عــــــائد من جانـــت: مشاهدات وملاحظات
أ. إبراهيم بن ساسي *
• توطئة
شاء الله أن أُختار ضمن وفد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين برئاسة رئيس الجمعية البرفسور عبد المجيد بيرم والرئيس الشرفي للجمعية البرفسور عبد الرزاق قسوم وأعضاء من المكتب الوطني لتنشيط ندوة تاريخية في مدينة جانت بمناسبة الذّكرى السّبعين لاندلاع ثورة نوفمبر التحريرية مع نشاطات دعوية وتربوية
[من 15 إلى 17 نوفمبر 2024م]
ولم يقدرّ الله لي أن أزور مدينة جانت رغم زيارتي لولاية إيليزي وبعض دوائرها وتعتبر جانت عاصمة للتاسيلي وهي الواقعة في قلب الصحراء الكبرى
• الموقع والحدود
يحدّها من الشّمال ولاية إليزي وليبيا، ومن الغرب ولاية تمنراست ومن جهة الشّرق دولة ليبيا الشّقيقة، ومن الجنوب ولاية تمنراست ودولة النّيجر، وتبعد ولاية جانت عن العاصمة الجزائرية ب 2300 كلم وعن حدود ليبيا ب100 كم و عن حدود النيجر ب 200 كلم وعن ورقلة بحوالي 1460 كم
• المساحة والسكّان
وتتربّع ولاية جانت على مساحة قدرها 84.168 كلم مربع ، ويبلغ تعداد سكانها 26.598 نسمة موزعين على بلديتي جانت وبرج الحواس وهي واحة مأهولة بالسكان التوارق ممّن يتكلّمون اللّهجة الأمازيغية (التارقية) مع قلّة من الوافدين الذين استوطنوها منذ عقود قريبة
• تسميتها
أُخذَ اسم جانت لما كان فيها من جنّات واخضرار
• السيّاحة في جانت
لهذه الولاية الشّاسعة قدرات سياحية وثروات منجمية هائلة تؤهلها أن تكون قطباً اقتصادياً هامّا إذ تشهد سنوياً تدفّق أفواج هائلة من السوّاح الجزائريين ومن شتّى بقاع العالم ولها مؤهلات سياحية وتراث حضاري ومعماري وعمراني كقصور (الميهان وزلواز وأجاهيل) المصنفة تراثاً وطنياً ضمن القطاعات المحفوظة
كما تمتدّ عبر إقليمها الفسيح الحظيرة الوطنية الثقافية (الطاسيلي) التي تُعدّ أكبر متحف في الهواء الطّلق لما تحتويه من تشكيلات جيولوجية وكهوف صخرية وبركانية ونقوش ورسومات تعود إلى ما قبل التاريخ، وقد صُنفت تراثا عالميا سنة 1982م
• أعضاء الوفد
يضم الوفد :
– البرفسور عبد المجيد بيرم رئيس الجمعية
– البرفسور عبد الرزاق قسوم الرئيس الشرفي للجمعية
– الشيخ عبد الغفور صيافة مسؤول لجنة الدعوة والإرشاد والإفتاء
-الأستاذ أشرف شنه عضو المكتب الوطني ونائب الأمين العام للجمعية
– الأستاذ إبراهيم بن ساسي المنسق الجهوي لشُعب جمعية العلماء في الجنوب الجزائري
-الشيخ الداعية محمد مكركب أبران عضو المجلس الوطني لجمعية العلماء
• منقبة وأية منقبة !
إنّ وجود الرئيس السابق للجمعية ضمن الوفد فيه دلالة وصل ووفاء ومعرفة فضل لأهله ، عكس كثير من الجمعيات والهيئات والأحزاب ، والمنقبة الأكبر أن جميع الرؤساء الذين تولوا رئاسة الجمعية مُنِحوا لقب الرئيس الشّرفي للجمعية وهي لعمري منقبة وأي منقبة !
• أولى الملاحظات
لقد صدع رؤوسنا بعض المستلبين في مدحهم للغرب وتحضّر أهله
بيدّ أنّني رأيت في هذه الرّحلة عكس ذلك ! فحين توقفت الطائرة في أرضية مطار الشيخ آمود بن المختار بجانت قام جميع السوّاح الأوربيون وتحلّلوا من أحزمتهم الأمنية وأخذوا يتأهّبون للنّزول وأبواب الطائرة مغلقة وظلّوا لدقائق واقفين بينما بقي أغلب الركاب جالسين في هدوء فقلت لصاحبي من قال إن هؤلاء الغربيين متحضّرون ، أنظر حبيبي كيف انقلبت الأمور !
ولعلّ أبرز الملاحظات برمجة جل الرحلات لولايات الجنوب الكبير في ساعات الليل وقبيل الفجر والسؤال هو ما السّر في اختيار هذه الأوقات الصعبة والميتة حيث يصل الراكب لمطار إيليزي أو بشار أو ورقلة أو تندوف أو جانت الساعة الثانية أو الثالثة صباحاً وقد يكون منفرداً وربما مريضا والمطار على بعد عشرين أو ثلاثين كلم
فمن يوصله ؟ وأي نزل يقصده ؟! أسئلة لن تجيب عنها سوى إدارة الخطوط الجوية ، فأين نواب الأمّة في هذه الولايات التي تصدُق فيها النشرات الجوبة حين تسميها : [ باقي الوطن ! ]
ملاحظة ثالثة وأخيرة بهذا الصدد ، حين نزلنا في مطار جانت بقينا حوالي ساعة ننتظر حقائبنا وأمتعتنا متسائلين عن هذا الإهمال واللامبالاة وحين تصدّق علينا أحد موظّفي المطار بالحديث قال جملة واحدة واختفى: [ليس لنا سوى عامل واحد!]
• إنزال غير مسبوق
أوّل ما بُرمج لوفد الجمعية في جانت دروس الجمعة ودروس بين المغرب والعشاء شملت مساجد كثيرة حيث تركت انطباعات طيبة في نفوس المواطنين واعتبروا وجود هؤلاء الشيوخ إنزالاً غير مسبوق إذ لم يزر مدينة جانت هذا الكم من العلماء والدعاة
• ندوتان علميتان فكريتان
– الندوة الأولى سيّرها عضو المكتب الوطني الأستاذ أشرف شنّه باقتدار، وتداول على المنصة السادة:
01 البرفسور عبد الرزاق قسوم الرئيس الشرفي للجمعية محاضراً حول: دور جمعية العلماء إبّان الحقبة الاستعمارية
02 البرفسور عبد المجيد بيرم رئيس الجمعية محاضراً حول: دور جمعية العلماء المسلمين بعد الاستقلال ودعمها للقضية الفلسطينية
03 الشيخ عبد الغفور صيافة عضو المكتب الوطني للجمعية مسؤول الدعوة محاضراً حول: خصائص جمعية العلماء المسلمين وسمات رجالها.
04 الشيخ الداعية محمد مكركب محاضراً حول: مبدأ الاستمرارية في العمل الدعوي والإصلاحي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين
05 الأستاذ إبراهيم بن ساسي المنسق الجهوي لشعب الجمعية في الجنوب الجزائري محاضراً حول: سمات التّوفيق في حياة العلماء
وبعد أنشودة لبراعم الكشافة الإسلامية عرض فيلم وثائقي عن حفل تأسيس الجمعية لتبدأ الندوة الثانية التي نشّطها الأستاذ علي الطالب عبد اللطيف وحاضر فيها كل من: الشيخ فوندو بوجمعة والأستاذ يوسف أوقاسم حول عطاءات علماء المنطقة
واختتمت الأشغال بتكريم الأساتذة والعلماء المشاركين
كما كرّمت الجمعية السيد والي ولاية جانت ومدير الشؤون الدينية ورئيس شعبة جانت
• على غير العادة والجميل في هذه الندوة الحضور المكثف للسلطات المحلية والأمنية ومتابعتها للتظاهرة باهتمام لافت على غير العادة وهو ما استحسنه وفد الجمعية وجمهور الحاضرين
ترحاب وحفاوة ، بداية من رئيس الشعبة الأستاذ الشيخ النشط بوجمعة فوندو والفريق المساعد له من أعضاء الشعبة ومعاونيهم ، وكلّما تنقّلنا إلى مكان كان الترحاب وآيات الثناء في المؤسسات السياحية والمساجد والأسواق فسكان الطوارق تغلب عليهم الطيبة والكرم وهو ما عبر عنه رئيس المجلس الشعبي البلدي لبلدية جانت حين استقبل الوفد وعبّر عن سروره البالغ بجمعية العلماء بل وأكد على أن قاعات بلديته كلّها مقرّات لشعبة جانت الولائية خصوصاً أن رئاستها في يد أمينة متمثلة في الشيخ النشط السيد أبوجمعة فوندو فهو معلم الأجيال في جانت
• في حظيرة التاسيلي
نظّمت لأعضاء الوفد جولة في حظيرة التاسيلي للتعرف على كنوزها الطبيعية ونقوشها الصخرية وتقع على بعد حوالي 25 كم من واحة جانت على الحدود الشرقية لعرق آدمر في منطقة تيغرغارت ويعود تاريخ هذه الرسوم والنقوش إلى أكثر من 7000 عام
• البقرة الباكية
توقّفنا عند نقش للبقرة الباكية وهي من بين أبرز النقوش التي تركها سكان منطقة الطاسيلي الأقدمون، وقداختلف الاختصاصيون في علم الآثار والحضارات القديمة حول تفسير سبب البكاء فمنهم من يرى أنّها كانت تبكي من شدة القسوة التي كانت تعاني منها يوميا من حمل الأثقال والأعمال الشاقة، وكم نرى اليوم من بقرات باكيات تبكي لقهر وجور وغياب عدل!
وبعد مسيرة ربع ساعة توقفنا أمام صخور هائلة ترك الأولون على أسافل سفوحها آثارهم، فشاهدنا نقشاً بديعاً لسبع بقرات عجاف فتذكرت المنام الذي فسره نبي الله يوسف لملك مصر، ويبدو أن الأقدمين أرادوها رسالة لمن يأتي بعدهم بأن منطقتهم هذه كانت يوما ما مروجاً وسهولاً خصبة ومراعي إلى أن غزاها الجفاف فاستحالت إلى صحراء قاحلة يبكي لحالها الحيوان والإنسان
• الفيل والرجل الساجد
ونحن نقطع الفيافي توقفت بنا السيارات أمام صخور نحتتها الرياح فشكلت بها مجسمات لها إيحاءات، منها مجسم لفيل وليس ببعيد مجسم لرجل ساجد لله تعالى، وهنا تذكرت قصة سورة الفيل في محاولة أبرهة هدم البيت وأمام ضخامة هذا الحيوان قهره الله بحيوان لا يساويه بآلاف المرات وهو ما يدعونا لنسلّم الأمر لصاحب الأمر سجودا وخشوعا
• شاي على الرمال
بعد ساعة من التجوال أعد لنا المرشد فؤاد بالتو جلسة شاي شاركنا فيها رجال كرام من حماة الجزائر فكان للوطن حظه من النقاش وقد أجمع الجالسون على ضرورة حماية ثرواته السطحية والباطنية، هذا الوطن الذي وجب أن يظلّ هادئا آمنا بفضل رجال أخلصوا عملهم لله فكانت منهم التضحيات.
كما فعل أشاوس كثيرون إن لم يعرفهم كثير من الناس فإن الله يعرفهم كما قال الشيخ البرفسور عبد المجيد بيرهم في آخر تعليقه
• والختام مسك
آخر جلسات هذه الرحلة الميمونة أرادها مضيفونا عشاء فاخراً على مائدة دسمة في بستان من بساتين واحة جانت الساحرة بشواء جميل مكلّل بشاي لذيذ يزيل التعب والهمّ على قول القائل
لولا الأتاي ولولا البيض والعيس
لما كان بين الناس تأنيس
فالتاي يظهر ما في القلب من كدر
وقد يطيب به علم وتدريس
• بذور الأمل
بعد الذي وقفنا عليه من انسجام وتناغم وجدية من أعضاء الشعبة الولائية لجمعية العلماء في ولاية جانت ووعود السلطات المحلية بالوقوف مع الجمعية وبرامجها التربوية والعلمية، فإنّنا نأمل في هؤلاء الشباب ليواصلوا رسالة العلم والعلماء ومن سبقهم في هذه الديار أمثال القاضي عبدو والمختار بن آمود وقائمة من المجاهدين الذين رفعوا راية الاستقامة والعلم والجهاد
رحم الله علماءنا ومجاهدينا وشهداءنا وحفظ وطننا في أمنه ودينه ولغته ووحدته وحدوده وجنوده ورزق أهلنا في أرض الرباط ثباتاً ونصراً.
* المنسق الجهوي لشعب الجنوب بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين