محمد بن عبد الكريم سيرة ومسيرة
أ. موسى عزوق/
في سنة 1989 تداول النّاس في زمورة أنّ سي محمد عالم البلدة الجليل القادم من فرنسا سيلقي خطبة الجمعة في جامع بن حسن بحي السويقة، فكان أوّل ما تبادر إلى ذهني السؤال: “من يكون؟” وماذا سيقول!؟ هل فعلا هو عالم؟ أم كالعادة أهلنا بزمورة يحبون الساكن خلف البحار ويقدرونه ويتملقون له؟
حيث أنني كنت من الرائحين إلى الجمعة في الساعة الأولى، بشرعية التبكير، تبكيرا للصلاة وصليت ما يسر الله من ركعات، وقرأت سورة الكهف، واشتغلت بالتسبيح والتهليل والاستغفار. وبينما نحن كذلك اذ رفع الأذان، وبدأ المسجد فعلا يمتلئ عن آخره.
صعد رجل وقور محمر الوجه إلى المنبر ودون ورقة وبمدخل إلى الخطبة غير تقليدي وبصوت جهوري غير معهود وقال: “الحمد لله الذي جعل المساجد ملكا له أبدا: “وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا”. سورة الجن 18. والصلاة والسلام على من قال: “خير البقاع المساجد وشرّ البقاع الأسواق” الطبراني. لم تكن الكلمات الطنانة والمستحدثة والأسلوب الجديد”غير الوعظي”! لتتركك تفكر أصلا في النّعاس الذي عادة ما يصحب مصلي الجمعة، ثمّ إنّه استعاذ بالله من الشيطان الرجيم وذكر الآية: (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ? لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى? مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ? فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ? وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)[سورة التوبة 108] ثمّ بدأ بتفسير الآية بطريقة جميلة وبسلاسة وقوة فيشرح المفردات ثمّ يذكر مجمل المعنى ويختم بالتوجيهات (1) وهي أقرب إلى دراسة النّص. ولأول مرّة يومها أعرف أنه يمكن أن يكون هناك مسجد ضرار كما كان في عهد النّبي -صلى الله عليه وسلم-، ثمّ إنّه حدّد أسباب المسجد الضّرار من المضارة للمؤمنين والتفريق بينهم والنّهي عن تكثير بناء المساجد وغصب بعض الأرض والإقدام على إقامة جمعة جديدة، ليعرج على اوصاف مسجد الضرار في القران… كانت خطبة عصماء قوية في الطرح، ولمّا اكمل الخطبة. ورغبت في إلقاء السلام عليه، حال دون ذلك من يحوم حوله. لكنني قرّرت أن أطلع على كلّ ما كتب:
هكذا قرأت له تحقيق “التحفة المرضية في الدولة البكداشية في بلاد الجزائر المحمية. لمحمد بن ميمون” الجزائري ط2 الشركة و. ل .ت 1981. نجد في التوطئة 1969 تاريخ أول إنتاج. والتي نال بها شهادة الدراسات العليا في التاريخ الحديث 361 صفحة ومع التهميش والفهرسة وصل402 صفحة (وهذا ديدنه حتى لاحقا في الكتابة بكثرة التهميش). وهي حقبة حكم أبو النصر السيد محمد «بكداش» (وهي تركية تعني الحجر) وقد تولى دايا على الجزائر سنة 1707 وتوفى مغتالا 1710 على يد الداي دالي إبراهيم آغا .
ثم قرأت له “تحقيق” بدائع السلك في طبائع الملك لأبي عبد الله محمد بن الأزرق الأندلسي المتوفي سنة 896ه. موافق 1491م الجزء الأول .جاء في مقدمة المحقق: كنت زرت فقيد العروبة والإسلام الأستاذ الشيخ البشير الابراهيمي… الذي عقب رغم مرضه 1964 عن مقدمة ابن خلدون بقوله: “إنّ هناك كتابا قد يغني عنها.”! فاستفسرته عن الكتاب فكان هذا الكتاب موضوع التحقيق وفي 1972 في زيارة إلى المغرب عثر على أربع نسخ منه…. ولهذا وجب التنويه إلى صاحب الفضل الأول في هذه المبادرة -التحفيز – رائد العلم والأدب الاستاذ الشيخ البشير الإبراهيمي !يجب التعود على أسلوب وألفاظ مثل هذه المخطوطات كي لا تكون كما تظهر “مادة دسمة” صعبة الهضم، وهي في الحقيقة “أكلة سريعة” سهلة وممتعة (بوضعها في زمكانها) لاحظ مثلا تلك التقسيمات التي اندثرت اليوم (في الكتاب الأول الباب الأول: في حقيقة الملك.. وفيه “أنظار”؟…الباب الثاني: سبب الملك.. وفيه “الطرف 1,2…6 مكائد حصار المدن وفيه “تتمتان”؟ الركن! الخطة! المرتبة! المنهج! النظر! القاعدة!؟…. وأنت تقرأ تكون مصحوبا بكلمة الشيخ البشير عن هذا الكتاب أنه: أحسن من المقدمة لأنّه يحتوي على تلخيصها وعلى أشياء كثيرة، قد أغفلها ابن خلدون، وكان من الواجب أن لا تغفل).
ثمّ كررت قراءة كتاب المرآة (لمحة تاريخية وإحصائية على أيالة الجزائر). لصاحبه حمدان بن عثمان خوجة الجزائري 1، وكان من الواضح أن في تعليقه “عربه وقدم له وعلق عليه” الدكتور محمد بن عبد الكريم. له قصة 2–. جاء في الإهداء أولا لحمدان بن عثمان خوجة وكان مطلعه إلى جزائر بني مزغنة. ثمّ إلى ليبيا الشقيقة.. إلى حسونة دعبس الليبي. ولم أفهم سبب ذلك إلى غاية هامش الصفحة 8 حيث بين أن الكتاب “المرآة” كتب في الأساس بالعربية وترجمه إلى الفرنسية صديقه الليبي ه.د .يلاحظ أن سبب تسمية الكتاب “المرآة” لم يتطرق المقدم إليه، واستنتاجي أنّ المؤلف رغب في تقديم مرآة للمجتمع الجزائري من خلال كتابه ومحاولة تبيض استبداد الأتراك. دوافع وأهداف تأليف هذا الكتاب الداخلية والخارجية التي أوردها المحقق غير مقنعة، فالقارئ يخلص إلى أن السيد حمدان بن عثمان الكرغلي كتبه في فرنسا وهو يصور السكان الأصليين كأنّهم همج ومتسخون.. ويتملق الفرنسيين ويبين لهم كيف يمكن الاستيلاء على هذا الشعب المغبون. قسم الكاتب المرآة إلى كتابين، في الكتاب الأول أدرج فيه 13 فصلا في صفحة128. أما الكتاب الثاني فقسّم إلى 12 فصلا. وختمه بوثائق في الشكاوي والبراءات 16 وثيقة ص357. يلوم الكاتب الفرنسيين كأنهم مسلمون فاتحون ولا يحق لهم الدخول على المنازل التي كانت للأتراك يمرحون فيها. ولا يبين كيف استولى الأتراك على هذه المنازل؟! ولا يقتنع أنّ فرنسا ربحت الحرب !يلوم عمليات النهب والسلب لخزينة “الايالة” ولا يتطرق إلى ما هربه الدايات وحتى ما أخذه “خال “.
جعل كلّ أسباب السقوط محصورة في اليهود؟
من أهم الاقتباسات التي أوردها الكاتب نقله في الصفحة 187 من المرآة عن هيريل قوله: “لقد غزونا الجزائر واستولينا عليها، لنكون فيها أسيادا على الإطلاق . إن الجزائر بما فيها وما عليها ملك لنا..”. كما أن حمدان بن عثمان خوجة الجزائري أبدى ملاحظة مهمة في الصفحة 192 من المرآة حول تعمد إلغاء المذهب الحنفي: “إن إلغاء مجلس المحكمة الحنفية غلطة لا تغتفر…؟! قرار 22-10-1830 المادة 1_مالكية!؟”. وأقر في الصفحة 199 من المرآة: “أنا شخصيا -لا أرى أن العنصر الديني هو الذي دفع بالفرنسيين إلى احتلال الجزائر…”
تجدر الإشارة إلى أنه قام بتأليف وتعريب كتاب “حمدان بن عثمان خوجة الجزائري ومذكراته 3” في 247 صفحة في 04 أربع أقسام عن الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية إبان حياة سي حمدان وتعريب مذكراته.
كان الدكتور -رحمه الله – أيضا شاعرًا حساسًا وقد جمع في كتاب سماه: (كشف الستار) في 122 صفحة 4 ويذكر في كلمة الإهداء هذه هي ما بقي من كتاب أسماه: (دمعة الجزائر) الذي أحرقه المستدمر الفرنسي، وكتاب: (الالهامات الربانية) ليلة اعتقاله 11-02-1959 بباريس وكان ذلك بغتة في حجرة فندق. قال في ختام الإهداء أن الشعب أصبح الاستقلال هدفه والحرية أمنيته والصبر سلاحه والدين شعاره والله ناصره: شعب الجزائر بالبسالة يرتدي وكتابه القرآن وحي محمد. ورتب القصائد حسب تاريخ إنشائها من سنة 1960 (وكل الذي قد فات فينا مقدر) إلى 2006.
في الصفحة 32 وعلى غير المتوقع يحكي عن ذكريات محنة التعليم آوائل الاستقلال كيف أنه بتاريخ: 23-09-1963. عاد إلى الجزائر وإلى زمورة تحديدًا. وكانت الفرحة المزدوجة بالاستقلال وبالعودة إلى البلد والاجتماع بمقر الاجداد ومسكن الاحفاد حيث توجد حليلته وولداه. وبعدما قضى بين ظهرانهم 15 يوم توجه للعاصمة وعين بمدرسة اميرا بحي بيلكور (سيدي امحمد). وبدأ بمشكلين تأخر المرتب 08 أشهر والسكن الذي لم يحصل عليه أبدا، وهكذا استمرت المعاناة سنوات إلى أن طلقها نهائيا
وقال شعرا: «أيا مهنة التعليم انك طالق *** واني لحسن الحظ قلبي مفارق العاصمة سنة 1976. كان محبا لزمورة رغم ظلم أهلها (وكان منهم من يسميه باسم جدته وليد فلانة). قال وقد أخذه الشوق إلى زمورة أن الحب يرجع للحب الأول وأنّه مهما زرت الأمصار فإنّ الذكرى تعود بك إلى مسقط الرأس: «شرقت أو غربت في المعمورة لم يبق في الذكرى سوى زمورة». ثم يُفصل السبب في ذلك: «مهد الفضيلة والوفاء نزاهة سلوى قناعتها بها مستورة «وأنّها وصل الكرامة بالشجاعة والعلا صفة مشبهة لها مسطورة». وأن سكانها لها عامرون: «سكانها دأبوا على عمرانها صلواتهم في وقتها مبرورة» وهم لكتاب الله حفظة: «هذا كتاب الله محفوظ بهم آياته في ثغرهم معطورة» ثمّ يتحدث عن تكرار الحزب الراتب: «ترتيلهم في السمع زاد حلاوة يحكي دوي النحل بالصيرورة». ويعدد أن في كلّ حي من أحيائها مسجدا وحافظا: «في كلّ حي كتاب به قراؤه أسماؤهم موفورة»…
«في كل حي مسجد يعلو به صوت المؤذن سنة مأثورة». والاحترام المتبادل بين أهلها «فيها الكبير لدى الصغير موقر أما الصغير فرحمة منشورة.» وان النساء محترمات والرجال: «نساؤها بحيائهن مصونة ورجالها أخلاقهم مشهورة». ثمّ يتحدث عن المقاومة الشعبية وثورة التحرير. ليصل إلى النتيجة: «أكرم بها من بلدة فيها مضى كلّ الفصول بها غدت مسرورة». وبعد هذا الثناء يقدم نقده: «مالي أراها اليوم عكس مرادها تبكي حظوظها قد بدت محظورة»؟ أحزانها قد قوست أفراحها آمالها في يأسها مقبورة.» الفأل منها قد أزاح رحاله والشؤم بات علامة مشهورة». ثمّ يشير إلى الفتنة التي فقد فيها عزيزا عليه ولده سي الطاهر -رحمهم الله جميعا -: «سيقت إليها فتنة غياثة أمست بها بعد العلا مقهورة». «أوصالها بين النّفوس تصرمت أوكارها من أنسها مهجورة». ثمّ يعقد مقارنة ختامية بين الماضي والحاضر:
كانت زمانها مرتعا لجموعها *** أضحت بها أبوابها منشورة
كانت حليفة فألها مشكورة *** أمست رهينة شؤمها محقورة
العنف فيها كاشر أنيابه *** كلّ النّفوس غدت به مذعورة
الجل من شبابها قد شردوا *** فتشتتت أشباحهم مدحورة
كنت مكلفا بالمكتبة النصف حضرية بزمورة وكنت أسكن بجوار الأخ عنتر ابن الشيخ فكان اللقاء مباشرا لأول مرة في بيته الكريم وكانت لي نية في مناقشته حول أن يكون جزء من مكتبته التي يرغب في إهدائها إلى جامع بوحيدوس أن تحوّل إلى المكتبة البلدية، لأنّ الولوج إلى الجامع ليس متاحا بشكل دائم لكنه لم يقبل أساسا أن تطرح الفكرة، وكان على كلّ حال على حق حيث تمّ نقل المكتبة من وسط البلدة (الشبيبة) إلى حي بوطويل البعيد ثمّ حول مقرها إلى مركز صحي، ثمّ دار بيننا حوار حول مالك بن نبي الذي يعتبره من المغتربين، ونصحني أن أبتعد عن تحقيق مخطوط الرزنامة الفلاحية وأن أكتب في اختصاصي، وكنت قد سألته عن كتابه الهجرة من الأقطار الإسلامية إلى الأقطار الإفرنجية في ميزان الإسلام الصادر سنة 1994 5، على نسق كتابه الديمقراطية والعلمانية في ميزان الاسلام، وكيف يوفق بينه وبين هجرته هو ومكوثه في فرنسا؟ وكان جوابه لي عن التجنس وتغير الجنسية وأحسست بانزعاجه، فسكت عن الكلام، واستأذنت بالانصراف. (قام مبروك جبالي بترجمة الكتاب المتعلق بتغيير الجنسية إلى الفرنسية ختمه بستة فتاوي استبعد أن يكون الكتاب للدكتور محمد).
وفي الختام لعلّ إثراء النقاش حول الأعلام دون استثناء ينقص من التهميش لهم من حيث نقصد أو لا نقصد، وقد تؤتى الإساءة للثقافة ورجالها أساسا من بعض رجالها .
أحب أن أختم بأن سي محمد مفسر للقرآن الكريم بعنوان: «من توجيهات القرآن العظيم» من خلال تفسير سورتي الفاتحة والبقرة جمعية الدعوة الإسلامية العالمية طرابلس -الجماهيرية العظمى الطبعة الأولى 2003.
الهوامش:
1 – محمد بن عبد الكريم، المرآة (لمحة تاريخية واحصائية على ايالة الجزائر). دار الوعي رويبة الجزائر 2013ايداع. وط1 2017؟.
2 – « التقديم من الصفحة 7الى 18» سمى نفسه في آخره «المعرِّب». وقدم له وعلق عليه بدقة. وفهرسه وأرفق مرفقات في آخره، بعكس نسخة محمد العربي الزبيري، وفيه «كلمة» لفخامة رئيس الجمهورية، وكان تقديمه للتحقيق زهيدا.
3 – محمد بن عبد الكريم، حمدان بن عثمان خوجة الجزائري ومذكراته. دار الوعي رويبة الجزائر 2013ايداع. وط1 2017؟
4 – محمد بن عبد الكريم، كشف الستار – دون ذكر الناشر ولا سنة النشر؟ – ارجح مطبعة زاعياش.
5 – محمد بن عبد الكريم الجزائري الهجرة من الأقطار الإسلامية إلى الأقطار الافرنجية في ميزان الإسلام دون ذكر الناشر سنة 1994.