الثورة الجزائرية في كتابات الدكتور محمد العربي الزبيري (ج 1)
أ.د. مولود عويمر/
كان الدكتور محمد العربي الزبيري (1941-2024) من المؤرخين الأكاديميين الأوائل الذين اشتغلوا في الجزائر على تاريخ الثورة التحريرية ابتداء من ثمانينيات القرن العشرين، بينما نشر مبكرا عدد من الباحثين الجزائريين المقيمين خارج البلاد أعمالا عن هذه الثورة من وجهات نظر مختلفة، ولعل أبرزهم محمد حربي الذي أصدر مجموعة من الكتب بقيت فترة طويلة ممنوعة من الدخول إلى الجزائر نظرا لنقده للرواية الرسمية لتاريخ هذه الثورة. أما محمد العربي الزبيري فإنه كان منتقدا لها من الداخل باعتباره واحدا من رجالات المنظومة الحاكمة خاصة في فترة السبعينيات ومنتصف الثمانينيات. ويهمنا في هذه المداخلة عرض كتاباته وتحليلها وابراز قيمتها العلمية وتقييم حجم إضافاتها للبحث التاريخي الوطني.
جذور الثورة التحريرية
وصف الدكتور محمد العربي الزبيري الثورة الجزائرية بواحدة من أعظم الثورات في القرن العشرين، وواحدة من «أعظم الانتصارات العالمية المعاصرة»، وقارنها بالثورة الفرنسية التي ظهرت في بلد مستقل وله مؤسساته الخاصة وسيادته الدولية بينما قامت الثورة الجزائرية قامت من أجل أن تنتزع حريتها وتبني مؤسساتها وتحصل على الاعتراف الدولي بسيادتها.
في عام 1984 أصدر الدكتور الزبيري كتابه « الثورة في عامها الأول»، وقد تزامن ذلك مع الذكرى الثلاثين لهذه الثورة. وشهدت البلاد بهذه المناسبة صدور مجموعة من الأعمال التاريخية أشرفت عليها وزارة الثقافة منها: «الموسوعة التاريخية للشباب»، والموسوعة «الجزائر في التاريخ» ساهم في تحريرها أبرز المؤرخين الجزائريين.
فضلا عن ذلك، صدرت أعداد خاصة من المجلات الثقافية التي كانت تصدر آنذاك في البلاد. والملفت للانتباه أن الدكتور الزبيري لم يساهم في هذه الأعمال التاريخية وإنما اكتفى بإصدار الكتاب الذي أشرت إليه من قبل.
كان الدكتور الزبيري عالما بتاريخ المقاومة والحركة الوطنية، ويظهر ذلك من أعماله وترجماته، ومن هذا الباب يعتبر الثورة حصيلة التجارب المتتالية وتراكما من الخيبات، ولم تكن فقط وليدة ظرف استثنائي أو أزمة طارئة وقعت في حزب الشعب الجزائري–الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية في عام 1954، فالأزمات تعجِّل ميلاد الحدث ولكنها لا تصنعه من العدم.
وهكذا حرص في كتابه «العام الأول للثورة الجزائرية» على عرض الأحوال الاقتصادية والاجتماعية للجزائر منذ الاحتلال وعرج على النشاطات السياسية التي لم تبدأ في نظره بعد الحرب العالمية الأولى كما يروّج لها، وإنما بدأت مع نشاط النخبة التي عاصرت الحملة الفرنسية في عام 1830 وتوسعها العسكري في البلاد.
وكان من أبرز المقاومين السياسيين الرواد: حمدان عثمان خوجة، وأحمد بوضربة… وقد ترجم مذكراتهم بعدما فقدت أصولها العربية، وأحي ذكراهم وخلد كفاحهم الذي مثل الصفحة الأولى في سجل الحركة الوطنية الجزائرية.
وهكذا قامت الثورة الجزائرية على أيديولوجية واضحة تبلورت خلال نصف قرن من المقاومة الثقافية والنضال الوطني المستمر، والكفاح المغاربي الطموح، والتحوّل العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. لقد أدى كل هذا الحراك إلى ظهور موجة تصفية الاستعمار، واستقلال العديد من المستعمرة في إفريقيا وآسيا.
جهوده في كتابة تاريخ الثورة الجزائرية
لم يستمر الدكتور محمد العربي الزبيري في تأريخ السنوات الستة الأخرى من الثورة كما أرخ لعامها الأول بشيء من التفصيل، وإنما واصل عمله من خلال دراسات منفصلة عن بعض محطات الثورة البارزة تضمنها الجزء الثاني من كتابه «تاريخ الجزائر المعاصر».
كما دعم هذه الكتب ببحوث ومقالات أخرى نشرها في الصحف والمجلات مثل إنتفاضة 20 أوت 1955 التي قادها البطل زيغود يوسف بالشمال القسنطيني والتي درسها الزبيري في بحث مستقل نشره في مجلة «الثقافة» في عام 1984. وقد قال عنها أنها «أعادت الميلاد، وأعطت نفسا جديدا للثورة».
وفنّد بذلك ما كتبه المؤرخون الفرنسيون عن هذه الانتفاضة التي قدموها للقراء على أنها جاءت «نتيجة اليأس القاتل» المنتشر لدى قادة الولاية الثانية أمثال زيغود يوسف ولخضر بن طوبال.
خصص الزبيري بحثا مطوّلا لمؤتمر الصومام الذي كثر حوله الجدل إلى درجة اعتباره من طرف بعض زعماء الثورة انحرافا عن خط أول نوفمبر وأذكر منهم هنا: أحمد بن بله وأحمد محساس…الخ. وقال المؤرخ محمد حربي أن المؤتمر كان تحوّلا في مسار الثورة من الناحية التنظيمية والأيديولوجية لكنه فتح عهدا للصراعات حول السلطة.
أما محمد العربي الزبيري، فإن له رأي آخر حول هذه النقطة الأخيرة. فقد رأى أن المؤتمر كان قبل كل شيء «ضرورة حتمية لتقييم المرحلة المقطوعة ولوضع الخطوط العريضة لمواصلة الكفاح المسلح والتخطيط للحل السلمي من أجل استرجاع السيادة الوطنية».
ومن الجانب الآخر، كان مؤتمر الصومام «إجراء حتميا لتزويد الثورة بقيادة وطنية موحدة مجددة، ولتوحيد التنظيم العسكري وتحديد المنطلقات التي تتحكم في مسار المعركة وتوجيهها». وقد خرج كل المؤتمرين موافقين على قراراته التي شاركوا جميعا في تقديمها وإثرائها وتثبيتها لتصبح ملزمة لكل الثوار في الداخل والخارج.
وحلل الدكتور الزبيري قرارات المؤتمر التي كانت في نظره منسجمة تماما مع روح نوفمبر وبيانها الأول وحافظت على مبادئها الأصيلة. «مؤتمر الصومام لم يكن معزولا في تاريخ الثورة، والوثيقة الصادرة عنه لا يمكن أن تكون متناقضة مع نداء أول نوفمبر 1954 أو متنكرة لبعض الأفكار الرئيسية الواردة فيه، ونعني، خاصة ما يتعلق بالجمهورية الجزائرية الديموقراطية الاجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية».
كانت النخبة من دعائم الثورة فقد ساهمت بعقلها وقلمها ولسانها في رسم الخطاب الثوري وتطوير ايديولوجيتها الوطنية لمخاطبة الرأي العام الداخلي والخارجي. وازداد عدد المثقفين وتأثيرهم بعد إضراب الطلبة في 19 ماي 1956. وقد بيّن في كتابه «المثقفون الجزائريون والثورة» جهود عدد من المحامين والأطباء والعلماء والأدباء والشعراء الجزائريين لخدمة الثورة، وبيّن كيف استشهد عدد منهم في ميادين الحرب، وتعرض بعضهم للرمي في غياهب السجون، أذكر منهم الشاعر مفدي زكريا الذي كان بحق شاعر الثورة الجزائرية إذ نظم قصائد خالدة مثل النشيد الوطني «قسما»، وقصيدة الذبيح الصاعد التي توثّق لحظة إعدام أحمد زبانه بالمقصلة في سجن بربروس.
ولم ينس الدكتور الزبيري التنويه بالمثقف والطبيب المناضل الإفريقي فرانز فانون الذي انحاز إلى القضية الجزائرية وساهم في الكفاح التحرري الجزائري بعمله الطبي ونشاطه الفكري والإعلامي والدبلوماسي.
ارتبط المهاجرون الجزائريون في فرنسا دائما بوطنهم، وقد أدى هذا الالتزام إلى مساندة الحركة الوطنية في المهجر منذ تأسيسها الأول ثم واصلت مناصرتها للثورة التحريرية مناصرة معتبرة بالمال والرجال. وإذا كان هذا الدعم بقي سنوات طي السر والكتمان لاعتبارات أمنية، فقد أصبح دعما صريحا وعلنا بعد تطوّر الأحداث، وتجلى ذلك في مظاهرات 17 أكتوبر 1961 في شوارع باريس الرئيسة والتي شارك فيها الآلاف من الجزائريين بشكل سلمي.
على إثر هذا الحدث تدخلت الشرطة الفرنسية بعنف شديد وفرّقت المتظاهرين السلميين، وقتلت في نفس الوقت عددا منهم واعتقلت الآلاف منهم. وقد أدركت السلطة الفرنسية غلطتها بعد فوات الأوان وانتشار الفضيحة عبر العالم، وارتفع اسم الجزائر في كل مكان. وصف الدكتور محمد العربي الزبيري هذه المجزرة في باريس بـ «صفحة سوداء في تاريخ فرنسا الاستعمارية».
وتتبع أيضا سياسات الحكومات الفرنسية من أجل إجهاض الثورة التحريرية، وبيّن أطماع مراوغات الجنرال شارل ديغول وعدم جديته في إيجاد حل للجزائر عندما تولى الحكم سواء في الأربعينيات أو في عام 1958 لما عاد إلى السلطة.
قال الدكتور الزبيري في هذا الشأن: «لقد كان في استطاعة الجنرال ديغول أن يمنح المغرب العربي استقلاله، مباشرة بعد أن وضعت الحرب الأمبريالية الثانية أوزارها، أي عندما كان القائد غير المنازع في بطولته ووطنيته وأحقيته بالحكم. لكنه، عوضا عن ذلك، فضّل التنكر للجميل واختار المصلحة الاستعمارية. وفي سنة 1958 أيضا كان الجنرال قادرا على سحب الجيوش الفرنسية والدخول في مفاوضات الاستقلال مع جبهة التحرير الوطني، لكنه لم يفعل ذلك وراح يسخِّر كل ما لفرنسا وحلفائها من قوة للتغلب عسكريا على الثورة».
وكشف الدكتور الزبيري مناورات ديغول السياسية الرامية إلى فصل الصحراء عن الجزء الشمالي من الوطن الجزائري. غير أنه لم يفلح في ذلك بفضل حنكة القادة الجزائريين الذين انتدبتهم الثورة للتفاوض مع الحكومة الفرنسية في مدينة إيفيان بسويسرا. وهكذا انتصرت عليه الثورة التي كانت هيمنت على عهدته الأولى، وشغلته عن الأعمال الأخرى.
الدكتور الزبيري كان مهموما بدراسة مآلات الاستقلال وما وقع في نظره من انحراف عن مبادئ الثورة التحريرية لذلك تفرغ في السنوات العشر الأخيرة من حياته العامرة لمعالجة هذا الموضوع في عدة كتب أذكر منها: «المؤامرة الكبرى أو إجهاض الثورة»، و»حزب جبهة التحرير الوطني. دراسة ووجهة نظر»…الخ.
فبقدر ما تضمنته هذه الكتب من معلومات عن تاريخ جبهة التحرير الوطني ونضالها التحرري فإنها تحتوي أيضا مجادلات حول ما وصلت إليه بعد الاستقلال، وأبرز الإكراهات التي واجهتها في ممارستها الحكم والصعوبات التي عطلتها أثناء إشرافها على تنمية البلاد.
ولاشك أن هذه المطارحات تنطلق من تجاربه في دواليب السلطة الحاكمة وقربه من بعض أهل القرار، ونظرته للأشياء والأشخاص من منظور قومي عربي. وظل الدكتور الزبيري ينشر مقالاته النقدية في صفحات جرائد «صوت الأحرار» و»الحوار» و»الشروق» مدافعا عن الخط الأصيل كما يتصوره. فمزج في مقالاته بين التاريخ والسياسة، وتراوحت أفكاره بين الماضي والحاضر، بل اندفعت نحو الماضي لتتخلص من نصف الفشل الحاصل في الزمن الحاضر.
يتبع
*محاضرة شارك بها الدكتور مولود عويمر في ملتقى تاريخي بجامعة وهران، يوم 6 نوفمبر 2024.