الثوابت والمتغيرات بين الدين والوطن
أ.د. عبد المجيد بيرم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
إنّ الاختلاف بين البشر حقيقة كونية، وقد اقتضت المشيئة الإلهية أن يكون النّاس مختلفين في أفكارهم، وتوجهاتهم على نحو ما هم مختلفون في صورهم وألوانهم، وألسنتهم. وتوهم حمل النّاس على رأي واحد مخالف لمقتضى هذه المشيئة؛ فهي طبيعة لا يمكن أن تنفك عنهم، وأسبابها كثيرة ومتنوعة تختلف باختلاف العوامل المؤثرة في اتخاذ هذا الموقف أو ذاك، فتباين أنظار الناس حول قضايا أو مسائل واختلاف مواقفهم إزاء الأحداث حالة صحيّة، إذا صدقت النيّات؛ وحُسنُ إدارتها والتعامل معها يجعل من هذا الاختلاف مصدر ثراء وعامل غنى، لا عامل تشتيت وهدم وفشل وتَوْهِين، لذلك يتعين تحديد الدائرة التي يسع فيها الاختلاف والدائرة التي لا يقبل فيها الاختلاف.
ثوابت الدّين
مما هو معلوم لدى طلبة العلم الشرعي المبتدئين أن في الدّين نصوصا قطعية في دلالتها وثبوتها، ونصوصا ظنيّة تحتمل أكثر من فهم، فالقسم الأول يمثل حقيقة الشيء وجوهره وأي اخلال به يؤدي إلى تغيير حقيقته، وأمّا القسم الثاني فمجال النظر والاجتهاد فيه وما يمكن أن ينتج عنه من خلافات سائغ، إذا صادف هذا الاجتهاد محله وصدر من أهله. والمحاولات المستميتة من أجل النيل من قطعيات الدّين تحت مسميات مختلفة، وذرائع متنوعة لم يخلُ منها عصر من العصور من المناوئين للإسلام في القديم من المشركين وأتباع الملل المختلفة، وفي الحديث من المستشرقين والعلمانيين وغيرهم، وكلها باءت بالفشل الذريع، وبقي الدّين شامخا وسيظل كذلك إلى قيام الساعة: «ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون».
وصدق فيه قول الشاعر:
كناطح صخرةً يوما ليوهنَها ***فلم يضرْها وأوهى قرنَه الوعلُ
ثوابت الوطن
وكما أنّ هناك ثوابت ومتغيرات في الاعتبار الدّيني، فإنّ الأمر سيان بالنسبة للوطن، إذ يشكل الدّين واللغة والانتماء والتاريخ والوحدة الترابية عناصر الهوية وقواطع الوطن التي لا يجوز المساس بها؛ لأنها تمثل قوامه وحقيقته، فإذا كان للدين قواطع لا يجوز أن تُتخطى، وحرمة لا يجوز أن تُنتهك، فكذلك الأوطان لها حقوق لا يجوز التفريط فيها وثوابت لا يجوز العبث بها، ولا يصح نكرانها، وكل محاولات التشكيك في الحقائق أو قلْبِها، أو استبدالها أو النيل منها يعدّ عقوقا للوطن وتنكرا للانتماء إن كان عن حسن نية وصدق سريرة أو عن جهل ، أمّا إذا كان عن قصد وسوء نية فهي خيانة، وارتماء في صف المعادين.
معيار الوطنية الحقّة
إنّ معيار وشرط الاجتهاد في الدّين بالإضافة إلى امتلاك أدواته ومعرفة مراتب الحكم الشرعي، هو طلب الحق، وأن يكون المجتهد طالبا للحق فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط.
فكذلك الأمر بالنسبة للوطن، فإنّ ممّا ينبغي في الحكم على التمييز بين الصواب والخطأ في القضايا التي يثور حولها الجدل، هو مدى استصحاب الأفراد والجماعات في اجتهاداتهم في هذه القضايا لمحورية عناصر الهوية، والثوابت التي تكفل الحفاظ على مصالح الأمّة، فبهذا فقط يمكن الفصل بين الصدق والكذب، وبين النقد المخلص والنقد المأجور.
فإذا وجدنا من يعادي الدين وثوابت الوطن والانتماء في جهة فإنّ الحق والصواب يكون في الجهة المقابلة ، وإذا انبرت الأقلام وتوالت التصريحات من شخصيات وتحرك الإعلام للدفاع عن فكرة أو شخص يقف في الجهة المقابلة علمنا يقينا أنّه يمثل الطابور الخامس الذي يتدثر بشعارات القيم الغربية البراقة، ويستخدم عبارة حرية الرأي المكفولة للجميع، التي أصبحت تُكأة لكلّ من يريد إثارة النعرات العرقيّة والطائفيّة، والإيديولوجية، بغية زعزعة النسيج الوطني من خلال استغلال مشاكل النّاس وحاجاتهم بنشر الأفكار والمعلومات المضللة للتمكين لمصالح جهات معادية، فالخيانة أصبحت عند بعضهم وجهة نظر، لكنّ هؤلاء يصمتون صمت القبور أمام الفظائع والجور، والعنف الذي يمارسه العالم الغربي على المستضعفين، لكي يحافظ على نفوذه ومصالحه، وما يحدث في السّودان، وفلسطين، وإفريقيا وغيرها من الدول، يقطع قول كل خطيب.
إنّ المواطن هو الذي يرى في وطنه الحصن الذي يحتمي به، لا مجرد بقعة أرض ومساحة جغرافية، بل هوية وانتماء وتاريخا ومصيرا ومسؤولية جماعية وأمانة، فيعمل على تعزيز وحدته ويقوم بالذود عنه، والرفع من شأنه.
ورحم الله العلامة ابن باديس حينما جعل شعار مجلته: الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء.