القضية الفلسطينية

خمسة آلاف يوم في عالم البرزخ

أ.د حجيبة أحمد شيدخ/

لا يمكننا أن نعيش خارج غزة وخارج ما يحدث في فلسطين من انتهاكات للكرامة الإنسانية، بكل الطرق البشعة؛ الإبادة والتشويه والاعتقالات دون تفريق بين الأطفال والنساء والشيوخ …في غزة رأينا كل أنواع الوحشية التي مارسها وحوش الصهاينة، دون حياء ودون انضباط بالمواثيق الدولية، تُنقل إلينا كل صور البشاعة التي يمارسها أعداء البشر في استفزاز سافر للوجدان المسلم الذي أنهكته الغثائية …
من صور العذاب التي يعيشها أهل فلسطين الاعتقالات الظالمة لأطفالهم وشبابهم ونسائهم من قبل الصهاينة معتقدين أنهم بذلك يلوون أيديهم كي تخمد مقاومتهم ويستسلمون. ولكن التاريخ ينقل إلينا منذ القديم أن السجن يتحول عند كثير من الأشخاص إلى مكان للإبداع، بخاصة إذا كان هؤلاء ممن مارسوا فن المقاومة وفن الكتابة أو تأثروا كثيرا بعزلهم عن العالم، فرفضوا أن يكونوا أصفارا في طي النسيان.
«خمسة آلاف يوم في عالم البرزخ»، مذكرات للسجين الفلسطيني «حسن عبد الرحمان سلامة» القائد العسكري الحماسي القسامي، رفيق درب محمد الضيف (أبو خالد)، ويحي عياش، ويحي السنوار، ولد بخان يونس بغزة سنة 1971م. وهو الذي نفذ «الثأر المقدس» ضد اغتيال يحي عياش سنة 1996م… وعاش مطاردا إلى أن تم اعتقاله والحكم عليه ب 48 مؤبدا و35 عاما. قضى منها 14 عاما في السجن الانفرادي، وما أدراك ما السجن الانفرادي عند الصهاينة؟؟ .
في عالم البرزخ، إيحاء بأنها مرحلة بين الحياة والموت، كالحياة البرزخية التي يعيشها الإنسان في القبر من وفاته إلى أن يبعث حيا (لا هي موت ولا هي حياة )، تحدّث فيها عن أيامه التي قضاها بين سجون الصهاينة، وسجّانيها اللاإنسانيين، فكانت القراءة والكتابة والوصال الدائم بالله عز وجل الملاذ الوحيد…كانت هذه الفترة تتخللها ومضات أمل مثل: زيارات الوالدة، وكان توثيقه لها يحمل كل حب وأشواق الدنيا، يستمع إليها كالطفل الصغير، وتنقل له كل أخبار الأحباب، وهذه الزيارات كانت تخفف عنه آلام السجن، كانت حين تراه مقيدا ترفع صوتها قائلة: «ولا يهمك يما، هؤلاء لو إنهم مش خايفين ما عملوا معك هيك. اصمد يا حسن، وارفع راسك»(ص:48) كان كلاهما يظهر قوته لكي لا ينتشي العدو بقوته وجبروته، ومن قوى الأمل، خطوبته من «غفران زامل» وهي فتاة اعتقلت بتهمة العمل الإعلامي مع حماس في الضفة الغربية، وهبت نفسها للارتباط به، وبعد فترة من خروجها من السجن والتفكير الجدي بالموضوع، تمت مراسيم الخطوبة وعقد القران، وكان ذلك من الأمور التي فتحت له الأمل على العالم الخارجي، وغيرت من رتابة الحياة هناك، يقول عن خطوبته: «وكأن الله سبحانه وتعالى قد جعل هذا الأمر يدخل حياتي رغما عني حتى يكون فيه التخفيف عني، وفعلا هذا ما كان، فقد أنساني هذا الأمر كل همومي، وشعرت بنافذة أمل قد فتحت لي من جديد، وقد أعادني هذا الأمر للحياة من جديد…»(ص: 148)
ومن بوادر الأمل التي لاحت وتبخرت، خبر صفقة الإفراج عن الأسرى سنة 2011م وكان يعتقد أنه منهم واستثني مع مجموعة أخرى من ذلك. ولكن رغم الانتظار وخيبة الأمل لم يظهر ألمه وحزنه، فقد زاده ذلك إدراكا بقيمته في الحياة، و بأنه بعبع يرجف الصهاينة، فلازم الرياضة بكل شجاعة فلا انكسار أمام الأعداء ولا استسلام ولو داخل السجون، بل فرح مع شعبه لمن شملتهم الصفقة.
بكل شجاعة يعبر عن رضاه، يعطيك بكلماته دروسا قيّمة في الإيمان بالقضاء والقدر، وفي مفهوم الحياة عنده وعند أمثاله، يقول: «نحن متوكلون على الله والبيعة معه وحده وإرادته سائرة علينا، والخيرة فيما اختاره لنا، والحمد لله على ذلك ..» (ص:164)…
هذه المذكرات أمتعتني بعذوبة أسلوب صاحبها وقوة إرادته، وأبكتني كثيرا في تفاصيلها المحزنة، عشت معه النزوح من سجن إلى آخر ، رأيت كيف يحيا الفلسطيني داخل السجن وخارجه التضييق والتنقل الدائم من مكان إلى آخر …لا أمن ولا أمان، في عالم ظالم سيطر فيه أعداء البشر على قرارات الحياة .. وأنت تقرأ ملحق رسائله لا يمكنك أن تمسك دموعك، تقاوم الألم لكنه يغلبك،.. كانت بعض رسائله يبدأها بقوله : الأحبة الكرام : يامن تسكنون ذلك العالم الكبير الذي نسمع عنه دون أن نراه..نسأل الله الفرج لكل المعتقلين ولأهلنا في غزة:
﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾( هود /81).

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com