خَطيبٌ..
عبد العزيز بن السايب/
أمضيتُ سنواتي الأخيرة بدمشق في سَكَنٍ بمنطقة الفَحَّامَة..بعد التنقل بين التضامن ومخيم اليرموك وركن الدين وكفير الزيت والمنصور.. صحيح البيت كان قَبْوًا.. لكني ارتحتُ فيه..ومؤثثٌ بما يحتاجه الإنسان وعائلته..
وروعةُ المنطقة هي أجمل ما في هذه المحطة..فكل شيء قريبٌ سهلُ التناول..فعلى بُعد خطوات جامع زيد بن ثابت..وفي الحارات الفرعية مساجد صغيرة لطيفة..مسجد ابن حجر ومسجد السكة..وفي آخر الشارع العام خالد ابن الوليد جامع عبد الرحمن بن عوف وقريبا منه مصلى الحيواطية ومصلى الفاخورة وجامع الذهبية حيث يؤمه سيدي الشيخ أبو الحسن الكردي..وفي دوار كفر سوسة يُطِلُّ جامع الرفاعي..
فإذا قطعنا المجتهد تجدك في حي الميدان حيث جامع المنصور فجامع الغواص فجامع الثريا فجامع الحسن وفي القلب جامع منجك..وفي الأخير جامع الدَّقَّاق..وفي الجهة الجنوبية جامع زين العابدين..وجامع عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في دوار باب مصلى..وعلى بُعد أمتار جامع الصحابة في مدخل الميدان..وما هي عامرة به من دروس ومجالس أفاضل العلماء..
وكل ما أحتاج لأمور البيت ميسور فأنا على بُعد أمتار قليلة من سوق باب سريجية..الذي فيه كل الحاجيات واللوزام من الخضار والفواكه والتوابل واللحوم..وإذا تعمقنا في السوق نجد مصليات قديمة كجامع العنَّابي الذي يقال أن صاحبه جزائري أصوله من مدينة عنَّابة..
الحليب ومشتقاته ومستخرجات من دكان ألبان وأجبان الزَّين..ووجبات الدجاج الجاهز من مقلي (البروستد) أو مشوي أو مسحب من فَرُّوج الزَّيْن..وكلها في مُحيطي..وأفران الخبز متعددة..
حتى وسائل التنقلات كانت مريحة..فخلف البيت الطريق السَّيَّار العام “الأُتُسْتراد” حيث تتقاطع شبكات الطرقات من الجهتين لكل أنحاء الشام.. فيا سلام..بل كنت أستغني كثيرا عن وسائل النقل.. فأعتمد على أقدامي سيرا..لقُرب أهم المناطق..كالبرامكة والحلبوني والشويكة والميدان والمجتهد وغيرها..
كنتُ أَنْعُمُ بهذه المنن التَّتْرَى حامدا الله تعالى سائلا إيَّاه دوام هذه النعم..
لكني غافل عن نعمة أخرى كبرى على مقربة مني..حتى نبَّهني لها أحد الأخوة الأعزاء من الجزائر..
إنه الأخ الشيخ محمد مبروك أبو حواء..ففي مساء جمعة ونحن عائدون مشيا على الأقدام من الميدان من بيت سيدي الشيخ د.بديع اللحام في درس الموطأ مررنا على منقطة “البَخْتِيَار”.. قرب جامع “عمار ابن ياسر” رضي الله عنه..وهو بعد طريق “الأُتُسْتراد” السالف الذكر..خلف سكني..
فأخبرني أخي الفاضل الشيخ أبو حواء أنَّ في هذا المسجد شيخا من شيوخ الشام..كان مقيما لسنوات في المدينة المنورة ـ على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام ـ..ولقد عاد مؤخرا إلى دمشق..وإنه خطيب مفوَّه مؤثرٌ..هل حضرتَ عنده ما دام قريبا من بيتك؟
أجبته متعجبا: ولا مرَّة..ولم أسمع به أصلا..؟!
فسألته: من هو..ما اسمه..وكيف عرفته..؟!
أجابني: إنه الشيخ أَسْعَد الصَّاغَرْجِي..بارك الله فيه..لما كنتُ طالبا في جامعة المدينة المنورة كنتُ أحضر عنده خطبةَ الجمعة في أحد الجوامع هناك..فخطبُهُ جَذَّابَةٌ..
شكرتُ أخي الشيخ أبو حواء على هذه المعلومة النفسية..لائما نفسي على هذا التقصير الفاحش حيث أسكن قرب مسجد خطيبُه مثل هذا الشيخ..ولا أعرفه ولا علم لي به..!؟
وبالفعل في الجمعة الموالية قَرَّرْتُ أن أحضر عنده مغيِّرا برنامجي في الجمُعَات..
صعد الشيخ المنبر وهي أول مرة أراه فيها..بَهِيُّ الطَّلْعَةِ..مكتنز الجسم..يرتدي الجبة الشامية مفتوحة الوسط..ويَلُفُّ العمامةَ البيضاء على طاقية بيضاء أيضا..يضع عليها طَيْلَسَانًا، وأحيانا يُلقيه على كَتِفَيْهِ..
كانت خطبةً مؤثرةً..صادف أنها في ربيع الأول..بمناسبة مولد خير الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم..
تمحورت الخطبة عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومجرياتها باختصار واستيعاب..في نصف ساعة فقط..
لُغتُها جميلةٌ وبسيطةٌ في متناول الجميع..لا تُزعج الخوَّاصَ ولا تُرهق العوَّامَ..
أوتي الشيخُ أسعد البراعة في التصوير..واللهِ إنكَ تُتباع الحادثة التي يخطب عنها وكأنك تراها رأي العين..وتشاهدها بلُبِّكَ..أشدُّ تأثيرا وشَدًّا من عَرْضِ فيلمٍ أو تمثيلِ مسرحية..بأبطالها وزِيِّها وديكوراتها..
كلماتٌ تنضح بالمحبة..ونبرات تقطر بالشوق..ونفثات تعبق بالحنين.. ولهفة العاشق..
وصوت منفعل..بهدوء..مع الأحداث..
مع ضبطٍ للنصوص واستحضارٍ دقيق للحوادث وحفظٍ للأسماء والأماكن والحوارات..
الله..الله..على خطبة الهجرة..أو غزوة أحد أو بدر أو فتح مكة..أو وفاة النبي صلى الله عليه وسلم..
وبالمناسبة فللشيخ كتابٌ حول سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وشمائله، عنوانه: “سيدُنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوةُ الحسنة”..مجلدان في 1140 صفحة . درَّسه لنا في مسجد عمار ابن ياسر ..
كنتُ أستمتع بخُطب سيدي الشيخ أسعد أيما استمتاع..خصوصا عند حديثه عن سيدنا محمد وسيرته صلى الله عليه وسلم..فجزاه الله كل خير..فكانت تلك الخطب ماءً عَذْبًا زُلالًا مُتدفقا يسقي ما في الفؤاد من بذور محبة النبي صلى الله عليه وسلم..
وفي رَأْي القاصر أن سر جمال خطب سيدي الشيخ الصاغرجي وحلاوتها كثرةُ النصوصُ التي ينثرها من آيات كريمات أو أحاديث شريفات أو قصص معبرات..مع لغة المحب..وعاطفة المشفق..
وهذه قناعتي إلى اليوم أن سر جمال الخطبة وقوة تأثيرها مستمد من النصوص..وأنوار الوحي الرباني..من القرآن العظيم، والسنة النبوية، وجندِ قصص الصالحين..
فالفكرةُ التي يبثها الخطيبُ نورُها وروحُها النصوصُ..أما لو بقي يَرْصُفُ جُملَه ويُلْقِي أفكارَه..بلا نصوص.. فإن الناس سيَمَلُّون وربما ينامون..ولن يَعْلَقَ بذهنهم إلا القليل والقليل جدا..إن عَلِقَ شيء مما قال..!
كانت فاتحة علاقتي بسيدي الشيخ أسعد خطبة الجمعة..ثم قويت العلاقة جدا..
فبينما أنا خارج من المسجد لَمحتُ ورقةً مكتوب فيها برنامج الدروس الأسبوعية للشيخ في هذا المسجد..بعد الصبح وبين العشائين..
فلَازَمْتُ جُلَّها..من عام 2001..إلى أسبوع سفري الأخير من الشام إلى الجزائر سنة 2005..ولهذه الدروس والعلاقة بسيدي الشيخ الصاغرجي مقالات تالية بإذن الله تعالى..
فرحمة الله على سيدي الشيخ أسعد رحمة واسعة تُسعده في قبره وعند لقاء ربه..
وجزى الله كل خير أخي الفاضل أبو حَواء على إرشاده..والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ» . أخرجه مسلمٌ وغيرهُ .
واللهم آتِ محمدا الوسيلة والفضيلة جزاءَ هذا الخير الكبير الذي جعلتَه طريقا له وهاديا إليه..فاللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد..