موقــــف و خـــاطـــــرة

رجاء بن حيوة هذا الزمان؛ سعيد شيبان رحمه الله

الشيخ نــور الدين رزيق
الأمين العام – جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/

اذا كان رجاء بن حيوة قد اشتهر بأنه أحد المهندسين الاثنين الذين أشرفا على تفاصيل الزخارف والنقوش الإسلامية داخل قبة الصخرة في القدس، واصبح وزيرا لعبد الملك بن مروان ومستشار لسليمان بن عبد الملك، فإن الدكتور السعيد شيبان طبيب العيون قد جمع بين الوزارة والعيادة.
إن التاريخ ملئ بالمواقف والقصص لكن قليلا ما تكون هذه النماذج من زماننا هذا من رجال عاصرناهم ليكون خبرهم أكثر أثراً، حتى كدنا نفقدهم كنماذج وقدوة لنا وحتى اصبحوا صورة نادرة كأنها محصورة بعهد سلف هذه الأمة من القرون الأولى.
وزير ورع زاهد لا يتناسب هذا الوصف مع هذا المنصب، ولكن حقيقة شهدها القاصي والداني في حق فقيدنا الوزير سعيد شيبان رحمة الله عليه.
فليس الزهد في الدنيا بتحريم الطيبات وكف النفس عنها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أزهد الناس ولم يحرم على نفسه شيئا أباحه الله له، وهذا كلام نفيس في حقيقة الزهد وبما يتحقق ننقله من كلام العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ قال في مدارج السالكين ما عبارته: وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: الزهد على ثلاثة أوجه الأول: ترك الحرام، وهوزهد العوام.
والثاني: ترك الفضول من الحلال، وهوزهد الخواص.
والثالث: ترك ما يشغل عن الله، وهوزهد العارفين.
فالدكتور سعيد من الصنف الثاني وهومن الثالث اقرب، اشترط لقبول منصب وزير أن يبقى يمارس مهنته المفضلة «طب العيون» في الفترة الصباحية ووظيفة الوزير بعد الظهيرة ، مع بقاءه في مسكنه المتواضع بشارع طرابلس -حسين داي, وسيارته بيجو504.
حدثني من أثق فيه أنه طلب من أحد الإخوة بمسجد الفضيل الورتلاني-حسين داي أن يبعث له إلى المستشفى مصطفى باشا مرضى «فقراء» دون موعد مسبق.
ودخلت مقصورة مسجد الفضيل الورتلاني-حسين داي حيث دعيت لإمامة الناس يوم الجمعة، فوجدت كمية كبيرة من البطاريات les piles، سألت المؤذن عنها فقال لي: أن الشيخ السعيد شيبان رحمه الله تعالى يعطي عن كل بطارية 10دج، لم؟! فكان الجواب: إن هذه البطاريات إذا بقيت في الشارع ونزل المطر عليها تخرج منها إشعاعات (radiation) فتحملها المياه الى السدود والانهار، فتصيب جسد الإنسان والحيوان وكل حي يشرب من هذا الماء، هذا من فقهه لإماطة الأذى عن الطريق وكما يقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى» إن في الفقه فقها لا تصل إليه المدارك القاصرة، وهولباب الدين وروح القرآن، وعصارة سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وهوتفسير أعماله وأقواله وأحواله ومآخذه ومتاركه، وهوالذي ورثه عنه أصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين، وهوالذي يسعد المسلمون بفهمه وتطبيقه والعمل به، وهوالذي يجلب لهم عزّ الدنيا والآخرة، وهوالذي نريد أن نحييه في هذه الأمة فتحيا به…» (آثار الإمام الابراهيمي. ج 3 ص 191).
أهتم رحمه الله بالمسجد والشأن الديني، وللأمانة وحفظا للمقام فهو صاحب مشروع «مؤسسة المسجد» بمجلسه العلمي، ومجلس سُبل الخيرات، ومجلس «اقرأ» لتعليم الأطفال ومحو الأمية، ومجلس البناء والتجهيز، هذه المجالس ترافق المسجد.. ووضع تصنيفا جديدا للأئمة.. وصاحب قانون الأوقاف المعمول به حاليا.
عالم حريص في الدفاع عن الدين وكل ما يمس مصادره، الكتاب والسنة، يتابع كل ما يُكتب عن الإسلام ومصدر الوحي الأول القران الكريم من طرف الغربيين فيكتب ويرد بلغة فرنسية راقية ويترجم كل ما كتبه غير العرب عن هذا الدين، ويسّر الله تعالى لي أن أكون خادما له في إحضار نسخة إلكترونية من كتاب المفكِّر الفرنسي جان ستون «هل لوجودنا من معنى؟» وسعى رحمه الله مع الدكتور عمار الطالبي حفظه الله تعالى إلى ترجمته وطبعه ليكون في متناول القراء، خاصة وأن المؤلف لا يقصد بهذا الكتاب بأيِّ حال من الأحوال البرهان على وجود الله، لكنه يجعل من القول بوجوده أكثر صدقية من ذي قبل: إذ تمكَّن من حلِّ الصراعات القائمة، أوالتي قامت، بين الرؤية الدينية والرؤية العلمية للعالم.
لكن ذلك يحتاج إلى ثمن: القبول بالمعارف العلمية الأساسية وعدم نفي بعض البديهيات كما يقول الأستاذ محمد قانون، الذي رأى فقيدنا أن هذا الكتاب فيه معلومات وفوائد وبراهين علمية تنفع المثقف العربي المسلم.
المفكر الإسلامي الدكتور سعيد شيبان مؤمن برسالة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إذ يراها هي الإطار الجامع والمؤهل لقيادة قاطرة النهضة الثقافية والحضارية لهذه الامة ومما ينبغي ذكره في هذا المقام ودعما لهذا المشروع، أن د. السعيد شيبان رحمه الله تعالى كان يتبرع لجمعية العلماء كل سنة بشيك معتبر واشتراك سنوي في منتوجاتها الإعلامية (جريدة البصائر والشاب المسلم باللغة الفرنسية وغيرهما…).
ومما أَخْبَرَنِي به مؤمن الشيخ السعيد شيبان رحمه الله تعالى: أن الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله تعالى إلى وقت قريب كان يستشيره في مواقف وقضايا تهم العالم الاسلامي.
كانت حياته رحمه الله جهاداً متواصلاً للدعوة إلى الله والدفاع عن الإسلام ونشر الخير في كل مكان، قاوم التيارات الفكرية المنحرفة بثبات وإيمان وجلّى محاسن الإسلام وحببه في قلوب الناس، وسعى في مناكب الأرض ليعمر القلوب ومواجهة الإلحاد في محاضرات وخطابات بالعربي ولسان قبائلي، كما أنشأ مع بعض الدعاة من أمثال الاستاذ القدير عبد الوهاب حمودة ودكتور محفوظ سماتي رحمهما الله وآخرين خلية داخل مؤسسة جمعية العلماء لمواجهة موجة التنصير في بلاد زواوة .
وعلى الرغم من أن مؤلفاته قليلة في المكتبة الإسلامية، إلا أنني أعتقد أن سيرته العملية ومنهجه السلوكي يمثلان قمة عطائه الإسلامي وأهم ميراث تركه للأمة، ولا أتردد في أن أضعه في مصاف أئمة السلوك الإسلامي من أمثال الحسن البصري والفضيل بن عياض وسفيان الثوري، وعبدالقادر الجيلاني، رحمه الله رحمة واسعة وجبر مصاب الأمة فيه « اللهم أنزل عليه شآبيب رحمتك وعزائم مغفرتك اللهم نقّه من الذنوب والخطايا كما يُنقّى الثوب الأبيض من الدنس».

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com