا عن الحرية والوطن، كما فعل الجزائريون في مظاهرات ديسمبر 1960م، لهو الشعب الذي آمن حق الإيمان، وتآخى في الله حق الأخوة، والقاعدة أن من لم يتحرر، من معاصي الشيطان لم يتحرر من العدوان. فالتمكين (الاستقلال) بالتدين الصحيح، وحفظ التمكين بالتدين الصحيح. قال الله تعالى:
﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنه: هم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان. والمعنى: هؤلاء الذين يستحقون نصرة الله، ويستحقون الأمن والاستقرار، والحرية والازدهار، هم الذين إن جعلنا لهم سلطاناً في الأرض ومنحناهم دولة وعمرانا، وتملكاً واستعلاء، عبدوا الله حق العبادة، وحافظوا على الصلاة وأداء الزكاة. ﴿وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر﴾ والمعنى: دعوا إلى الخير ونهوا عن الشر.
فمن أحب أن ينصره الله تعالى، ويحفظ له وطنه، فليكن مؤمنا حقا، لأن الله تعالى يدافع عن الذين آمنوا. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ والمعنى: إن الله ينصر المؤمنين ويدفع عنهم شر الكافرين المعتدين، وهذه بشارة للمؤمنين بإعلائهم على الكفار وكفِّ كيدهم عنهم، إن كانوا مؤمنين حقا. ثم ينبهنا الله عز وجل لقضية ينساها المتهاونون، وهي أن بعض الذين منحهم الله النصر والاستقلال، نسوا نعمة الله ووقعوا في المعاصي، وغرقوا في حب الدنيا، فقال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ إنه تعالى يبغض كل خائنٍ للأمانة جاحدٍ نعمة الله. ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾