من لطائف البيان في ترتيب السور وآيات القرآن
أ. محمد مكركب/
هذه جلسة أدبية تأملية في رحاب مجالس علوم القرآن الكريم، ولطائف البيان في ترتيب آيات الذكر الحكيم،. والبداية بشئ من منهجية تدبر الوحي لفهم الخطاب القرآني، والتفقه في موضوع أسرار التناسب بين السور والآيات، فرغم نزول الوحي مفرقا، وفق القضايا، والوقائع، والأحداث، والنوازل، وما كان يطرح من الأسئلة والمسائل الاستدلالية، والغزوات الجهادية، فإن المصحف في أصله، كما ظهر وعُلِم بعد جمعه، في أن ارتباط سوره وآياته بعضها ببعض، أنه ارتباط ليس كمثله كتاب في التنسيق والتناسق، في البناء اللفظي للآيات، وتتابع المعاني والدلالات، حتى إن الكلمات القرآنية في اتساقها وتناسبها، كأنه نص واحد في تكامل وتناسب المعاني، وانتظام المباني. فقد ورد في آخر سورة الحجر، قول الله تعالى:﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ.﴾ (الحجر:97ـ 99) هذا خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، يعلمه ربه سبحانه وتعالى، كيف يتعامل مع الفتن، التي يثيرها المشركون والكافرون، وكيف يستعين بالله على الصبر وحماية نفسه من الإيذاء والاستهزاء، ولتتعلم الأمة من بعده كيف تصمد وتكابد، وكيف تثبت وتجاهد، وكيف تتعامل مع الجاهل والمستهزئ والمعاند، والكافر والملحد، فتنزل عليه الآيات، البينات، مثبتة للحقائق عن الشهادة والغيبيات، قال الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ إلى آخر السورة. والمعنى: إن الله يعلم أنك يضيق صدرك بالاستهزاء والتكذيب، من قبل المشركين والكافرين، فافزع فيما نالك من مكروه إلى التسبيح، والصلاة، والإِكثار من ذكر الله، والدعوات، واعبد ربك يا محمد حتى يأتيك الموت، وسمي الموت يقيناً، لأنه متيقن الوقوع والنزول. ولعل قائلا من المعاندين يقول بلسان الحال أو بلسان المقال، عندما يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، يتلو هذه الآيات: وإلى أن يأتي الموت فذلك أمر آخر، ولعل المكذب يزيد في العناد فيقول: الدنيا طويلة ولنا كلمتنا الآن، ولا أحد يعلم متى يوم الحساب، فلنمرح ونلعب، فَلِمَ الصلاةُ والتسبيح والاستعداد للموت؟. فيأتي الرد في أول السورة التي بعدها ترتيبا في المصحف، وهي سورة النحل، لتعرف وجه التناسب بين السور، والترابط بين المعاني، والأسرار العجيبة في ترتيب المصحف الشريف، إنه الترتيب الرباني، بما عَلَّم الله النبي صلى الله عليه وسلم، ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ (القيامة:16 ـ 19) ثم بما ألهم الله به الصحابة الذين كتبوا الوحي، بكل أمانة وصدق وإخلاص. قال الله تعالى:﴿أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ. يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ.﴾ (النحل:1،2). والمعنى قد قرب أيها الناس قيام الساعة، وحان يوم الفصل، فلا تستعجلوا العذاب الذي أوعدكم به محمد، فلا يغركم بَطَرُكُم، وتنسوا لقاء ربكم سبحانه وتعالى، تنزَّه الله عما يصفه به الظالمون، فقد كملت قدرته سبحانه، وتقدس عن إشراكهم به غيره، من الأنداد والأوثان، إنه سبحانه يُنزّل الملائكة بالوحي بإِرادته وأمره، على الأنبياء والمرسلين، وسمَّى الوحي روحاً لأنه تحيا به القلوب، كما تحيا بالأرواح الأبدانُ. ونزل الأمر بالنذارة والتحذير للكافرين، والبشارة والتأمين للمؤمنين، فأمر الأنبياء بالإنذار، أنذروا أهل الكفر، وبينوا لهم، أنه لا معبود إلا الله فخافوا عذابه، واعملوا بما شرع لكم من الدين،. فإذا تساءل المتشكك، أو المتعلم، وكيف يتحقق النصر، وربما يقول أحد الذين ضعف صبرهم، والتبست عليهم المسائل، وشوش عليهم الغلابُ الشديدُ أفكارهم، فغابت عنهم الرؤية، ولعل من يدعو الكافرين إلى الإسلام، يقول: إنهم لن يسلموا، ولا فائدة في نصحهم!! وهنا يأتي البيان في آخر سورة النحل. لتعلم أيها المتدبر القرآن، فقه التناسب بين آخر السورة وأول التي بعدها، وبين أول السورة وخواتمها. قال الله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.﴾ (سورة النحل:125 ـ 128) نعم {قرب أيها الناس قيام الساعة، وحان يوم الفصل،} كما جاء البيان في أول السورة، هل تتوقف عن الدعوة،؟ هل تتوقف عن العمل والإصلاح والبناء، لا، أبدا.. واصل الدعوة إلى سبيل ربك، وكن من المتقين المحسنين، والله معك. إن الله مع المتقين الذين يعملون بشريعة القرآن، ويستعينون، بمعونة الله الرحمن، ويستنصرون بنصره، وهو سبحانه مع المحسنين الذين يعبدونه كأنهم يرونه، إنه عز وجل معهم بالحفظ والرعاية، ومن كان الله معه فلن يضرَّه كيد الكائدين، وسينصره الله النصر المبين، ولو بعد حين. وإلى هنا في ترتيب المصحف، يأتي أول سورة الإسراء، قول الله تعالى:
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.﴾ (سورة الإسراء:1) والمعنى: لِنُرِيَ محمدا صلى الله عليه وسلم، آياتنا العجيبة العظيمة، ونُطلعه على ملكوت السماوات والأرض، (والغاية كانت رحلة الإسراء والمعراج، ليرى الآيات الكبرى، من أجل التعليم والإعداد، ليواصل الدعوة والجهاد) فقد رأى النبي صلوات الله عليه وسلامه، ليلة الإسراء والمعراج، السماوات العُلى، والجنة والنار، وسدرة المنتهى، والملائكة والأنبياء، وغير ذلك من العجائب، والآيات التي تدل على قدرة الله تعالى، إنه تعالى هو السميع لأقوال محمد، البصير بأفعاله، فلهذا خصَّه بهذه الكرامات والمعجزات احتفاءً وتكريما. يتبع البحث بإذن الله تعالى.