ذكريات و مذكرات .. أكابر قدماء طلبة مالك بن نبي وأول رواد مسجد الطلبة التاريخي، يتذكرون..
أ. محمد مصطفى حابس جنيف/سويسرا/
تطرقنا منذ أسابيع في مقالات مقتضبة، بمناسبة الذكرى الـ 51، لوفاة المفكر الاسلامي مالك بن نبي (1905-1973م) – رحمه الله-، تنويرا للأجيال الجديدة وربطا للحاضر بالماضي»، حيث نظمت ندوات حوارية نشطها باقتدار قدماء طلبة مالك بن نبي وأول رواد مسجد الطلبة التاريخي والنموذجي الكائن بجامعة الجزائر المركزية، الذين أدلوا بشهادتهم و ذكرياتهم عن أيام الشباب والزهور رفقة أستاذهم وملهم الأجيال المفكر» مالك بن نبي» ، بل و» شاهد القرن وفيلسوف الحضارة»، كما يحلو لبعضهم تسميته!! ولقد حضر هذا الحدث التاريخي الكبير والدولي، أي ذكرى وفاة المفكر مالك بن نبي، عبر تقنية زووم ثُلّة من طلبة مالك نبي ورواد فكره، من جهات شتى من بقاع المعمورة، وقد نشط هذه الندوة الأولى على التوالي، كوكبة من الدكاترة منهم السادة: د. محمد جاب الله، طبيب من ولاية الوادي بالجزائر، والدكتور مولاي محمد السعيد المدير الأسبق لمعهد الرياضيات بجامعة باب الزوار، والمؤرخ الجزائري الصادق سلام ، من باريس بفرنسا، ود. محمد بوكعباش، من بريطانيا و آخرون سنتطرق اليهم جميعا في لقاء لاحقا بحول الله. وفي هذه السانحة نتوقف في هذا الجزء الأول ، مع شهادة كل من الطبيب محمد جاب الله والدكتور مولاي محمد السعيد المدير الأسبق لمعهد الرياضيات بجامعة باب ازوار، بالجزائر.
شهادة الدكتور محمد جاب الله، يقول فيها على الخصوص:
1- بالنسبة لتاريخ أول مسجد طلبة :
كنا في ستينيات القرن الماضي، مع بداية الاستقلال، نحن الطلبة نعاني من عدم إمكانية أداء صلواتنا في أوقاتها أثناء الدراسة، وكثيرا ما نضطر لتأخيرها وأدائها جمعا بعد العودة الى المساكننا أو غرفنا يوميا بعد العشاء، إذ لم يكن حينها موجودا أي مصلى أو مسجد في محيط الجامعة ؛ فبدأنا بالحديث عن فكرة إيجاد مصلى للطلبة مع الأخوة عبد الوهاب حمودة ورشيد بن عيسى الذين كانا من المتحمسين والداعين الأوائل لذلك، رفقة آخرين من رواد ندوة الأستاذ بن نبي الذي عرض عليه الموضوع، فباركه وأشار بالعمل على إيجاد مصلى داخل الحرم الجامعي مهما كانت سعته، فتكفل الأخ عبد الوهاب حمودة الذي كان يشتغل في إدارة معهد العلوم الاجتماعية، بالبحث عن مكان لائق، فاهتدى إلى مخبر للكيمياء غير مستغل منذ سنين طويلة في أسفل أحد أجنحة الجامعة القديمة التابع لكلية الطب، ولكنه غير متصل بمدرجاتها ومخابرها لأنه يفتح مباشرة على الفناء الخلفي في الجانب الجنوبي للجامعة عكس المدخل الرئيسي الشمالي، وانه يليق بأن يكون قاعة للصلاة دون أن يثير أي مشكلة، نظرا للظرف السياسي والمناخ الفكري السائد، أيامها.
فتقدمنا بطلب لقاء مع وزير التربية أيامها، الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، عن طريق، على ما اذكر، المجاهد ومناضل الساعات الأولى في الحركة الوطنية، السيد الشاذلي المكي رحمه الله الذي كان نائب مدير الثقافة بالوزارة حينها، فضرب لنا موعدا وذهبنا صبيحة يوم أربعاء من شهر نوفمبر 1968 نحن الأربعة: عبد الوهاب حمودة، عبد العزيز بوليفة، عبد القادر حميتو، والعبد الضعيف محمد جاب الله. فاستقبلنا السيد الوزير بحفاوة (وقد نشرنا نص الرسالة التاريخية في مقالنا الأسبوع الماضي).
وسلمنا الطلب مرفقا بخارطة تحدد المكان وموقعه، فرحب وأبدى موافقته مباشرة، وسلمنا رسالة الموافقة خطيا على المكان المقترح، موجهة إلى مدير الجامعة الذي أحالنا على عميد كلية الطب، البروفسور في طب العيون السيد محمد أوشيش رحمه الله، الذي سلمنا المقر. فبدأنا مباشرة في ترميم المكان وكنا حريصين على أن تنتهي به الأشغال مع نهاية العطلة الشتوية 68/69، وأشهد أن الفضل بعد الله في انجاز المشروع وتهيئته في الآجال المحددة يعود للأخ عبد الوهاب حمودة الذي بذل من جهده و وقته وماله ما استطاع لذلك سبيلا، رحمه الله وجزاه عنا وعن الدعوة كل خير.
مسجد الطلبة في بداية عهده، عند استلام المقر :
يتكون المسجد الذي لا تتجاوز مساحته الإجمالية 150م² من ثلاث قاعات، لا غير، الأولى من الأمام شرقا وهي عبارة عن مكتبة بخزائنها ورفوفها بقيت على حالها وفي الوسط قاعة ثانية للصلاة حوالي 10م على 6م وفي الخلف حيث يقع المدخل الوحيد قاعة ثالثة بحجم المكتبة تفتح على رواق محاذٍ شمالا لقاعة الصلاة والمكتبة اتخذناه كبيت للوضوء..
مسجد الطلبة و الملتقى الأول للتعريف بالفكر الإسلامي
تزامنت نهاية الأشغال بالمسجد مع اختتام الملتقى الأول للتعريف بالفكر الإسلامي الذي أقيم في ثانوية عمارة رشيد ببن عكنون بأعالي الجزائر العاصمة، ومباشرة في أوائل جانفي 1969 افتتحنا المسجد وكانت أول صلاة أقيمت فيه صلاة الظهر، وقد تم التدشين الرسمي للمسجد بحضور بعض الأساتذة، وكان ضيف الشرف يومها الأستاذ مالك بن نبي الذي ألقى محاضرة بالمناسبة وكان ذلك في الشهر الخامس (ماي من عام 1969. وبعد افتتاحه أصبح يرتاده الكثير من الطلبة و أهل الأحياء المجاورة للجامعة، لأنه لم يكن موجودا من قبل أي مسجد من ساحة الشهداء غربا إلى حي بلوزداد (بلكور سابقا) شرقا – لمسافة عدة كيلومترات. فأضحى مسجد الطلبة بعد أيام معدودة، مسجد كل جزائر الوسطى والأحياء المجاورة كحي التليملي، يكتظ بالمصلين يوم الجمعة حيث تمتلئ كل الساحة المحاذية على يمين المسجد.
مجلة مسجد الطلبة «ماذا أعرف عن الإسلام؟»:
وقد أفردنا لهذ المجلة التاريخية مقالا، بمناسبة يوم العلم، بعنوان:» يوم العلم و رسالة الإسلام في الغرب ، ندوة بمدرج الجامعة»، لكن لابأس أن نسمع من مؤسسي هذه المجلة، حيث يقول الدكتور جاب الله: «بعد افتتاح مسجد الطلبة بدأنا نفكر في إنشاء دورية ومنشورات باسمه، فاجتمعنا ذات ليلة من شتاء السنة الجامعية70/1969، في بيت أخي الأكبر علي جاب الله (رحمه الله) في حي بينام بالعاصمة نحن الأربعة، عبد الوهاب وعبد العزيز بوليفة وعبد القادر حمیتو وأنا محمد جاب الله، واتفقنا على إنشاء مجلة بالفرنسية، اللغة السائدة وقتها في الجامعة وأطلقنا عليها اسم: «ماذا أعرف عن الإسلام»؟
«Que sais-je de l’Islam.. ?»
وكان الهدف منه كما يوحي اسمها التعريف بمبادئ الإسلام وفكره للطلبة المفرنسين خاصة المناوئين له والمنبهرين بأفكار اليسار والحداثة الغربية لجهلهم التام بأبسط قواعد الإسلام، نفس الشعور الذي أدى إلى التسمية الأولى للملتقى، بملتقى «التعريف بالفكر الإسلامي».
«Séminaire d’Initiation à la Pensée Islamique»
كان شعار المجلة الآية الكريمة، من قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)
«Dieu ne change rien à l’etat d’un peuple avant que celui-ci n’ait accompli sa propre transformation». CORAN XII , 12.
وتحتوي المجلة على مقدمة، وفصول قارة كصفحة القرآن الكريم، وصفحة الحديث الشريف، وصفحة حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وصفحات للفكر والتاريخ. الخ….
وابتداء من العدد الرابع أضيف ركن للتعريف بالبلاد الإسلامية تحت عنوان «الإسلام في العالم»، بدءا بإريتريا، التي كانت تخوض حرب تحريرها من إثيوبيا، ثم الصومال، ثم الباكستان. واستمرت المجلة تصدر باللغة الفرنسية في أعدادها الأولى الى نهاية السنة الجامعية 73/72، صارت تصدر باللغة العربية، ثم توقفت ، وبعد سنوات عادت للساحة باسم مجلة التذكير، وقد نعود لها في مقال آخر قادم بحول الله.
شهادة الدكتور محمد سعيد مولاي، يقول فيها على الخصوص:
يقول الدكتور محمد سعيد مولاي في شهادته، التحقت بالجامعة المركزية بكلية العلوم – في أوائل شهر سبتمبر من سنة 1968 م. وهي السنة التي فتح فيها مسجد الطلبة بإحدى القاعات التابعة لكلية الطب، وكان ذلك بتوفيق من الله تعالى وجهود الاخوة الطلبة الآتية أسماؤهم: عبد العزيز بوليفة (من كلية صيدلة)، عبد الوهاب حمودة (من معهد علم الاجتماع)، محمد جاب الله (كلية الطب)، عبد القادر حمیتو (المدرسة المتعددة التقنيات).
وكنت في ذلك الوقت قد حضرت جل شعائر وأنشطة عديدة، مع الاخوة مؤسسي مسجد طلبة وساهمت و شاركت في بعض منها، أذكر، على سبيل المثال:
جل الدروس والمحاضرات التي كان يلقيها مشايخ وأساتذة جامعيون وباحثون من الجزائر ومن الخارج، أمثال نجم الدين بامات (1928 – 1985) (نجل حيدر بامات – الافغاني)، المهدي المنجرة (1933- 2014) (مغربي)، صبحي الصالح (1926-1986) (لبناني)، محمد عزيز لحبابي (1922 – 1993)، ( مغربي)، وطبعا مالك بن نبي (1905-1973م) ، رحمهم الله جميعا، وغيرهم.
كما ساهم الدكتور مولاي في العديد من الانشطة المذكورة أعلاه، في شهادة الدكتور جاب الله، منها :
– طبع وتوزيع مجلة مسجد الطلبة « ماذا أعرف عن الاسلام؟»
– المساهمة في تنظيم ملتقيات الفكر الإسلامي في كل سنة ابتداء من عام 1969 م.
– حضور ندوة مالك بن نبي الأسبوعية في بيته.
– تنظيم رحلات طلابية عبر الوطن للاطلاع على الآثار الإسلامية وزيارة المساجد مثل مسجد النور بالمدية وغيره.
– تنظيم معرض الكتاب الإسلامي داخل الجامعة وفي المطاعم والأحياء الجامعية.
– فتح قاعات للصلاة في الأحياء الجامعية مثل قاعة حي بن عكنون- بالعاصمة، التي رافقت فيها أخي عبادة عبد الحميد في الحصول عليها وتهيئتها والدعوة إلى إعمارها.
– مقاومة الزحف الشيوعي في الوسط الجامعي.
وقد احتدم الصراع الفكري والجدال في الرؤى والمذاهب بين الطلبة الثوريين الوطنيين وخصومهم الماركسيين، وبلغ صداه الى السلطات العليا في البلاد ومنها الحزب الحاكم والوحيد آنذاك – حزب جبهة التحرير الوطني – فوزعت على إثر ذلك منشورا تثمن فيه الطلبة الوطنيين الثوريين الذين ينتصرون للثوابت الوطنية وتهاجم الطلبة الشيوعيين المتنكرين للوطن ودينه الإسلام.
وكانت عموما علاقة مسجد الطلبة ببعض السلطات العليا في غاية الإحترام والانسجام خصوصا من خلال جهود الأخوين رشيد بن عيسى وعبد الوهاب حمودة، اللذين كانا موظفين فعليين في وزارة الشؤون الدينية آنذاك. أذكر أيضا، على سبيل المثال، لما أحرقت المصاحف في المسجد بفعل أطراف شيوعية متطرفة، حضر شخصيا وزير الشؤون الدينية مولود قاسم آيت بلقاسم لتقصي الأمر عن كثب، وحمل معه في سيارته بعض طلبة المسجد (كنت أحدهم) واتجهنا إلى مشارف «طاقران» بالعاصمة، حيث التقينا بوزير البريد والمواصلات السعيد آيت مسعودان في مقر وزارته لإبلاغه خبر الجريمة الخطيرة المرتكبة في حق الكتاب المقدس «القرآن» ، فتولى الوزيران معا متابعة الحادثة إلى نهايتها فلم تتكرر بعد ذلك و لله الحمد، وذاع صيت مسجد الطلبة إيجابيا في العديد من المحافل و المناسبات عبر الوطن، وكان حافزا قويا لفتح مساجد طلابية أمثاله في الثانويات والمعاهد والجامعات ولله الفضل والمنة، من قبل و من بعد.
يتبع ان شاء الله.. قدماء طلبة بن نبي و أول المحجبات الجزائريات.