جمعية العلماء في ضيافة عروس الطاسيلي (جانت)
أ.د. عبد المجيد بيرم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
حماة الأمن القومي
في الذكرى السبعين لانطلاق ثورة نوفمبر المظفرة أَحْيتْ شُعبة جانت لجمعية العلماء هذه المناسبة بنشاط علمي أطّره دكاترة ومشايخ، تناولوا فيه رسالة جمعية العلماء وصلاحية منهجها لاستيعاب كل الجزائريين ودورها في تحصين الذات وتقوية المناعة في وجه المخططات التي تريد أن تنال من هويتنا وقيمنا وانتمائنا ووحدتنا، كما تناول بعض المتدخلين عرضا لتاريخ المنطقة وأعلامها وشهدائها ومقاومتهم للمحتلين الغزاة، وكان لقضية فلسطين حضور، وبخاصة أن أحداث غزة وما يقع فيها من إبادة وحشية هي أمر لا مثيل له في التاريخ، بحيث أصبح عدم التعرض لها وتجاهلها عقوقا في حق أخوة الدين ووشائج التاريخ وتخليا عن المقدسات.
يكتسي موقع ولاية جنات وتخومها أهمية استراتيجية وحضارية حيث كانت ولا تزال جسرا تنتقل عبره التأثيرات الحضارية بين أوروبا وإفريقيا، وهي تقع في عمق الصحراء الكبرى على حدود البلد الشقيق ليبيا و الجارة النيجر، ومالي، وموريتانيا لذلك كانت محط اهتمام المحتلّين عبر التاريخ، كما حاوت فرنسا السيطرة على الصحراء الكبرى وفصلها عن باقي مناطق الوطن باستخدام القوة الخشنة التي كان تمتلكها، ومن خلال القوة الناعمة كالتبشير والاستشراق، فتصدّى قبائل وعشائر الطوارق للصنفين من الاستعمار، وسجّلوا في الأولى ملاحم بطولية كان من بينها معركة جانت التي قادها آمود أغ المختار(1929/1859م) سنة 1915م واستمرت جانت كحلقة هامة في الثورة المسلحة، باعتبارها مجالا حيويا وقاعدة لوجستية تمدّ الثورة بالذخيرة والمؤونة الآتية من مصر وليبيا وتونس، لذلك فقد بقيت في قلب الصراع بين المفاوض الفرنسي والمفاوض الجزائري حين أصرّ الأول على استثناء هذه المنطقة من مفاوضات الاستقلال، وقرر مجاهدونا عدم وضع السلاح حتّى يشمل التحرير الجزائر بشمالها وجنوبها.
أمّا بالنسبة للقوة الناعمة فقد بذل الفرنسيون جهودا مستميتة لنشر الديانة المسيحية التي ارتبطت بالسياسات الاستعمارية لتغيير الهوية الثقافية والدينية للسكان المحليين ودقّ إسفين العرقية والجهوية بين أبناء الوطن الواحد، ومن أهم الشخصيات التي تولت كبر هذه المهمة القسيس الكاثوليكي والمستشرق الفرنسي شارل دو فوكو الذي بدأ حياته في الجزائر كضابط عسكري سنة 1881م، في مدينة سطيف، ثم انتقل منها إلى الصحراء لقمع انتفاضة في جنوب الجزائر، وتوالت بعده البعثات التبشيرية، وقد تصدّى لهذه المخططات ساكنة هذه المنطقة مع ثلة من علمائها وإصلاحيّيها الذين بذلوا جهدهم في التأمين الفكري والحضاري لسكان المنطقة، منذ وصول الاحتلال إلى هذه المنطقة وإلى يوم النّاس هذا ومن هؤلاء الشيخ الحاج عبد الرحمان بن الشيخ، والشيخ محمد بن علي الكنتي، وغيرهما…
جمعية العلماء المسلمين ودورها في الحفاظ على ثوابت الهوية
إنّ الأصول والمبادئ التي أقامت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين نشاطها وأعمالها منذ تأسيسها جعلت منها فضاءً يستوعب كل الجزائريين كما أرادها المؤسسون الأوائل، فهي: «ليست جمعية فرد، ولا جمعية حزب، ولا جمعية مذهب، ولا جمعية طريقة، إنّما هي جمعية الأمة الجزائرية كلها، تسمو على كل التكتلات والخلافات ..» إذ أن تلك الأصول تعدّ من الكليات الجوامع والمشتركات العامة التي يجد الجزائري الحر نفسه ضمنها، فالشعار الثلاثي يعبّر بوضوح عن المقاصد والأهداف التي تسعى الجمعية لتحقيقها وتعمل على المحافظة عليها، والتي تعتبر من ثوابت الهوية ، فالإسلام ديننا الذي شرفنا الله تعالى به، وهو تاج عزّنا ومصدر قوتنا وإسمنت وحدتنا و مرجعيتنا في حياتنا والعربية لغتنا، وهي اللسان الذي نزل به الوحي، وهي الحبل الذي يربط بين الأجيال والجسر الذي يصل بين المسلمين على اختلاف ألسنتهم، وتباعد ديارهم وتنوع أعراقهم، ولقد وسعت هذه اللغة كلمات الله عزّ وجلّ،: «قل لوكان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي».
والجزائر وطننا: وهي الأرض التي سُقيت في كل شبر منها بدماء طاهرة زكية، من المقاومين والشهداء، من تمنراست إلى تبسة، ومن تندوف إلى تيارت، ومن تلمسان إلى تيزي وزو، ففي كل زاوية من القطر الجزائري الذي هو مَأْثرةٌ وتاريخ.
فالشعار الذي رفعته الحركة الإصلاحية في الجزائر وبذلت وُسعها لتجسيده وتحمّلت من أجله المضايقات والتعسفات لم يصرفها عن غايتها، حتى تحقق أمل الجزائريين في الحرية والاستقلال، وبقيت تلك المعالم هادية للأجيال تبذل أغلى الأوقات من العمر في الحفاظ عليها.
وشعار الجمعية الثلاثي وإن كان يعكس مرحلة تاريخية في مواجهة المشروع الاستعماري الفرنسي الصليبي، الذي عمل على استبدال الإسلام بالمسيحية والعربية بالفرنسية إلحاق الجزائر بالضفة الشمالية وإذابة العنصر الجزائري مع الأخلاط الذين قدم بهم المحتل وفتح لهم أبواب الجزائر، فإنّ جمعية العلماء التي شارفت مسيرتها قرنا في التقويم القمري، لا تزال أدبياتها وأصولها صالحة لتكون من الكليات الجامعة لكل الجزائريين، لذلك يقبل عليها الناس من جميع أنحاء القطر، بفضل الفهم الوسطي لعلمائنا للدّين البعيد عن الغلو والميوعة، والمعتمد للحكمة في الدعوة إليه، لأن المواجهة مع المنظومة الاستعمارية لم تنتهِ، وإنّما غيرت أسلوبها وطريقتها في التعامل مع من يناهضها، لذلك تبقى هذه المبادئ التي تشكل عناصر الهوية للشعب الجزائري الحصن الحصين من كل محاولات الاختراق والاستلاب والتبعية.