مظاهر الحفظ الرباني للنص القرآني

أ.د: عبد الحليم قابة
نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
أولاً- توفر عوامل العناية وتواردها لتحقيق الغاية، ومن أعجب العجب أن تجتمع هذه العوامل – التي سبق ذكرها – جميعاً مع غيرها مما لم نذكره، على وجه لا نظير له وبشكل مستمر لا انقطاع له، وستظل كذلك وأفضل، إن شاء الله.
ثانياً- من مظاهر الحفظ ما نلمسه عند الخواص والعوام وعند الصالح والطالح من حبّ لهذا القرآن وتقديس له، إلى درجة أن الإنسان قد يتحمل أن يلحقه أذى عظيم ولا يمس كتاب الله بذرة من سوء، وليس لهذا الحب المتأصل في النفوس من تفسير فوق كونه مظهراً من مظاهر قدرة الله الباهرة التي تعلقت بحفظه لكتابه العزيز.
ثالثاً- من مظاهر الحفظ الإجماعُ الذي حصل عليه بين المسلمين جميعاً على اختلاف مشاربهم ومدارسهم ومذاهبهم، بل وطوائفهم، فلم يحصل أنّ شيئاً اجتمعت عليه الكلمة كما اجتمعت على كتاب الله وتقديسه ووجوب الاحتكام إليه الذي هو من لوازم حفظه وحسن فهمه وتدبره، وليس من تفسير لهذا الإجماع إلا كون قدرة خارقة بيدها القلوب والأفكار والأحوال وراء هذا الإجماع منقطع النظير.
رابعاً: من مظاهر الحفظ هذا الإقبال الشديد من الكبار والصغار على القرآن وتلاوته ومحاولة فهمه والعمل به، لأنه – عند الجميع – مصدر أجر لا ينضب، ومصدر هداية لا ينفد، فترى الناس يقبلون على تلاوته وتجويده وسماعه، ويقبلون على تعلم علومه ونشرها في الآفاق، ويتنافسون في بناء مدارس القرآن وكتاتيب تعليمه، ويتسابقون محلياً وقطرياً ودولياً في حفظه، وغير ذلك كثير مما لم يحصل لغير هذا القرآن وليس من تفسير لذلك بعد كونه كلام الله المعجز المبارك إلا أنه مظهر لسرّ تعلقت به إرادة الله في الأزل فظهر فيما ظهر مما هو مشاهد بالنظر، ومسموع بتواتر الخبر.
خامساً- من مظاهر الحفظ ما قذف في القلوب – زيادة على التعبد بتلاوته وخدمته – من التبرك به والاستشفاء به، فأقبل عليه الصالح والطالح، بنية صالحة وبغير ذلك، حتى سمعنا ببعض البلاد الكافرة تشتري المصاحف المرتلة لمستشفياتها لنجاح تجارب أمراض نفسية عولج أصحابها بسماع القرآن يرتل وإن لم يكونوا ممن يفهم منه حرفاً.
وما ذاك إلا مظهر من مظاهر حفظ القرآن ولو بجهود فاسقين أو غير مسلمين، وهذا لا تفسير له إلا ما ذكرت.
سادساً- من مظاهر الحفظ ما يشهده عصرنا من تنافس المطابع ودور النشر والمكتبات في طبع المصاحف والتفنن في إخراجها وتنويع حجومها وتنميق ألوانها، وبذل الأموال الباهظة للدعاية إليها بشكل جعل المصحف أولَ كتاب مبيعاً في العالم كلّه، وأكثرَ الكتب نسخاً في العالم، وأكثر طلباً، وأكثرها تنوعاً من ناحية الحجوم والخطوط والإضافات الملحقة به، كما كان الأمر قبل اختراع المطبعة، فقد كان المصحف أكثر الكتب نسخاً من النساخ وهو الآن أكثر الكتب مخطوطات في العالم.
وليس من تفسير لذلك إلا ما ذكرته من كون وراء ذلك قدرة قادر تعلقت بحفظ هذا الكتاب من كل تبديل أو تغيير.
سابعاً- مشروع المصحف المرتل الذي بدئ فيه أوائل الخمسينات من القرن العشرين الميلادي، وبالضبط سنة 1479هـ بمساعي الدكتور لبيب السعيد رحمه الله.
ونجح المشروع في تحقيق بعض أهدافه فقد سجل القرآن كله بصوت الشيخ محمود خليل الحصري رحمه الله وغيره ثم وزع على العالم الإسلامي وانتشر بعد ذلك انتشار الهواء في الآفاق، وسُمع صوت الحصري وأخوانه يدوّي بالقرآن في كل الأصقاع، فتحقق ذلك – في تصوري – جزء من نبوءة سيدنا رسول الله حين قال: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزّ عزيز، أو بذلّ ذليل، عزّاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر»( ).
وكان بذلك سنة حسنة، له أجرها وأجر من تبعه عليها إن شاء الله، وما كثرة الختمات المسجّلة الآن على مختلف إبداعات العصر من وسائل التسجيل( )، إلا مظهر لما ذكرت لو كان الناس يعقلون.
ثامناً- من مظاهر الحفظ تفنن وسائل الإعلام – الصالحة والطالحة – في عرض القرآن وبث أجمل الأصوات وافتتاح بثّها بالقرآن، حتى سمعنا بأن قناة إسرائيل العربية كانت تفتتح بالقرآن، وحتى وصل الأمر الآن إلى تخصيص قنوات للقرآن وقراءات القرآن، فأصبح القرآن يدوّي في كل مكان معلناً أن لا إله إلا الله وأن الأمر كله لله، وأن العاقبة للمتقين أحب من أحب وكره من كره.
ولا تفسير لذلك – عندي – إلا أنه مظهر معاصر من مظاهر حفظ منزل القرآن لهذا القرآن لتبقى الحجة قائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
تاسعاً- من مظاهر الحفظ ما حصل من استدلال عجيب بالقرآن أو استعمال لآياته ضمن الكتب من تفاسير وفقهيات وغيرها وضمن وسائل الإعلام المختلفة المكتوبة والمسموعة، بحيث لو فرض انقراض نسخ القرآن من العالم كله – وهو أمر مستحيل عادة – لأمكن جمع القرآن وإعادة كتابته كاملاً من الكتب المتفرقة والجرائد والمجلات المتنوعة، فضلاً عن كتابته من التسجيلات التي لا تكاد تخلو منها بيت بحمد الله.
وهذا – كذلك – لا تفسير له إلا أنه فعل من إذا أراد شيئاً، قال له كن فيكون ولا راد لأمرِه، ولا معقب لحكمه.
عاشراً- من مظاهر الحفظ الرباني جمهرة أخرى لم تذكر، تَعْسُر على الحصر آثرت الإشارة إليها خشية الملالة من كثرة الإطالة.
من ذلك:
– معاهد تحفيظ القرآن والمدارس القرآنية التي لا حصر لها ولا عد.
– علوم القرآن وما تفرع عنها من تخصصات حتى أنشئت كليات للقرآن وعلومه استقلالاً عن كليات سائر العلوم الإسلامية.
– الحجم الهائل من كتب اللغة والأدب الذي حفظت به لغة العرب التي نزل بها القرآن من الإندثار، وهي وعاءٌ لهذا القرآن، فحِفظُها حفظ له، وضياعها ضياع له.
– كيد الأعداء الذي لا يعلم مداه إلا الله والذي كادت تزول منه الجبال مع غفلتهم عن مكر الله بهم، وأن كيدهم حفّز الهمم وزاد من إقبال الناس على القرآن وأن لكل فعل ردة فعل، وما حكاية طباعة مصاحف محرفة من قبل اليهود عنا ببعيد، وكذا أحداث 11 أيلول وما نتج عنها مما لم يكونوا يحتسبون، من نفاذ نسخ القرآن من مكتبات الغرب وإقبال الناس على هذا الدين من جديد، وغير ذلك من عجائب تدبير المولى عز وجل.
هذا وإن هذا الموضوع جدير ببحث مستقل، والكتابة فيه لا تُمل، إلا أن لكل شيء حدا محدودا، ولكل بداية نهاية، وحسبي هنا تمهيد الطريق لمن يحسن مواصلة المسير، والدلالة على خير نفعه عميم، وأجره – إن شاء الله – عظيم.
(من رسالتي عن القراءات والتواتر، قيد التصحيح للنشر، إن شاء الله)