شؤون تربوية

البيوتات العالمة بالجزائر

د. عبدالقادر بوعقادة *

4- العقبانيون الأندلسيون بتلمسان
كانت الأواصر بين تلمسان وبلاد الاندلس متينة وحيوية، مثلتها العديد من الظواهر والنشاطات ممّا ينمّ عن التفاعل الإيجابي بين مدن المغرب الأوسط (الجزائر) وحواضر الأندلس. وإذ لا يمكن حصر العديد من تلك المظاهر فإنّ تقديم أنموذج الأسر الأندلسية الوافدة على حواضر المغرب الأوسط يعدّ مثالا يضرب في تاريخ العلاقات بين العدوتين. إذ تشير المصادر بكل أنواعها وتخصصاتها إلى وفود أسر إشبيلية وغرناطية وقرطبية وغيرها إلى مدن المغرب الأوسط، وهذا عبر رحلة علمية أو تجارية أو بدافع سياسي خلال فترات المرحلة الوسيطية. وبصرف النظر عن الدافع فإنّ هذه الأسر الوافدة لم تكن مقتصرة على الأسر المسلمة بل انتقلت أسر من طوائف أخرى يهودية ومسيحية “أهل الذمة” تروم الاستقرار بهذه الأرض لما رأت فيها من تسامح ديني وتفاعل اجتماعي لا يفرق بين الديانات ولا المذاهب. وهكذا كانت تلمسان ووهران ومستغانم ومليانة وشرشال والجزائر وبجاية وبونة وغيرها من المدائن ملاذا لعوائل أندلسية أثرت وتأثرت بالبيئة التي وفدت عليها.
ويأتي البيت العقباني الأندلسي التجيبي مثالا حيا لبيوت أندلسية وافدة، وحيث لا نعلم تحديدا زمن إلاّ أنّ أوائلها استقروا بتلمسان وتعايشوا مع أهلها، نتج عن ذلك نبوغ عدد من أبنائها الذين صاروا علماء أجلاء في التشريع، ليتولوا مناصب الإفتاء بتلمسان وبجاية ويمتدّ نشاطهم إلى حواضر المغرب الأقصى كمراكش وسلا. وقد تحدث المعاصرون لأوائل هذه الأسرة عن سعيد بن محمد العقباني (720-811هـ) كأول نجباء البيت، إذ كان فقيها وقاضيًا نال الصدارة في العلم، وتولى قضاء الجماعة ببجاية أيام السلطان المريني أبي عنان في وقت كان فيه الفقهاء متوافرون. ودامت ولايته للقضاء مدة تزيد عن أربعين سنة، كما تحدثت المصادر عن عنايته بالخطابة في جامع تلمسان.
تشير كتب الطبقات والوفيات إلى تتلمذ سعيد العقباني على يد شيوخ المدرسة التلمسانية الذين كانت تعج بهم هذه المدينة وجميع حواضر بلاد المغرب عصرئذ، ومن هؤلاء العلماء الذين كانت لهم بصمة في تعليم الامام سعيد العقباني نجد إبني الإمام والآبلي اذ أخذ عنهم الأصول. وكان ثمار هذا التعليم أن خاض سعيد العقباني في التصنيف بعد تلقيه العلوم، فقام على شرح ابن الحاجب الأصلي والعقيدة البرهانية، بالإضافة إلى تفسير بعض السور، وقد عدّه البعض قرينا للشريف التلمساني، بل اعتبر كلاهما ممّن بلغ درجة الاجتهاد الفقهي، وهي مرتبة لا يصلها إلا من صار له باع في الفقه وعلم بالأصول. وربما أكثر علم اشتهر من خلاله أبو عثمان سعيد العقباني هو تعاطيه علم المواريث وبراعته في حساب الفروض، ومعلوم أنّ طريقة حساب الفروض تطورت ببلاد المغرب الأوسط على عهد أبي القاسم عبد الرحمن بن يحيى القرشي الذي اخترع طريقة الكسور البديعة، حيث لا يحتاج متناولها إلى كبير عناء ولا كثرة حساب، بقدر ما هي صحيحة سريعة دقيقة في إعطاء كل صاحب ميراث فرضه، ليأتي بعده أبو عثمان سعيد العقباني فيشرح فرائض الحوفي من خلال مصنف في غاية التنظيم والتدقيق، مفصل المراحل والحقوق ومدعّم بجداول، وهو نفس المصنف الذي اعتنى به الفقيه القلصادي فنسخه لصالحه، وسار عليه في الدرس والتطبيق. كما قرأه الفقيه الرّصاع على سعيد العقباني سماعا مرارا، ممّا يعني أنّ المصنف هذا كان ذا شهرة واسعة، وأنّ تلمسان كانت قبلة العلوم النقلية والعقلية زمن العقباني سعيد، وربما كان استقضاء سعيد العقباني لكل من بجاية وتلمسان وسلا ومراكش، هو ممّا دفع إلى نشر مصنفه وذيوع شرحه لفرائض الحوفي.
ويبرز إسم آخر من العقبانيين وهو ابن سعيد “قاسم بن سعيد العقباني”، حيث أشار القلصادي إلى مرتبته وجلال علمه وفقهه، وحلاّه بلفظة شيخنا وبركتنا، وزاد على ذلك فقال عنه: “الإمام الفقيه المرتقي درجة الاجتهاد المنفرد بالمعقول والمنقول”. ونظرا لعلمه وفقهه وبراعته في هذه المراتب أسند إليه القضاء بتلمسان منذ صغره.
اهتم أفراد هذه الأسرة بالقضاء والفتيا، فكان ممن نبغ في ذلك – بالإضافة إلى الجدّ سعيد والإبن قاسم – الإبن أحمد بن قاسم بن سعيد ت 840هـ/1437م، إذ تولى قضاء تلمسان. ونفس الشيئ بالنسبة لأخيه ابراهيم بن قاسم ت880هـ/1476م الذي كان قاضيًا فاضلاً وإمامًا، هذا الأخير الذي تتلمذ عليه الونشريسي صاحب المعيار، ثمّ يأتي بعدهما الحفيد محمد بن أحمد بن قاسم الذي اعتلى قضاء الجماعة بتلمسان، وكان شهيرا بارعا في الفقه والنوازل، وقد اكتسب هذه البراعة في التعاطي مع قضايا الناس من خلال تتلمذه على مشايخ أسرته وبلدته، وأثر عنه الخوض في التصوف وحلاّه الونشريسي بشيخنا، مثلما كان للرحلة دور بارز في صقل موهبته القضائية، وسجّلت وفاته في 871هـ/1467م. وقد خلّف لنا هذا الفقيه العقباني الأخير مصنفا غاية في الأهمية سماه “تحفة الناظر وغنية الذاكر في حفظ الشعائر وتغيير المناكر” حدّد فيه مشروعية التغيير وكيفياته وضوابطه، وآثاره على المسلم وأهل الذمّة. ولم تكتف المصادر بهذه الشخصيات العقبانية العالمة التي كان لها فضل العلم والامامة والقضاء، وحيث لا يسعنا ذكرها كلها إلاّ من خلال مصنف نعد به، فإنّ المصادر تتفق كلها على المكانة العلمية لآل العقباني، ودورها في مجال القضاء، وبالأخص قضاء الجماعة، مثلما تذكر فتاويهم ونشاطهم في ميدان النوازل. مع الإقلال في مجال التأليف والتصنيف، رغم الاختصاص الواضح في الفقه وشؤونه، وهي سمة علماء المغرب الأوسط خصوصا وبلاد المغرب عموما.
وإنّ العودة إلى التفصيل في أعمال العقبانيين من خلال تصفح كتاب بغية الرواد ليحيى بن خلدون، والاطلاع على ورقات الونشرسي المسماة ألف سنة من الوفيات، واللّجوء إلى ما كتبه ابن مريم في البستان، وتقصي رحلة القلصادي وقراءة كفاية التنبكتي كل هذه المصادر تعطينا حقيقة العلماء الذين قدموا ثروة علمية وفقهية طائلة للمكتبة المالكية ببلادنا، وتبرز الجديد الذي قدمه فقهاء المغرب الأوسط بفضل اجتهاداتهم وتفانيهم وحسن تعاطيهم مع العلوم، وهي ميزة تحتاج منا اليوم إلى استظهارها وإبراز قيمة علماء المغرب الأوسط من خلالها.

* جامعة البليدة2-

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com