ملف

مفهوم الحضارة ومكوناتها في ضوء المقاربة الحضارية: إسهامات مالك بن نبي (الجزء الثاني)

أ.د. عبد العزيز برغوث*
berghout@iium.edu.my/

ومن أهم ما يميز فكر مالك بن نبي أنه ومنذ انطلاقته حسم مسألة الرؤية المرجعية والإطار المنهجي الذي تبناه لدراسة قضايا العالم الإسلامي. وظهر ذلك في كتبه مثل: «الظاهرة القرآنية»، و»مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي»، و»شروط النهضة». لقد كان واضحا تماما عنده بأن الإسلام ورؤيته الكونية الشاملة المتكاملة هي أساس الإطار المرجعي للتحليل، وأن العامل الديني جوهري في تحليل حركة التاريخ وميلاد وأفول ظاهرة الحضارة، وأن الرؤية الحضارية ينبغي أن تكون هي أساس مقاربة ظواهر الاجتماع الإنساني المركبة، وأن «الحضارة» ذاتها يجب أن تكون هي وحدة التحليل الرئيسية، وأن الاستفادة من معطيات، ومناهج وأدوات العلوم الاجتماعية والإنسانية، والعلوم الرياضية والطبيعية أمر مهم لتطوير مقاربة منهجية حضارية لدراسة مشكلات العالم الإسلامي.
وبما أن مالك بن نبي كان حاسما على مستوى المرجعية والرؤية والمقاربة والمنهج كانت أطروحاته أكثر علمية ومنهجية من غيره من الذين اشتغلوا بشأن النهضة والإصلاح والتجديد في العصر الحديث.
ويمكن القول بصورة عامة بأنه من أكثر المفكرين المسلمين المعاصرين الذين استفادوا ووظفوا أدوات التحليل الاجتماعي والحضاري الحديثة في دراسة الظاهرة الحضارية في شقيها الإسلامي والغربي بشكل خاص. ومن أبرز ما أبدع فيه مالك بن نبي هو تطويره لمنظومة تحليلية متكاملة لدراسة ظاهرة النهضة. وتتضمن هذه المنظومة إطارا نظريا، ورؤية حضارية، وجملة أدوات تحليلية وتطبيقات عملية ومقترحات مبتكرة.
ومن بين الأدوات التحليلية التي تشكل أساس رؤيته ومنهجه: فكرة الدورة الحضارية، والحضارة بوصفها وحدة للتحليل، وفكرة الأطوار الثلاث للمجتمع: ما قبل الحضارة والحضارة نفسها وما بعد الحضارة، وفكرة العوالم الثلاث للحضارة: عالم الأفكار وعالم الأشخاص وعالم الأشياء، وفكرة الأعمار الثلاث للمجتمع: عمر الفكرة وعمر الشخص وعمر الشيء، وشبكة العلاقات الاجتماعية، وفكرة مراحل الحضارة: الروح والعقل والغريزة، وفكرة رباعية النظام الثقافي: المبدأ الأخلاقي، والذوق الجمالي، والمنطق العملي، والصناعة، وفكرة الحضارة العالمية …وغيرها كثير.
وفي نفس السياق حينما اعتبر بن نبي «الحضارة» بوصفها وحدة للتحليل أغنى قاموس التحليل الحضاري الإسلامي بجملة مهمة من المصطلحات، والمفاهيم والمفردات مثل: القابلية للاستعمار، والأفكار المطبوعة، والأفكار الموضوعة، الأفكار المنتقمة، الأفكار المخذولة، الحضارة الشيئية، التكديس، اختلال التوازن، النهضة، التخلف، المجتمع البدائي، المجتمع الحضاري، المجتمع التاريخي، الإنسان التاريخي، سوسيولوجيا التخلف، مركب الحضارة، النزعة الذرية، التربية الاجتماعية، التوجيه، الاستثمار الاجتماعي، والاستثمار المالي، الزي، الذوق، النزعة الجمالية، الرأس المال الاجتماعي، والتربية الاجتماعية…إلخ.
وبناءً على ما سبق من التحليل يتضح بأن جهود بن بني في مجال بناء المقاربة الحضارية والمنهج الحضاري في التحليل لمشكلات العالم الإسلامي قدمت لنا ثروة غنية من الأفكار، والتوجيهات، والآراء، والتطبيقات التي يمكن الاستفادة منها في فهم واقعنا، وتحليل مشكلاتنا، وتقديم الحلول الإبداعية التي تسمح بإسترجاع الفعالية الحضارية المطلوبة للتطور والتنمية والتقدم الحضار والمستقبلي المنشود.
ويبين لنا الشكل التوضيحي الآتي تصورا عاما لأهم مكونات المقاربة الحضارية، والأدوات المنهجية التي اعتمد عليها بن نبي في تحليله لمشكلات العالم الإسلامي، واقتراح بعض الحلول من خلال جهوده وكتاباته المعروفة عند المشتغلين بفكره:


بناءً على ما سبق فنحن نتعامل مع بن نبي المفكر ليس مجرد المؤلف والكاتب…بمعنى الحديث عن صاحب منظومة أو نظام خاص للتفكير (system builder). وإذا لم نفهم هذه المنظومة، ومفرداتها، وآلياتها، وضوابطها، وتطبيقاتها، فإنه من المرجح أن لا نفهم فكره أو أن نختزله في موضوعات أو قضايا متنوعة ومتعددة قد لا يكون بينها رابط في كثير من الأحيان. ولربما يكون هذا هو أحد أسباب قلة إنتشار فكره والإستفادة منه. ذلك لأن قصور النظر إلى جهوده كمنظومة متكاملة بدلا من موضوعات وقضايا هو العائق أمام فهمه، والاستفادة منه، وتطبيقه ونقده وتطويره. ولهذا وجب أن يعمل المختصون في فكره على طرحه، وعرضه بوصفه منظومة متكاملة مترابطه، لكي يتيحوا للباحثين والقراء والمشتغلين بفكره فرصة الرؤية الكلية الشاملة لها. وبدون هذه النظرية المنظومية لفكر مالك بن نبي فقد يكون من الصعوبة فهم فكره ونقده وتطويره بما يتناسب والوضع الحالي للعالم الإسلامي.

ثانيا: المقاربة الحضارية وتعدد مداخل بن نبي لمفهوم «الحضارة»
يقدم لنا مالك بن نبي تصورا متكاملا للحضارة وأبعادها المختلفة، ويكاد يكون فريدا في تناوله لهذه الظاهرة في العالم الإسلامي. وربما يرجع السبب في هذا الثراء والغنى والتعدد المنهجي في دراسة الحضارة هو تبنيه للمقاربة الحضارية وللمنهج الحضاري كما سبقت الإشارة.
وفي إطار المقاربة الحضارية التي صاغها مالك بن نبي يتحول موضوع دراسة الحضارة إلى قضية واقعية تهم بالدرجة الأولى تطور الوعي، والفكر، والنضج، والذكاء، والعلاقات الإنسانيَّة، وتهم كذلك وجود الإنسان، وثقافته، وتاريخه، وحاضره، ومستقبله، وصيرورته. فعنده يُطرح مفهوم الحضارة على مستويات، وفي دوائر متكاملة ومتنوعة منها:
• دائرة النظر إلى الحضارة كوحدة للتحليل التاريخي والحضاري.
• دائرة النظر إلى الحضارة كمنظور لدراسة مشكلات المجتمع الإسلامي خاصة والمجتمع الإنساني عامة.
• دائرة النظر إلى الحضارة كمشروع للتغيير والتَّجديد الحضاري.
• دائرة النظر إلى الحضارة كقدرة ووعي وإمكان للفعل المنظم.
• دائرة النظر إلى الحضارة كفعل إنساني تتوازن به القوى المادية، والمعنوية لجماعة إنسانية معينة، وتحقق بذلك الشروط، والضمانات المعنوية والمادية لأفرادها حتى يحققوا وجودهم كمجتمع متحضر.
• دائرة النظر إلى الحضارة كمعالجة لمشكلات القابلية للاستعمار والاستعمار، ومشكلات الإنسان والمجتمع، ومشكلات المنهج والفعل، ومشكلات السياسة والأخلاق، ومشكلات العلم والضمير، ومشكلات الأصالة والفاعلية، ومشكلات التراث والمعاصرة، ومشكلات الاقتصاد والحركة الاجتماعية، ومشكلات القوة والبقاء…ولكي نفهم هذه الصياغة الشمولية لقضية الحضارة عند بن نبي ينبغي لنا أن نعرض أفكاره، ونحلل جملة المفردات والمفاهيم التي طورها للتعامل معها.
والجدير بالذكر أن بن نبي لم يضع تعريفاً واحداً للحضارة ولكن نظر إليها من زوايا مختلفة، وناقشها في مضامين، وسياقات متنوعة ومتعددة. وهذا في حد ذاته نوع من الحيوية التحليلية للمسائل، والإشكالات المرتبطة بقضية الحضارة. وعلى الرغم من هذا التعدد في تعريفات الحضارة إلا أنه يمكن التمييز بين التعريفات العامة، والتعريفات التحليلية، والتعريفات الإجرائية الوظيفية. ولغرض التحليل والبيان سنحاول إيراد بعض التعاريف التي قدمها بن نبي للحضارة.

1- الحضارة: مرض الاستيراد والتكديس ومنطق البناء والهندسة الاجتماعية
ومن التعاريف العامة التي أوردها للحضارة قوله: «أن الحضارة لا تصنعها كومة من الأشياء المستوردة، وإنما هي بناء تطبعه فكرة معينة.» ففي هذا التحديد للحضارة يشير إلى ذلك الاتجاه الفكري والعقلي الذي ينحى منحى تكديسياً في فهمه للحضارة. فبالنسبة إلى هذه النزعة الاستيرادية يرى البعض أنه من الممكن تشكيل حضارة من خلال استيراد الأشياء، والوسائل، والتقنيات، والتكنولوجيات من البلدان، والمجتمعات المتقدمة. ظنا من هؤلاء أن هذا الفعل التكديسي سينتهي ببناء حضارة. كما يركز كذلك أصحاب هذه النزعة على اعتبار الحضارة كومة من الأشياء المادية، وكأن الحضارة عبارة عن جسد بلا روح وأداة بل معنى.
ويرد بن نبي هذا الزعم ويتحدث عن الحضارة على أنها بناء وتشكيل أصيل في ذات الفرد، وفي عمق المجتمع. وأن هذا البناء يعبر عن عمق فكري مستند إلى فكرة أو رؤية حضارية عميقة. والحضارة فكرة تطبع مضمونها، ودلالاتها في الوعي والسلوك، وفي كامل البناء الاجتماعي. وهي ليست مجرد تكديس أو مجرد أشياء مادية، وهي ليست بالضرورة نقل لمنتجات مجتمعات أخرى، ولكنها في عمقها هندسة، وتشكيل، وبناء متناسق للوعي، والفكر، والسلوك، والعلاقات الاجتماعية، والنظم الحضاريَّة. «إذ ليست الحضارة تكديساً للمنتجات، بل هي بناء وهندسة.»
والحضارة ليست مجرد تلفيق لأشياء، وتجميع لها. كما أنها ليست بتزويق خارجي يحسن مظهرها، وصورتها الخارجية. وليست الحضارة كذلك مجرد أشتات من المنتجات والأعمال المبعثرة هنا وهناك، بل إن الحضارة بناء وتنظيم كامل متكامل ينظم المجتمع وكل أفكاره، فيقوم هذا البناء بتوجيه الأفكار والأشياء والأشخاص، وكامل طاقات المجتمع بحيث يسلكها في عمل منهجي منظم يتحرك بصورة متناغمة ومتناسقة لتحقيق غايات وأهداف سامية ترفع وعي الفرد، وتنسق حركة المجتمع؛ فتتيح لهما فرصة أداء دور تاريخي يثري مسيرة هذا المجتمع، ويسهم في إثراء مسيرة الحضارة الإنسانيَّة في عمومها.
وبهذا المعنى فالحضارة فعل تاريخي وعمل ذو عمق يصب في تنظيم، وتوجيه الطاقات الفاعلة للفرد والمجتمع ويصوغها في صورة بناء وفعل تاريخي يسمح بصناعة التاريخ، وتشكيل الاجتماع الإنساني المتحضر. «إن الحضارة ليست أشياء مبعثرة ملفقة ولا مظاهر خلابة وليست الشيء الوحيد بل هي جوهر ينتظم جميع أشيائها وأفكارها وروحها ومظاهرها وقطب يتجه نحوه تاريخ الإنسانيَّة.» وعليه فالحضارة إذن جوهر ومعنى وقيمة تنتظم وعي الإنسان وحياته، وتقودها باتجاه صناعة التاريخ.
يتبع

* نائب مدير الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا سابقا. أستاذ بقسم المعارف الأساسية والدراسات البينية، كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية، الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com