رأي

الكراهية في خطاب الزاوي التربوي (الجزء الثاني)

د. محمد مراح/

يتمادى الزاوي في الاستحماق الذي ينتهي به إلى حمق بئيس، فيسوق لنا النص الآتي ذكره للشيخ الإمام ابن باديس: «إن مدارس الحكومة العلمانية المحضة موجودة بالقدر الذي هي موجودة عليه فليؤمها المسلمون بأبنائهم دون غيرها… وبذلك يكونون قد أوصلوا أبناءهم إلى اللغة الفرنسية وما يعلم بها». الحمد لله يبدو أنه هذه المرة تذكر أهمية التوثيق المنهجي، فذكر تاريخ المقال (1934) الذي اقتطع منه مقتطفات؛ لكن الهوى اللائكي يزلقه لحفرة الحمقى؛ فالسياق التاريخي للمقال يختلف جذريا عن واقعنا التعليمي الحالي، فالتعليم العلماني الوارد في المقال كان جزءا من نضال جمعية العلماء المسلمين آنذاك لتطبيق العلمانية في المجالين الديني والتعليمي في الجزائر كما هو الحال في فرنسا؛ بفصل المدارس عن تأثيرات الفرنسية في التلاميذ الجزائريين، والمساجد بإعادة الإشراف عليها للمسلمين الجزائريين ورفع يد الإدارة الفرنسية عنها؛ أي عدم تدخل سلطة المستعمر في تسيير شؤون المساجد والأوقاف والتعليم الأهلي الذي باشرته مدارس جمعية العلماء. هذا من جهة ومن جهة أخرى كما قال الشيخ في المقال نفسه تحرى المدارس الحكومية العلمانية التي لا تدرس ولا تتعرض للدين بأية كلمة، حفاظا على النشء من الزيغ العقائدي. لكن حكمة الشيخ ابن باديس ونظره الثاقب، جعلاه يوجه تلاميذ مدارس التربية والتعليم التابعة للجمعية، وأولياءهم لارتياد المدارس الحكومية الفرنسية لتعلم اللغة الفرنسية لغة العلم يقينا في تلك الحقبة، وإعداد جيل متعلم بتوازن معرفي أصيل وعصري.
إذن ليس الأمر كما عمل المحتال الزاوي على تأويله تأويلا منحرفا خبيثا كعادته؛ يبتغي أن يجره لواقعنا بتدليس الحقائق بقوله: «واليوم أيضا لا يمكننا تحقيق الاطمئنان السياسي لبلدنا إلا بتحييد المدرسة وإبعادها عن الدين وتعميق البعد المعرفي والتربوي والعلمي فيها، وذلك هو خلاص الجزائر والدول العربية والمغاربية من أمراض التطرف والإرهاب»، لا أبدا هذا مبتغاه ومبتغى الأقلية اللائكية التي لا تمل العبادة في هياكل العلمانية الفرنسية التي تدفع فرنسا اليوم ثمنها غاليا من منزلتها الدولية، وتماسكها الاجتماعي داخليا. وتريد الذيول أن ندفع معها ثمن مستقبل بلدنا واستقلاله في ظل التحولات العالمية المفزعة الناشئة، تغييرات لم يشهد لها العالم في تاريخه مثلا من تعقيدها، ومخاطرها.


يعرض عَرَّابُ رُهَابُ الإسلام؛ درسه الثمين لعلاج «وباء الإسلام المستشري» في المنظومة التربوية : عبر التحريض على إفراغ المنظومة التربوية من التعليم الإسلامي، والتوسل لهذا التحريض الرخيص السافل بالأكاذيب والإغراءات على الأداء التدريسي؛ يَفْجُر قائلا: «علينا مراجعة المنظومة المدرسية: علينا، وبعد الخروج من هذا الوباء، أن نعيد وبشجاعة، النظر كلية في منظومتنا المدرسية برمتها، إعادة ترتيب الأولي والثانوي في برامجنا الدراسية. أن نحرر المدرسة من تجار الأيديولوجيا فيها، وأن نعيد المدرسة الى مهمتها الأساسية: تلقين العلم والمعرفة والمواطنة. أن نحرر التلميذ من منافقي وتجار السياسة والدين الذين عوضوا دروس الفيزياء بدروس الدعوة الدينية، وعوضوا دروس الرياضيات بدروس غسل الميت، وأرسلوا تلاميذنا إلى المقابر ليتعلموا طرق دفن الميت بدلاً من دروس الموسيقى والفن التشكيلي والرياضة». المؤكد أننا أمام خبير تربوي مزيف دعي منتحل الصفة؛ إذ لم يشك يوما تلاميذ أو أولياؤهم أو مشرفون أو مفتش على المدارس في ربوع الوطن من معلمي وأساتذة المواد العلمية المذكورة، تحويل موادهم العلمية لتدريس ما يدعيه الزاوي الكذاب، وإن حدث فهو نشاز واستثناء. تسفه نتائج البكالوريا كل سنة تقريبا إدعاءاته ؛ فالمتفوقون والمتفوقات و هن الأكثر في نتائج البكالوريا على المستوى الوطني يجمعون بين التفوق الباهر في المواد العلمية، والأدبية، وحفظ القرآن الكريم، والالتزام الديني العميق، والخلق الإسلامي الرفيع .
مسألة أخرى؛ يلقي الزاوي بقلمه المهترئ في مسألة تعليمية تاريخية في الجزائر الاستقلال، بجهل أو بأكاذيب وافتراءات أو بهما معا، وهو الأصح في تقديري؛ فنحن لسنا أمام كاتب مسؤول عما يكتب، إنما أمام صعلة تتقلب في المواقع المشبوهة بزاد «علمي» هزيل، وفكر مسطح كسيح الإدراك. المسألة المرادة من حديثنا هنا هي (التعليم الأصلي) في الجزائر؛ فعلى الرغم من أنه إبن تلك المرحلة من الناحية التاريخية إلا أنه يدخل للحديث عنه من باب الجهل الأعظم المركب، والكذب الموصوف المبيت؛ يقول: «في الجزائر، كانت تركيبة المجموعة الإسلاموية الأولى من الطلبة المعربين أي آحاديّي اللّغة، وغالبيتهم جاءوا من معاهد التعليم الديني التي أسسها مولود قاسم نايت بلقاسم الذي كان وزيراً للشؤون الدينية والأوقاف في السبعينيات، والتي كانت تعتبر تعليماً موازياً للتعليم الجمهوري أو المدرسة الجمهورية. وقد جمع في هذه الثانويات مجموعة من الشباب الذين فاتهم سن الدراسة وقد تحصلوا على بعض التعليم الديني وقد خصصت لهم شهادة بكالوريا خاصة كانت تسمح لهم بالالتحاق بالجامعات، وبالتالي أغرقوا كليات الآداب والعلوم الإنسانية، وغالبية هؤلاء الإسلامويين ينزلون من أصول ريفية دخلوا المدينة فوجدوا أنفسهم وكأنهم على الهامش، فكان ردهم على ذلك بالتميز وتربية ثقافة الرفض والعنف التي ستبدأ في الظهور أساساً في الجامعات (الجزائر العاصمة، وهران، قسنطية) وأيضاً في المدن الجامعية، وستكون الحلقات الأولى الأيديولوجية للدعوة والتعبئة حول «كتب مالك بن نبي «وابن تيمية». هذا النصّ يدين صاحبه بأخس خلق ألا وهو احتقار أصول فئات من الجزائريين بسبب أصولهم الاجتماعية، ممّا يضعه تحت طائلة التجريم العنصري والكراهية بسبب الأصل. لهذا فإن كل ما يصدر عنه في الموضوع، يكون ملوثا بإشعاعات العنصرية والعرقية والتحقير والاستعلاء؛ لذا فلا قيمة لأي تقييم يصدره في الموضوع.
كما يلاحظ عليه أيضا رصيد الجهل المظلم المبثوث في طياته: أما الأصول الاجتماعية لتلاميذ التعليم الأصلي بمرحلتيه الرئيستين: معاهد التعليم الديني لتخريج إطارات لوزارة الشؤون الدينية، والذي أنشأه وبعثه محمد توفيق المدني رحمه الله تعالى {1899 ـــــ 1983} أول وزير للأوقاف في بداية الاستقلال، ومرحلة التعليم الأصلي الذي قاده مولود قاسم نايت بلقاسم رحمه الله تعالى {1927 ـ 1992} الذي جاء تطويرا لتلك المعاهد، وبعث مسار تعليم مواز لتعليم وزارة التربية، في كلتا المرحلتين كانت تركيبة التلاميذ والطلاب من الجنسين، ومن المدن و الضواحي والأرياف إذا أخذنا معهد قسنطينة نموذجا لخصوصيته تقاس عليه باقى المعاهد.
ومما أتاه الزاوي في هذه المسألة؛ الانتقاص من الطلاب فيها من جهة اللغة العربية؛ فالوثائق والدراسات والشهادات الحية تفيدنا بأن التعليم الأصلي وإن جاء لتعديل الميزان مع تعليم مدارس وزارة التعليم والتربية الذي غلب على مواده العلمية خاصة تدريسها بالفرنسية؛ فمن المنطقي والواجب أن يأتي التعليم الأصلي وقد هيمنت اللغة العربية على لغة مواده، أما البرنامج والمواد فإضافة للشرعية منها والعربية؛ قررت المواد الآتية الذكر: المنطق – الفلسفة – علم النفس – التاريخ – الجغرافيا – الرياضيات – الفيزياء – الكيمياء – العلوم – اللغات وهما لغتان – الرسم – الموسيقى – التربية البدنية .
بمقتضى مجمل مواصفات الزاوي سابقة الذكر؛ لا غرابة أن تقصر مداركه عن التفطن إلى الأثر المباشر لمؤسس ورائد التعليم الأصلي في مرحلته الموسعة المرحوم مولود قاسم على مشروعه الذي أقنع به الرئيس بومدين رحمه الله تعالى، فلو لم تتوفر للدارس الوثائق التاريخية اللازمة لتناول هذا الموضوع، للتحدث عن شخصية برامج هذا المشروع التعليمي الكبير على كل المستويات والجوانب؛ فلا يتصور أن يبعث علم فكري وعلمي وثقافي متعدد اللغات، واسع الثقافة، ذواقة لأرقى فن موسيقى غربي «السمفونيات» مشروعا تعليميا منزو عن العصر ومتطلباته؛ وعلى رأسها تعلم اللغات.
أما قول الأفك الآثم: «الحلقات الأولى الأيديولوجية للدعوة والتعبئة حول» كتب مالك بن نبي «وابن تيمية» فلو ترك عضوا غير العضو الطبيعي في بدنه يكتب نيابة عن يده، أو يتكلم نيابة عن لسانه؛ لكان أهدى سبيلا للحقيقة: فإن كانت بواكير الوعي الإسلامي الحضاري من خلال حلقات المفكر مالك بن نبي في بيته وفي مسجد الجامع بالجزائر العاصمة؛ فإن ضم كتب شيخ الإسلام ابن تيمية مصدرا للدعوة في بدايتها ينطق بأوسع معاني الجهل وهمجية الإدعاء؛ فالدعوة الإسلامية الحركية في الجزائر تأثرت بكتاب ومفكري حركة الإخوان المسلمين: حسن البنا وسيد قطب ومحمد قطب وفتحي يكن رحمهم الله جميعا، وبالإمام أبي الأعلى المودودي . وفي مرحلة تالية برزت الحركة السلفية فكان من الطبيعي أن تكون كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية رحمهما الله تعالى في طليعة مراجعهم وتكوينهم الشرعي والعلمي.
أما حقارة الوصف فتتجسد في قوله: «وغالبية هؤلاء الإسلامويين ينزلون من أصول ريفية دخلوا المدينة فوجدوا أنفسهم وكأنهم على الهامش، فكان ردهم على ذلك بالتميز وتربية ثقافة الرفض والعنف»، فنضمها لتقييمنا السابق؛ من أنها قطعة العنصرية الجاهلية يهدهدها الزاوي بأنفه. فأسباب العنف والصدام بين الإسلاميين واليساريين الماركسيين تحديدا معروفة حد البداهة، وحصرها في البعد اللغوي والأصل الاجتماعي جهل ضج الجهل من جهل صاحبه. أما من ناحية الملاحظة الشخصية فقد علّمَنا في المرحلة الثانوية في تبسة في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين أساتذة تخرجوا في دراستهم ما قبل الجامعة في هذه المعاهد، من أنبل وأخلص الأساتذة، وأكثرهم اقتدارا معرفيا وتربويا، وأنجحهم في مهاماهم التربوية، مزدوجو اللّغة، واسعو الإطلاع . كذلك يمكننا هنا أيضا إدانة الزاوي من خلال إشارة وردت في مقال قديم له: «ولكن إذا كان “الشيخ عبد اللطيف سلطاني” رحمه الله قد أثر بالإمامة، ولكن أثر أيضا بالكتابة، كما أثر قبله مالك بن نبي والشيخ الإبراهيمي». فسياق الإشارة لمالك بن نبي رحمه الله ترجح التأثير الإيجابي لفكره وحلقاته المعروفة، ويدور الزمن دورته لينفلت الزاوي من عقله، فينقلب التاُثير الإيجابي إلى سلبي!!
يرمى زورا وبهتانا المربين المعربين قاطبة بعبارة ساقطة حقيرة مبتذلة سوقية؛ قال: «منذ نصف قرن ويزيد قليلا، لم يفتح جنود الفتح الإسلامي الجدد في الجزائر أفواههم طالبين إنقاذ المدرسة من الرداءة التي أتت عليها»12. فالكلام مُرَكَّبُ أوبئة: وباء رُهاب الإسلام «إسلاموفوبيا»، و وباء الكذب. فأي قيمة أخلاقية اجتماعية تسع تطاوله بسوقية على آلاف المعلمين والمربين الذين مرّوا بهذه المهنة الشريفة، وأكثرهم أداها بإخلاص واقتدار وتفان وتضحية. ومن ليالى أكاذيبه الطويلة؛ أنه يهرف متهورا بأن المدرسة الجزائرية تدحرجت نحو الرداءة منذ خمسين سنة، وقد يسفه قوله تخرج آلاف المتميزين الذين برعوا في ميادينهم العلمية ثم المهنية في شتى المجالات داخليا وعالميا .
أما الافتراء على المعربين بأنهم لم يطالبوا بإنقاذ المدرسة من الرداءة، يدحضها النضال النقابي والتربوي الذي مارسه المربون والمعلمون منذ تسلم التربية والتعليم التيار اللائكي الفرنكوفوني والفرنكوفيلي الذي أعلن الحرب على مقومات الهوية الوطنية: الإسلام والعربية والتاريخ، وأخرج التلاميذ للشارع يصرخون «التاريخ إلى المزبلة»، ثم كللوها بالمحرقة التي نصبوها بتقرير بن زاغوا، الذي كانت تلك غايته الكبرى، أما النقلة المنهجية تربويا وعلميا وفق أحدث وأنجح الابتكارات والتجارب العالمية فلم تكن المقصد؛ لأن اللجنة لم تكن مؤهلة معرفيا واطلاعا على ذلك؛ والسبب الجوهري أنها حبيسة الرؤية والثقافة والنموذج الفرنسي، المتخلف قياسا لنماذج وتجارب دول غربية متطورة . خاصة المنتهجة النهج الأنجلوسكسوني. فضلا عن فنلندا والدنمارك وغيرهما.

*الاقتباسات موثقة بدقة في :
https://mohamedmrah.com

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com