مفهوم الحضارة ومكوناتها في ضوء المقاربة الحضارية: إسهامات مالك بن نبي (الجزء الثالث)
أ.د. عبد العزيز برغوث*
berghout@iium.edu.my/
2- الحضارة: إرادة وقدرة صناعة التاريخ وإعادة تركيب المجتمع
ولكن عندما يتحدث بن نبي عن الحضارة فلا يقصد بها أي تجمع إنساني أو أي نمط أو نسق من أنساق الحياة، ولكنها شكل نوعي من الحياة والسلوك والفعل والأداء والتفاعل مع الواقع والمشكلات. ليس كل مجتمع إنساني يتمتع بوضع الحضارة ويعيش حالة تحضر، ولكن الحضارة نوع من التجمع والتنسيق، والتنظيم للوعي والسلوك والفعل بصورة فاعلة ومتناغمة تؤدي إلى تحريك الطاقات الاجتماعية، وتفعيل الإمكانات البشرية والفكرية والمادية بصورة تولد منها أفعال منتجة ومؤثرة تسهم في إنتاج الأفكار، وتغيير الشخصيات، وتطوير الوسائل والتقنيات اللازمة لتحضر المجتمع. والحضارة بهذا المعنى النوعي ليست تكديساً، ولا تلفيقاً، ولا تزويراً، ولكنها رغبة وقدرة وإرادة وفعل متماسك ومتوازن يأتي كنتاج طبيعي لبناء الإنسان وتسخير التراب وتفعيل الوقت. فخلق المركب اللازم لبناء التفاعل الضروري بين الإنسان والتراب والوقت في محصلته يعطينا مفهوماً أولياً لمعنى الحضارة كواقع اجتماعي يهدف إلى تحضير الإنسان، ومواجهة ظروف بناء حياة متوازنة ومتطورة.
يقول بن نبي: «فالحضارة ليست كل شكل من أشكال التنظيم للحياة البشرية، في أي مجتمع كان، ولكنها شكل نوعي خاص بالمجتمعات النامية. بحيث يجد هذا الشكل نوعيته في استعداد هذه المجتمعات لأداء وظيفة معينة ليس المجتمع المتخلف في حالة تكيف معها لا من حيث رغبته، ولا من حيث قدرته، وبعبارة أخرى: لا من حيث أفكاره، ولا من حيث وسائله. وأن هذه الرغبة وهذه القدرة لدى المجتمع المتحضر ناتجتان ليس عن تكديس منتجات الحضارة، ولكن عن تركيب أصيل لعناصر: الإنسان والتراب والوقت.»
وإذا كانت الحضارة هي الواقع الحيوي الذي يخلق الرغبة والقدرة، ويولد الأفكار والوسائل اللازمة للتطور والتقدم، فإن هذا المعنى للحضارة متصل بتعليم الإنسان وتأهيله الشامل لمتكامل لوظيفة اجتماعية حضارية، باعتباره عضواً في جماعة بشرية معنية. وصياغة الشخصية البشرية صياغة تسمح لها بالعيش في مجتمع، وتأهيل الإنسان عموما ليبني علاقاته، وصلاته الاجتماعية المتوازنة والسوية مع أفراد المجتمع هو في جوهره تأهيل لهذا الإنسان، وتحضير له بالكيفية التي تجعله عضواً فاعلاً في مجتمع معين.
وعندما يدمج الفرد في شبكة علاقات اجتماعية، ويتحول إلى فرد داخل نظام اجتماعي، فإنه يتحول إلى قوة وإمكان حيوي داخل هذا المجتمع بحيث تكيف سلوكياته، وأفكاره، ومواقفه بالصورة التي تتماشى فيها مع النظام الاجتماعي العام للمجتمع. وبهذه الصورة يصبح هذا الفرد جزءاً لا يتجزأ من هذا المجتمع، وبهذه الصورة كذلك تصب طاقات الفرد، وتنظم إمكاناته لتصبح بدورها إمكاناً حيويا للمجتمع.
وبهذا المعنى تصبح الحضارة في عمقها هي أن يتعلم الفرد كيف يعيش في جماعة، وكيف يشكل جملة صلاته الاجتماعية مع المجتمع الذي يعيش فيه بحيث تنظم حياته بصورة تتيح له فرصة أداء دور تاريخي، ورسالة حضارية. «إن المعنى الأولي للتحضر: أن يتعلم الإنسان كيف يعيش في جماعة، ويدرك في الوقت ذاته الأهمية الرئيسية لشبكة العلاقات الاجتماعية في تنظيم الحياة الإنسانيَّة من أجل وظيفتها التاريخية» وعندما يدرك الفرد أهمية شبكة العلاقات، ودورها في صناعة التاريخ وبناء الحضارة يصبح هذا الفرد مدركاً للمعنى العميق للتحضر.
وبهذا المعنى تصبح الحضارة مسألة صميمة في البناء الاجتماعي كله، لأنها تتصل بجوهر المجتمع ألا وهو شبكة العلاقات الاجتماعية التي تؤهل الأشخاص للقيام بفعل حضاري تاريخي. والحضارة بهذا المعنى بناء وهندسة، وعمل منظم، وتوجيه مركز للطاقات، كما أنها مناخ ووظيفة يقوم بها مجتمع وفر شروط التحضر من رغبة، وإرادة، وقدرة، وأفكار، ووسائل، وتنظيم اجتماعي للطاقات. والحضارة كذلك هدف رئيسي، وقطب مركزي تتجه إليه البشرية وتسعى إلى تحقيقه وتحصيله.
كما أن الحضارة هي الاقتدار الجماعي على أداء وظيفة اجتماعية معينة ذات أبعاد تاريخية. وهي كذلك تعكس لنا في جوهرها قدرة الشخص، واستعداده ليتعلم كيف يتعامل مع الآخرين، وكيف يتفاعل معهم، وكيف يشكل معهم الصلات الضرورية للتطور والتقدم.
ومن ثم يمكن القول أن الحضارة لا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال شيئاً يستورد أو يستنبت في واقع ثم ينقل إلى واقع آخر، وليس بنوع من التكديس لمنتجات حضارة أخرى، ولكن الحضارة بالدرجة الأولى كما أكد بن نبي في الكثير من أطروحاته وكتبه: بناء وهندسة وتنظيم، وتخطيط وتوجيه وفعل منهجي، وقدرة وإرادة ورغبة في الفعل، وتعلم وتفاعل، وعلاقات وصلات.
ومادامت الحضارة بهذا المعنى العميق، وبهذه الأبعاد المتعددة والمتنوعة فهي تركيب، وتشكيل وبناء إنساني مفتقر في وجوده إلى الفعل والجهد البشري المركز والمنظم. وبالتالي فلكي نبني حضارة لابد لنا أن نصوغها في صورة مشروع، وفي صورة مخطط يبين لنا حقيقة الحضارة وأهدافها، ووسائلها، وشروطها، وقيمها، ومناهجها، وأبعادها والعوامل الأساسية الداخلة في هذا البناء.
3- الحضارة: صناعة الإنسان وتفعيل النظام الثقافي
وفي سياق آخر يضعنا بن نبي أمام مفهوم للحضارة مكمل للأول، وموضح لبعد أخر من أبعاد دراسة هذا المفهوم. وفي هذا البعد من أبعاد معالجة مفهوم «الحضارة» هناك تركيز واضح على ربط موضوع الحضارة برمته بالإنسان وبالعوامل البشرية وبشكل خاص بالمنظومة الثقافية. حيث أن التفكير في مشكلات الإنسان الاجتماعية والثَّقافيَّة، والسياسية، والاقتصادية، والأدبية، والمادية، والفنية إنما هو في جوهره، وأصله تفكير في مسألة الحضارة. ومادامت مسألة الإنسان متصلة بالحضارة فهي بالضرورة متصلة بالثقافة التي يعيش فيها الإنسان؛ بما في ذلك نمط حياته، وطرائق سلوكه، ومناهج تفاعلاته، وصور علاقاته وغيرها.
ومن هنا فنحن عندما ندرس مسألة الحضارة ونحاول تعريفها ينبغي أن لا تغيب عن أذهاننا هذه الصلة الوثيقة بين الإنسان والثقافة وتعريف الحضارة. وبهذا المعنى فإن الحضارة في عمقها إنما هي تلك الجملة من القيم الثَّقافيَّة الأخلاقية والجمالية والعملية التي يجسدها المجتمع، ويسلك على وفقها الإنسان في مختلف نشاطات حياته. فابن نبي يرى «أن كل تفكير في مشكلة الإنسان هو تفكير في مشكلة الحضارة، ولو أردنا محاكاة هذه الجملة بصورة أخرى ـ مع اعتبار ما بين الحضارة والثقافة من ربط وثيق ـ: لقلنا: أي تفكير في مشكلة الحضارة هو في جوهره تفكير في مشكلة الثقافة. وبذلك تكون الحضارة في جوهرها عبارة عن مجموع من القيم الثَّقافيَّة المحققة. وإذن فمصير الإنسان رهن دائما بثقافته.» إن هذا التعريف للحضارة يبين لنا بعض الأبعاد المهمة التي ينبغي أن نراعيها ونحن ندرسها وهي:
– مسألة الحضارة بوصفها مشكلة الإنسان الكبرى. (إن كل تفكير في مشكلة الإنسان هو تفكير في مشكلة الحضارة).
– مسألة العوامل الثَّقافيَّة في الحضارة (الحضارة في جوهرها عبارة عن مجموع من القيم الثَّقافيَّة).
– مسألة مصير الإنسان مرهون بثقافته. (فمصير الإنسان رهن دائما بثقافته).
وهذا التعريف إذن يوضح لنا الحضارة في صلتها مع الإنسان من جهة، وفي صلتها مع الثقافة من جهة أخرى. وبالتالي فدراسة الحضارة ينبغي أن لا تغفل قضية الإنسان وقضية الثقافة معاً.
4- الحضارة: الوظيفة الاجتماعية وتوفير الحاجات المادية والمعنوية للجميع
ويأتي بن نبي في سياق آخر بتعريف وظيفي للحضارة وذلك عندما يربطها بالمجتمع بأكمله، وبالوظيفة الأساسية لهذا المجتمع، وما ينبغي أن يضطلع به من المهام التي تصب في تقديم كل الضمانات، والمساعدات المادية، والأخلاقية، والمعنوية، والنفسية التي يحتاجها أفراده لكي يعيشوا حياة متوازنة، ويسهموا مساهمة فاعلة في تطورهم الذاتي، وفي تطور ومجتمعهم. فالحضارة من «وجهة نظر وظيفية: هي مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده، في كل طور من أطوار وجوده، منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه.»
إن هذا التحديد للحضارة يربطها بوظيفتها الواقعية العملية. والحضارة هي هذه القدرة التي يملكها المجتمع ليساعد بها أفراده ليحققوا أولاً التوازن والتكامل في ذواتهم، ثم ليحققوا التوازن الاجتماعي المطلوب في حاجاتهم المادية والمعنوية، بحيث يحصل التعادل والتوازن في سيرهم ونموهم المادي والأخلاقي. فلا تتغلب عوامل معينة على عوامل أخرى؛ بحيث مثلا يتضخم الجانب المادي في وعي الإنسان وسلوكه على الجوانب الأخلاقية أو العكس أو تلغى كل هذه العوامل تاركة مكانها للفوضى والتبعية والسير غير الموجه، والاتباع للأهواء والإيديولوجيات والاتجاهات المختلفة.
وهنا نجد بن نبي يصرح أنه «ما كان لحضارة أن تقوم إلا على أساس من التعادل بين الكم والكيف، بين الروح والمادة، بين الغاية والسبب، فأينما اختل هذا التعادل في جانب أو في أخر كانت السقطة رهيبة قاصمة.» ففي هذا التحديد للحضارة وهو تحديد وظيفي إجرائي يركز بن نبي على المسائل الآتية:
– مسألة العوامل الأخلاقية والمادية.
– التوازن والتعادل بين الكم والكيف والروح والمادة.
– مسألة أسبقية المجتمع ودوره الحيوي في مفهوم الحضارة.
– مسألة الضمانات أو المساعدات الضرورية اللازمة لتطور أفراد المجتمع.
– مسألة ضرورة استمرارية المجتمع في مد المساعدات وتقديم العون اللازم لأفرداه في كل مراحل حياتهم، وليس على حسب الظروف والأهواء.
وعليه وفقا لهذا التحديد تعتبر الحضارة واقعا مشروطا بتوفر العوامل المعنوية والمادية، وبتحقيق التعادل والتوازن بين الكم والكيف، والمادة والروح. وهنا يؤدي المجتمع دوراً حاسماً في تحقيق هذا التوازن، وتوفير الضمانات لأفراده. وبالتالي يمكن ملاحظة الصلة التي تقوم بين الحضارة، وبين مفهوم المجتمع. وبالتالي فدراسة الحضارة ينبغي أن تركز على العوامل الأخلاقية والمادية، وكذلك معالجة كيف يتاح للمجتمع توفير الضمانات أو المساعدات التي تحقق التَّطوُّر لأفراده.
5- الحضارة وأهمية نظام الأفكار والرؤية الحضارية
وفي سياق آخر يركز بن نبي على بعد مهم للحضارة، وذلك عندما يربطها بالأفكار، ويجعل الأفكار مكوناً أساسياً الحضارة، ودافعاً قوياً لها، وموجهاً لازماً لميلادها ونموها وتطورها في كل أطوارها. والفكرة في الحقيقة سواء أكانت فكرة دينية أو مبدأ أخلاقياً أو شرارة روحية هي التي تمد للحضارة في ميلادها بالزاد وهي التي تخرجها إلى حيز الفعل. وعندما نعرف الحضارة ينبغي لنا أن نحدد بدقة موقع الأفكار في ميلادها، وتشكلها، ووظيفتها. والأفكار تأتي بمثابة الموجه والمرشد الذي يبين للحضارة نظامها الفكري، وتصورها الحياتي، ونماذجها السلوكية، وأنساقها المعرفية والعملية.
وعندما تبدأ الفكرة في عملية توجيه المجموعة الإنسانيَّة للدخول في فعل حضاري فهي تطبع هذا المجموع البشري بنظام فكري يصبح بمثابة الصبغة الأساسية، والنموذج الأصلي الذي يتحكم في سلوكيات ومواقف هذا المجتمع في مراحله اللاحقة.
والحضارة هي في الحقيقة النتاج، والمحصلة سواء الفكرية أو الاجتماعية أو التربوية أو العلمية أو السياسية أو الأدبية أو العمرانية لفكرة منظمة ذات أبعاد حضارية وإنسانية. وهذه الفكرة أو النظام الفكري هو في الحقيقة الذي يُعطي للمجتمع كل خصائصه، وصفاته النوعية التي تميزه عن غيره من المجتمعات والثقافات. وفي هذا الشأن يؤكد بن نبي أن «حضارة ما هي نتاج فكرة جوهرية تطبع على المجتمع في مرحلة ما قبل التحضر الدفعة التي تدخل به التاريخ. ويبني هذا المجتمع نظامه الفكري طبقا للنموذج الأصلي لحضارته. إنه يتجذر في محيط ثقافي أصلي يحدد سائر خصائصه التي تميزه عن الثقافات والحضارات الأخرى.» في هذا التحديد للحضارة يمكن أن نلاحظ المسائل الآتية:
– مسألة الصلة بين الحضارة والأفكار.
– مسألة الصلة بين الحضارة والتاريخ
– مسألة الصلة بين الحضارة والنموذج الأصلي أو المرجعية الأصلية للمجتمع.
– مسألة الصلة بين الحضارة والمحيط الثقافي وخصائص المجتمع.
– مسألة الحضارة وأوضاع المجتمع ومرحلة تطوره.
* نائب مدير الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا سابقا. أستاذ بقسم المعارف الأساسية والدراسات البينية، كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية، الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا.