من تراثنا

الدكتور يحي بوعزيز من خلال مذكراته: «رحلة في فضاء العمر» (ج 2)

أ.د. مولود عويمر/

منذ أن أصدر الأستاذ مالك بن نبي الجزء الأخير من مذكراته في عام 1970، وأحمد توفيق المدني سيرته الذاتية في عام 1977 قلَّما أصدر كاتب أو مفكر جزائري مذكراته يعبّر فيها بصدق وأمانة عن مساره وتجاربه في الحياة إلا في السنوات العشرين الأخيرة التي ظهرت خلالها مجموعة من المذكرات الأدبية. لقد غادرنا إلى عالم الخلود العديد من أدبائنا وعلمائنا وفلاسفتنا دون أن يكتبوا أو ينشروا مذكراتهم. هذه الصحوة المتأخرة في أدب المذكرات أو السيرة الذاتية نلمسها من خلال مذكرات عدد من الكُتاب الجزائريين التي ظهرت منذ بدايات القرن الجديد، وأقف هنا عند مذكرات المؤرخ المعروف الدكتور يحي بوعزيز (1929-2007) بعنوان: «رحلة في فضاء العمر».

في عالم الصحافة
للدكتور يحي بوعزيز قلم سيال، نشر مقالات كثيرة في الصحافة التونسية والصحافة الجزائرية. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل ولد مفطورا على الكتابة أم اكتسب بنفسه هذه الصنعة؟
كان جوابه واضحا، لقد صار كاتبا ولم يولد والقلم في يديه، بل كسب هذه الحرفة بالجد والعمل والممارسة وليس بالفطرة. قال في هذا السياق: «رغم تفوقي في مختلف المواد منذ أن كنت بعنابة فإن مادة الانشاء لم أدرسها ولم يكن لي عهد بها. ولذلك عندما التحقت بالزيتونة في تونس، كانت هذه المادة تؤرقني في السنوات الأولى وأخذت أقرأ الكتب وأطالع المجلات، وأحاول تطوير قلمي، وكانت لدي شبه عقدة في دروس الإنشاء، ومن حسن الحظ كان لجمعية الطلبة الجزائريين مكتبة مهمة … فأخذت أستعير منها الكتب والقصص المختلفة، والمجلات وأُكْثِرُ من القراءة والمطالعة، وشيئا فشيئا طوَّعت قلمي، واكتسبت مَلكة أدبية معتبرة، وبالطبع كان لتوجيهات الأساتذة وبعض الزملاء من الطلبة دور في هذا التطوّر».
تعاون بوعزيز باستمرار مع جريدة «الصباح» التي كان يديرها الهادي العبيدي فكان ينشر فيها مقالا كل أسبوع حول الثورة التحريرية ويرصد تطوراتها في الميادين المختلفة. ووجدنا هذا الاهتمام بيوميات الثورة عند مثقف جزائري آخر وهو عبد الله شريط، الذي نشر عددا لا يحصى من المقالات حول أصداء الثورة الجزائرية في الصحف العالمية، وجمعها فيما بعد وأصدرها في كتاب من عدة أجزاء.
كما كتب بوعزيز في الصحف الأخرى مثل: “لواء البرلمان”، “الشعب”، “صوت الطالب الزيتوني”، ومجلة “الفكر”. وقد جمع هذه المقالات وصنفها في كتاب مخطوط بعنوان”من أحداث ثورة أول نوفمبر: خيبات الوزير المقيم لاكوست”.
وبعد استرجاع الاستقلال، واصل بوعزيز عمله الصحفي، ونشر مقالات في العديد من المجلات والصحف الجزائرية مثل “الشعب”، “النصر”، و”الجمهورية”، “الشروق”…

في ميدان البحث التاريخي
أما دراساته وبحوثه الأكاديمية فكان ينشرها في المجلات العلمية والثقافية الجزائرية والعربية التالية: “مجلة الحضارة الإسلامية”، “مجلة جمعية جغرافية وآثار مقاطعة وهران”، “مجلة التاريخ”، “أول نوفمبر”، “التراث” (الجزائر)، “المجلة التاريخية المغربية” (تونس)، “الحرس الوطني” (السعودية)، “المؤرخ العربي” (مصر)، “مجلة البحوث التاريخية” (ليبيا)، “مجلة الكويت”، “أوراق” الإسبانية…
وقد بلغت بحوثه ودراساته في عام 2001 تسعين (90) بحثا موثقا بالرسائل والتقارير. فكان دائما حريصا على استعمال الوثائق في ثنايا بحوثه، وكذلك خارجها في كتب مخصصة للوثائق التاريخية جمعها من أمكنة مختلفة، وأذكر هنا على سبيل المثال الوثائق التي لها صلة بالمقاومة في القرن التاسع عشر مثل كتاب «كفاح الجزائر من خلال الوثائق»، أو الأرشيف له صلة بالحركة الوطنية والثورة التحريرية مثل كتابه: «من وثائق جبهة التحرير الوطني الجزائرية 1962-1954».
بدأت تجربة بوعزيز في مجال التأليف في تونس وهو مازال طالبا في جامع الزيتونة، فقد أصدر في تونس في عام 1957 كتابه الأول المعنون: «الأمير عبد القادر رائد الكفاح الجزائري». ولم يتوقف بعد ذلك في التأليف فأصدر أكثر من ثلاثين كتابا حول تاريخ المقاومة في القرن التاسع عشر، والحركة الوطنية في النصف الأول من القرن العشرين والثورة التحريرية بين 1954 و1962.
ومن أبرز مؤلفاته، أذكر هنا: «مراسلات الأمير عبد القادر مع إسبانيا وحكامها العسكريين بمليلية»، «مواقف العائلات الأرستقراطية من الباشاغا محمد المقراني وثورته عام 1871»، و»وصايا الشيخ الحداد ومذكرات ابنه سي عزيز»، «الاتجاه اليميني في الحركة الوطنية الجزائرية من خلال نصوصه»، و»الأيديولوجيات السياسية للحركة الوطنية الجزائرية من خلال ثلاثة وثائق جزائرية»، «الاتهامات المتبادلة بين مصالي الحاج واللجنة المركزية وجبهة التحرير الوطني بين 1946و1962»، و»الثورة في الولاية الثالثة»، و»ثورات القرن العشرين»…الخ.
كان الدكتور يحي بوعزيز من المؤرخين الجزائريين الأوائل الذين بادروا بدراسة تاريخ الثورة التحريرية، واذكر هنا بالخصوص: «الثورة في الولاية الثالثة» وقد اختار هذا الموضوع لسببين: توفر لديه معلومات كثيرة ومنها الشهادات الشفوية للمجاهدين وصناع الأحداث، وصغر رقعتها الجغرافية التي ساعدته على استيعاب أحداثها وتتبع تطوراتها وقائعها في الميدان. وقد دعم هذا العمل بالصور والاحصائيات ووثائق مهمة. كما جاء كتابه الجريء «الاتهامات المتبادلة بين مصالي الحاج واللجنة المركزية وجبهة التحرير الوطني» ردا على نقاش حاد وقع بعد محاضرته التي ألقاها في ملتقى تاريخي نظمته وزارة الثقافة في عام 1984 بمناسبة الذكرى الثلاثين لاندلاع الثورة التحريرية.

التدريس في المؤسسات التربوية والجامعية
بدأ مهنته التعليمية أستاذا للأدب العربي في ثانوية مصطفى فروخي بمليانة، وبعد عام انتقل إلى وهران للتدريس في ثانوية البنين، ثم عيّن في عام 1964 أستاذا للتاريخ والجغرافيا في معهد تكوين المعلمين بوهران. وعيّن عضوا في لجنة التأليف المدرسي، فألف كتاب “الموجز في تاريخ الجزائر” في عام 1965، وقد أصبح مرجعا لكل المدرِّسين وطلبة العلم في فترة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
لم يبتعد نظره عن الجامعة ولم يخفت طموحه لنيل الدرجات العلمية، لذلك عاد إلى مقاعد الدراسة في عام 1968، فسجّل في جامعة الجزائر لإعداد أطروحة الدكتوراه حول موضوع “ثورة المقراني وعائلة الحداد”، وانتدب إلى جامعة وهران ليتفرغ للبحث.
وقد ناقش هذه الأطروحة في أكتوبر 1976 ونشرها في سنة 1978. وقد أنجز هذا العمل وناقشه في ظروف صعبة كشف عنها في مقال نشره في مجلة «الأصالة»، وعاد إليها في هذه المذكرات بشكل مختصر.
وبعد عام من تتويجه العلمي، التحق الدكتور بوعزيز بجامعة وهران كأستاذ مساعد، وعيّن بعد ذلك رئيسا لدائرة التاريخ لمدة سنتين، ثم مديرا لمعهد الحضارة الإسلامية لمدة عام واحد ثم استقال واكتفى بالتدريس إلى أن استفاد من حقه في التقاعد.

رحلاته العلميـة
سافر الدكتور يحي بوعزيز إلى مدن جزائرية عديدة ليشارك في نشاطاتها الثقافية ويقدم فيها محاضرات تاريخية تخص تاريخ الجزائر العام أو التاريخ المحلي للمدينة أو المنطقة التي قصدها مثل تلمسان وقسنطينة وبجاية والأغواط…. وقد شارك أيضا في الملتقيات السنوية للفكر الإسلامي في عهد الوزير مولود قاسم الذي تربطه به علاقة متينة تعود إلى أيام التحصيل الجامعي في القاهرة، وألقى خلالها محاضرات حول تاريخ المدينة التي تستضيف في كل مرة أشغال هذه التظاهرة العلمية الدولية. وقد تجلت اهتماماته بالتاريخ الجغرافي والعمراني في اصداره مجموعة من الكتب حول تاريخ المدن مثل وهران وتلمسان والمساجد العتيقة في الغرب الجزائري.
كذلك سافر الدكتور بوعزيز إلى تونس مرات عديدة، وزار ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وعددا من الدول العربية سواء أيام الاحتلال أو بعد استعادة الاستقلال ليشارك في الملتقيات العلمية أو زيارة مراكز الأرشيف أو المكتبات الوطنية. وقد نشر تلك المحاضرات في كتابه «مع تاريخ الجزائر في الملتقيات الوطنية والدولية».
وجاءته دعوات من اسبانيا والبرازيل ومصر والعراق للمساهمة في المؤتمرات التاريخية لكنه لم يسافر إليها لظروف «مادية وبيروقراطية» حرمته من لقاء أقرانه من المؤرخين، وتقديم نتائج أبحاثه أمام الباحثين.
هل كان يدوّن مشاهداته في أسفاره ويسجّل انطباعاته عن رحلاته؟ ما نعرفه لحد الآن هو أنه تحدث عنها في مذكراته في حالات قليلة مثل ما علّق على رحلته إلى ألمانيا في مارس 1980 للمشاركة في المؤتمر الواحد والعشرين للمستشرقين في برلين أو ما لاحظه في رحلته إلى الحجاز لأداء فريضة الحج في أوت 1986 من سلوكات بشرية ومشاهد انسانية، وعبّر عنها في خواطر وتأملات ثاقبة.
كان منبهرا بالانضباط والجدية وغيرها من الضوابط العلمية التي سادت أعمال هذا المؤتمر الدولي والذي حضر إليه مختصون في الدراسات العربية والإسلامية من كل أنحاء العالم، وتأسف لعدم حضور بعض جلساته بسبب اللامبالاة والتهاون عند الوفد العلمي المغاربي الذي وصل متأخرا إلى قاعة المحاضرات. كما أعجب بالمقوّمات الحضارية السائدة في المجتمع الألماني كالجمال والنظافة المنتشرة في هذه البيئة الاجتماعية والالتزام الصارم لشعبها بالقانون والتطوّر الهائل في كل مجالات الحياة.
حرص الدكتور بوعزيز دائما في رحلاته في الشرق والغرب على زيارة مراكز البحوث والأرشيف، والمتاحف والمكتبات والأحياء الاسلامية في المهجر، والاتصال بالعائلة والأصدقاء الذين تعرّف عليهم خلال الثورة التحريرية في الجزائر وتونس ومصر، وكان من بينهم مؤرخون رحلوا عن هذه الدنيا، ولم يتركوا وراءهم مذكرات، باستثناء عدد قليل جدا من المؤرخين أمثال الأستاذ أبو القاسم سعد الله، الأستاذ صم منور، والأستاذ محمد حربي…
لقد كان الدكتور يحي بوعزيز شاهدا على أحداث بارزة في القرن العشرين، وشارك بقلمه ولسانه في الكفاح الوطني والنضال القومي، وقد استطاع أن يحفظ ذاكرة عصره من خلال سرده الممتع في مذكراته، وينقل تجارب جيله إلى الأجيال الأخرى، لتستلهم منها العبر في حياتها، فتأخذ من نجاحاتها وتتجنب إخفاقاتها.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com