من تراثنا

الثورة الجزائرية في كتابات الدكتور محمد العربي الزبيري (ج 2)

أ.د. مولود عويمر/

كان الدكتور محمد العربي الزبيري (1941-2024) من المؤرخين الأكاديميين الأوائل الذين اشتغلوا في الجزائر على تاريخ الثورة التحريرية ابتداء من ثمانينيات القرن العشرين، بينما نشر مبكرا عدد من الباحثين الجزائريين المقيمين خارج البلاد أعمالا عن هذه الثورة من وجهات نظر مختلفة، ولعل أبرزهم محمد حربي الذي أصدر مجموعة من الكتب بقيت فترة طويلة ممنوعة من الدخول إلى الجزائر نظرا لنقده للرواية الرسمية لتاريخ هذه الثورة. أما محمد العربي الزبيري فقد كان منتقدا لها من الداخل باعتباره واحدا من رجالات المنظومة الحاكمة خاصة في فترة السبعينيات ومنتصف الثمانينيات. ويهمنا في هذه المداخلة عرض كتاباته وتحليلها وابراز قيمتها العلمية وتقييم حجم إضافاتها للبحث التاريخي الوطني.

مصادر ووثائق الثورة الجزائرية
التاريخ لا يكتب بدون وثيقة، غير أن الوثائق الخاصة بالثورة الجزائرية ما زالت موجودة لحد اليوم عند المستعمِر يحتفظ بها في مراكزه الوثائقية. هذا الأمر جدير بالاهتمام والإصلاح، وهو أن كل من يكتب تاريخ الثورة –بغض النظر عن جنسيته- مضطر لحد الآن للاعتماد على ذلك الأرشيف، وهنا تكمن خطورة الوثيقة التي ربما تعرضت للتزييف والتحريف، فالأجانب ما زالوا يأخذون تاريخنا من الكتابات الفرنسية أو من الوثائق الفرنسية باعتبارها مصادر موثوقة، وقليلا ما يعودون إلى الوثائق الجزائرية التي مازالت محبوسة في الصناديق وفي خزائن العامة والخاصة.
ولعل أنسب ما استشهد به في هذا المجال قوله: «إن الوثيقة التي تقع بين أيدي المستعمر قد تتعرض إلى محاولات التشويه والتزييف والتحريف. ومن واجبنا عندما نستعيدها أن نعرضها للفحص والتمحيص حتى نتأكد من صحتها على الأقل».
وتجسيدا لهذه الرغبة العلمية، أقدم الدكتور الزبيري في كتاباته الأخيرة على رسم معالم هادية لتخليص تاريخنا من السردية الاستعمارية، وعرض منهجية جديدة لكتابة تاريخنا الوطني بشكل أكاديمي حتى تتأسس مدرسة التاريخ الوطنية على أسس متينة وثابتة، وتقوم بدورها تصحيحا وإنتاجا.
وحرص الدكتور الزبيري دائما على نشر الوثائق التاريخية وترجمتها إلى اللغة العربية، وتذييل مؤلفاته بالملاحق التاريخية المهمة التي تساعد الطلبة والباحثين على مواصلة البحث في تاريخنا المعاصر. ولا بد أن أشير هنا إلى أن الدكتور الزبيري أعاد ترجمة نص بيان أول نوفمبر بعدما لاحظ فيه أخطاء عديدة، وقد بذل جهدا لاعتماده بدلا من النص المعرب المتداول الآن بين الناس والمسجّل في الكتب والمقررات الدراسية.
ومن أهم التصحيحات التي عدّلها الدكتور الزبيري مصطلح «إقامة» بينما كانت المفردة المستعملة في النص الفرنسي «إعادة بناء»، لأن محرري البيان كانوا يعرفون جيدا أن الدولة الجزائرية كانت موجودة قبل الاحتلال، ويرمون من كفاحهم إلى استرجاع أمجاد تلك الدولة. وقد نشر النص المترجم في كتابه «في رحاب مدرسة التاريخ الوطنية» مذيّلا بمجموعة من الشروحات والمعلومات المفيدة.
رحب الدكتور الزبيري بكتاب «عبد الناصر والثورة الجزائرية» الذي ألفه رجل المخابرات المصري فتحي الذيب، واعتبره رغم المغالطات والأخطاء العديدة التي تضمنها بين طياته، خطوة تستحق الاعتراف والدرس لأنه كسر الخمول الذي ساد في الأوساط الثقافية والفكرية في المشرق العربي التي لم تعد تهتم بتاريخ الثورة الجزائرية، وتركت الكتابة عن أحداثها وأصدائها في الوطن العربي، وتوقفت عن دراسة أبطالها الذين كانوا مضرب المثل في التضحية والشجاعة وتخلت عن التعريف بقيمها السامية.
وتمنى أن تشجع هذه المبادرة «حتى تسارع الشخصيات العربية التي شاركت بطريقة او بأخرى في ثورة نوفمبر وهي كثيرة، إلى تقديم شهاداتها ومذكراتها التي هي أساسية لتسليط الأضواء على المساهمة الحقيقية التي قامت بها الجماهير العربية لدعم كفاح الشعب الجزائري بجميع الوسائل».
وفنّد الدكتور الزبيري المبالغة التي اتسمت بها مقاربات فتحي الذيب وهو يتحدث عن الدور الكبير لمصر وقائدها جمال عبد الناصر في نصرة الثورة الجزائرية. فلا شك أن ثورتنا استفادت من الدعم المصري لكن في حدود معروفة، والدليل على ذلك أن الحكومة الجزائرية المؤقتة لما رأت تدخل القيادة المصرية في شؤونها الداخلية قررت نقل مقرها إلى تونس.
لقد حرصت الثورة التحريرية على استقلاليتها وجعلت السلطة جماعية حتى لا تستفرد أية دولة بزعيم من زعماء الجزائر وتحضره للاستيلاء على الحكم غداة الاستقلال. وهكذا لم توفق الحكومة المصرية أو الحكومة التونسية أو الولايات المتحدة الأمريكية أو الإتحاد السوفياتي في القرار السيادي الجزائري.
ومع كل ذلك، فإن كتاب فتحي الذيب يبقى في نهاية المطاف شهادة مهمة يستأنس بها المؤرخون ويستفيدون من الوثائق المنشورة مع هذا الكتاب، ولكنه ليس مصدرا موثقا في عدد من الأحداث التاريخية، كما أن الآراء الواردة في صفحاته هي من صميم وجهة نظر صاحبها تحتمل الخطأ والصواب.

نقده للكتابات التاريخية حول الثورة التحريرية
«التاريخ علم يخضع لمجموعة من المعايير والمقاييس يؤدي عدم احترامها وتطبيقها بدقة متناهية وأمانة لا تعرف المحاباة والانحياز إلى ضياعه وعندها لا نسمي الكتابة التاريخية تاريخا، بل قصصا أو حكايات أو في أحسن الحالات، مذكرات لا يمكن توظيفها لا لمعرفة الماضي ولا لفهم الحاضر ولا لبناء المستقبل، لأن كل هذه العمليات مترابطة أشد الارتباط ومتشابكة فيما بينها». هكذا كان الدكتور محمد العربي الزبيري ينظر إلى مفهوم التاريخ وطرق كتابته بشكل سليم.
لقد كان هاجسه الأكبر وشغله الشاغل في السنوات الأخيرة من عمره تأسيس مدرسة وطنية في التاريخ، تبتعد عن الأيديولوجية الضيِّقة، وتتخلّص من العواطف الفائضة، وتقطع الصلة بالرداءة، وتحتكم إلى صرامة المنهجية العلمية.
وقد انطلق في هذا المشروع بعد قراءات ومتابعات قلقة لما ينتج من أعمال حول تاريخ ثورتنا، وانتقدها بشكل واضح لا لبس فيه. وبغض النظر عن المبالغة أحيانا في التقييم لذلك الانتاج العلمي، فإن انتقاداته جديرة بالاهتمام والعرض والدرس والنقد.
انتقد الدكتور الزبيري الكتابات التاريخية للثورة سواء ما خطه الباحثون الجزائريون أو ما كتبه المؤرخون الفرنسيون. فبالنسبة للباحثين الأوائل كانت كتاباتهم في نظر الدكتور الزبيري «عبارة عن سرد للأحداث البارزة ووصف دقيق لها في غالب الأحيان. أما عن التغيير الجذري الذي أحدثته في المجالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فإن المؤرخين لم يتعرضوا له إلى غاية اليوم، وكذلك بالنسبة للتطوّر الذي حققته مختلف مؤسساتها التي كان الاستدمار لا يعرف عنها الشيء الكثير».
واكتفى الدكتور الزبيري بهذا الحكم على ما كتبه الجزائريون عن الثورة دون أن يقدم أمثلة على ذلك، خاصة أن المنتوج العلمي في هذا المجال تضاعف في السنوات الأخيرة، ولاشك أنه يتضمن الغث ولكنه يتضمن أيضا السمين.
أما كتابات المؤرخين الفرنسيين فما كانت «سوى محاولات لوصف بعض ما دار من معارك حسب وجهة نظر المستبد السابق لأن الاغلبية الساحقة من المصادر موضوعة بأقلام العسكريين أو السياسيين أو الكتاب والصحفيين الفرنسيين وحتى كتابات من كانوا يسمون بالتقدميين فإنها لم تتجاوز الخط الأحمر الذي يوجد بعده إدارة النظم الفرنسية التي كانت تنكر على الشعب الجزائري حقه في الحرية واسترجاع الاستقلال الذي يعيد الربط مع الجزائر ما قبل العدوان الفرنسي حتى يكون البناء مؤسسا متينا».
وفي هذه الحالة ذكر الدكتور الزبيري مؤرخين فرنسيين قدماء عاشوا في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين وكتبوا خلال هذه الحقبة الاستعمارية، بينما يبدو أنه لا يواكب كثيرا ما كتبه المؤرخون الفرنسيون في الثلاثين السنة الأخيرة.
ويرى الدكتور الزبيري أيضا أن المؤسسات التي وكِّلت لها مهمة كتابة الثورة الجزائرية لم توفَّق في القيام بدورها ولم تكن دائما في مستوى التحديات المطروحة، ولم ترق إلى الطموحات المعلَّقة عليها. ويشير في مناسبات عديدة إلى دوره في تأسيس المركز الوطني للدراسات والبحث حول المقاومة والحركة الوطنية والثورة التحريرية، وقد علق عليه آمالا كثيرة للارتقاء بالبحث التاريخي في الجزائر.
كل هذا الهاجس ولّد في ذهن الدكتور الزبيري فكرة إنشاء جمعية أكاديمية مستقلة وتضم المؤرخين الجزائريين الجادين المعروفين بإنتاجهم العلمي وتوجههم الوطني. غير أن هذا المشروع الذي حدثني عنه قبل وفاته بشهور قليلة لم يتجسد على أرض الواقع لأسباب متعددة.
كما خاض الدكتور محمد العربي الزبيري معركة المصطلحات التي لم تكن بالأمر الهيِّن لأن ترويج المصطلحات الخاطئة واعتمادها قائم على هدف واضح وهو إفراغ الثورة من قيمها وتحوير اتجاهاتها. قال في هذا السياق: «لقد كرست كل تلك الكتابات مفاهيم ومصطلحات وضعت خصيصا لإفراغ الثورة من محتواها الشعبي الديمقراطي ولتحويلها عن مسارها الطبيعي كحركة تهدف إلى استرجاع السيادة الوطنية المتمثلة في تحرير الأرض وتحرير الإنسان معا».
فالزبيري يصر على مصطلح الثورة الذي اعتمدته كل النصوص المؤسسة لجبهة التحرير الوطني ابتداء من بيان أول نوفمبر ومرورا بقرارات مؤتمر الصومام ووثائق الحكومة المؤقتة والمجلس الوطني للثورة، ويرفض مصطلح الحرب الذي رسمته كتابات المؤرخين الفرنسيين وشوّه معالمها، ولذلك كان من السفه اعتماده.
هذه هي الملامح الكبرى لكتابات الدكتور محمد العربي الزبيري حول الثورة الجزائرية، فلم يكن ناقلا للأحداث وساردا مسارات رجالها ومحطاتها الكبرى فحسب، وإنما تناولها أيضا بالعرض والتحليل والمقارنة والنقد.
وأكد باستمرار على ضرورة استحضار المنهجية الأكاديمية الصارمة واستبعاد العاطفة والأيديولوجية عن ورشة كتابة تاريخ الثورة الجزائرية، ودعا إلى الاهتمام بالأفكار الإنسانية التي طرحتها، وإشعاع القيم السامية التي بشرت بها.

*محاضرة شارك بها الدكتور مولود عويمر في ملتقى تاريخي بجامعة وهران، يوم 6 نوفمبر 2024.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com