أنتَ السَّبَبُ..
عبد العزيز بن السايب/
من نعمِ الله تعالى المعتددة على طلاب العلم ببلاد الشام المبارك إدراكُ عدد من كبار علمائها..الذين لا يبخلون بعلمهم، بل يفتحون أبواب بيوتهم للطلاب..ويتبرعون بغالي أوقاتهم لتدريسهم وتربيتهم..فيُرَبُّونُ بحَالِهم وقَالِهم..
من هؤلاء الأفاضل سيدي الشيخ مصطفى سعيد الخَنّ..رحمه الله تعالى..
لما رحلتُ لطلب العلم بسوريا خريف 1988..كان الشيخُ وقتها في الحجاز مُدَرِّسًا في جامعاتها، بعد تقاعده من جامعة دمشق..فتعرَّفنا عليه من خلال قَصصِ طلابه، ونفيسِ كُتبه..خصوصا رسالته المتميزة للدكتوراه التي قدمها في الأزهر الشريف “أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء”..وهي مرجع للطلاب والشيوخ إلى اليوم..
ثم مَنَّ الله تعالى بعودته لدمشق عام 1993..ففتح دروسا علمية تخصصية في كتب مرجعية..في بيته العامر بحي الميدان بعد الجسر الْمُحَلَّق..منها كتاب “التبصرة في أصول الفقه” لأبي إسحاق الشِّيْرَازي..ولا أحسب الشيخ رجع للدروس المسجدية..وآخر عهده بجامعه “الدَّقَّاق”..قبل رحلته الحجازية..
فانخرط في تلك الدروس عدد من إخواني الطلاب الجزائريين..أما كاتب هذه السطور فلم يُقَدَّر له ذلك..فمنذ خريف 1992 إلى صيف 1995 كنت معتكفًا في شمال سوريا في قرية المرجة بمدينة القامشلي..عند سيدي الشيخ محمد نوري الدِّيْرشوي طالبا..
وبعد تلك الأعوام المباركة في المرجة سافرت إلى دولة ماليزيا فأقمتُ مدرسا بمحافظة “كَلَنْتَنْ” بشمال البلاد 3 أعوام أيضا..رجعتُ إلى دمشق في ربيع 1998..فالتحقتُ حينها بالدروس البيتية لسيدي الشيخ الخَنّ..في جلسةٍ بين العِشائين خاصةٍ بالطلاب الجزائريين..الذين سبقوني بالدراسة عند سيدي الشيخ لكتب نفيسة..كمفتاح الوصول للشريف التلمساني في الأصول، وفي النحو أوضح المسالك لابن هشام..فاتَتْنِي الاستفادةُ منها على يدي سيدي الشيخ الخن..
والإخوة الذين أدركتُهم عنده هم الأفاضل: محمد بوركاب، عبد الحليم قابة، كمال الدين قاري، ومحمد مبروك..ومن زملاء الدراسة في دمشق ولم أشرف بمصاحبتهم عنده: محمد شقرون وعبد الحق ميحي..فقد سافروا..
وهم اليوم جميعا بفضل الله تعالى وتوفيقه من شيوخ البلاد والأساتذة بها..وخارجها..
والكتب التي أكرمني الله بتلقيها على يدي سيدي الشيخ الخن كتاب “المحصول في الأصول” لأبي بكر بن العربي، و”إحكام الفُصول في أحكام الأصول” لأبي الوليد الباجي، ومقدمات “الاعتصام” لأبي إسحاق الشاطبي..
وهكذا أتم الله المنة بالدراسة عند الشيوخِ وشيوخِهم..بالدراسة على سيدي الشيخ البُوطي والبُغَا والزُّحَيْلِي..وهم طُلَّابُ سيدي الشيخ الخن..إلحاقُ الأكابر بالأكابر..
وسيدي الشيخ الخنّ دمث الأخلاق، رفيع الأدب، مزوحٌ في وقار، مع سرعة البديهة، وذهن وَقَّاد، وعقل لَمَّاح، وذكاء مفرط..
وكان رحمة الله تعالى عليه مصابا بعدد من الأمراض منها انتفاخ في قدمه..يُسَبِّبُ له ثِقَلا في الحركة، وعُسرا في المشي..وكُنَّا كلما حضرنا للدرس نتألم لحاله، فنطمئن بالسؤال عن تحسن صحته..وإذا أردنا الاستفصال عن هذه العِلَّةِ، فيسألُهُ أحدُنا عن السبب؟! كان جوابه رحمة الله تعالى عليه:..”أَنْتَ السَّبَبُ..”..وكان نصيبي من هذا الجواب كبقية إخوتي..
وهو جواب صادمٌ..وطريق مستفزةٌ مثيرةٌ..وهذا ما يسمَّى في فن البلاغة لفت الانتباه..حتى يأخذ أحدنا الكلام مأخذ الجد..فلا يكون مُجَرَّدَ سؤال تلقيدي أو مجاملة عابرة..
فينتفض أحدنا لجواب الشيخ كأن لمسةً كهربائية أرعشتْهُ..فنلهج بالاستعاذة من ذلك..مستفسرين عن تسببنا فيما أصابه..كيف يكون منَّا ذلك ونحن كُلُّنا حُبٌّ وتَقْدِرٌ له..
فيكون جوابُهُ مُدهشا..يقول لنا سيدي الشيخ باللهجة الشامية: “لأَنَّك مَا عَمَّا تدْعي لِي”..أي: لأنك لا تدعو لي..
سبحان الله..ما أجمل هذه اللَّفْتة وأبرعها من سيدي الشيخ الخنّ..يُنَبِّهُكَ لأهمية طلب الدعاء من غيرك..رغم أنك تحتقر منزلتك من مقام الشيخ..فما حاجة عالم جليل رباني لدعاء طالب صغيرٍ غارق في التقصير والجهالة..!؟
فسيدي الشيخ يُربينا على أن المؤمن يدعو لإخوانه..فإنَّ الدعاءَ في صدر الغيب مظنةُ الإجابة..ففي صحيح مسلم: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: “آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلٍ”» .
ولا بأس بالاستشهاد في هذا المقام بمنَام..فعادة كثير من العلماء الاستئناس بها..فقد رُؤي أحد كبار العلماء الصالحين المربين بتونس في العهد الحفصي وهو الشيخ الزبيدي في المنام بعد موته..
فسأله الرائي وهو أحد طلابه وقد رأى عليه آثار حُسْنَ الحال:..أكيد هذه الحالة من حسن حالكم في الدنيا يا سيدي الشيخ..
فأجابه الشيخ في المنام: بل من رجل مجهول..فقد عَطَسْتُ يوما فحمدتُ الله..فشَمَّتني شخصٌ بجنبي لا أعرفه قائلا: “يرحمك الله”..فاستجاب الله دعاءه..فقد كان مجابَ الدعوة..
فلا يحقر الإنسانُ أيَّ دعاء، مِن أي شخص..نعم رغم سوء ظننا بحالنا فلْنُحْسِنْ الظن بربنا..في الدعاء لغيرنا..
فلا تبخل على إخوانك بالدعاء ولو كانوا بعيدين عنك..
وإن إخوانا لنا هم قطعة عزيزة من قلوبنا بأرض الرباط يتعرضون للخسف والنسف..فكيف نبخل عليهم بواجبهم علينا..فلنتعاهد على الدعاء الصادق الواجف لهم كل يوم..خصوصا قبل الفجر..لعل الله الكريم الجواد يستجيب هذه الدعوات..ويَسقط عنا شيئا من المسؤولية الكبيرة تُجاههم..
ولا ننسى أن من أسباب إجابة الدعاء الاستقامة..فبمقدار الصلاح تكون الإجابة.. فكلما كان أحدنا مستقيما فإنه يُساهم مساهمة طيبة في رفعِ الغبن عن إخوانه وتعجيلِ النصر في أرض إسرَاء نبينا..صلى الله عليه وسلم..فكلما كان أفراد الأمة على الاستقامة تكون عين الرضا من ربنا جل جلاله شاملة لهم..فليحذرْ أحدُنا التَّسَبُّبَ في عين السخط والغضب..وتأخير النصر وهو يَغُطُّ في غفلةٍ مقيتةٍ..