شبابنا والتحديات المستقبلية
أ.د. عبد المجيد بيرم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
في ظل أجواء المآثر والأمجاد لشهر نوفمبر، وإحياءً للذكرى السبعين لانطلاق الشرارة الأولى للثورة المظفرة عُقد ملتقى شبابي عن المحتوى الهادف في الفضاء الرقمي لبعض المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي من تنظيم لجنة الشباب والطلبة لجمعية العلماء المسلمين. واختيار الشباب لهذا التاريخ لعقد مؤتمرهم ينمّ عن وعي بالمرحلة وبالتحديات التي يتعين عليهم مواجهتها، وهو ما يبشّر بمستقبل واعد لهذا البلد إذا أحسن القائمون عليه توجيه وتأطير طاقات شبابه، واستثمارها أحسن استثمار.
بين جيلين
إنّ القاسم المشترك بين الجيل الذي أشعل شرارة الثورة المباركة وبين جيل المؤثرين هو المرحلة العمرية التي تمثل القوة والفتوة والطموح والتحدي، وتحقيق الإنجازات والمهام العظيمة، ذات الأثر الممتد.
فالجيل الذي حمل على عاتقه وضع نهاية لاحتلال استيطاني شرس، وقاد ثورة من أعظم الثورات في العصر الحديث، هم شباب، إذ لم تتجاوز أعمار مفجريها الستة الثلاثينيات فــــ: ديدوش مراد 27 سنة، ورابح بيطاط 29 سنة، والعربي بن مهيدي 31 سنة، وكريم بلقاسم 32 سنة، بينما كان سنّ مصطفى بن بولعيد37سنة، ومحمد بوضياف35، رحمهم الله تعالى وأعلى مقامهم في الآخرة.
جمعية العلماء المسلمين والشباب
في هذه المرحلة العمرية أيضا قام رواد الحركة الإصلاحية بالمسؤولية التي في أعناقهم نحو وطنهم وأمّتهم بغرس الروح الوطنية واحياء المقومات الذاتية في نفوس الشعب الجزائري، بعمل دؤوب وإرادة لا تعرف الكلل، مستخدمين وسائل شتّى ابتداءً بالتعليم والتربية والتوعية، فابن باديس-رحمه الله- بدأ مشروعه الإصلاحي بنشر العلم وهو في العشرينيات من عمره ، وحينما أسس مجلته المنتقد سنة 1925م كان في الثلاثينيات وجعل شعارها : «الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء» وهذا الشعار يحمل دلالات عميقة في الرؤية الإصلاحية التي يريدها، إذ اتخذ من هذه المجلة وسيلة لرفع منسوب الوعى لدى الشعب الجزائري، ومعالجة الخرافات والانحرافات الفكرية والسلوكية السائدة، ومواجهة التغريب والأفكار الإدماجية التي كان الاستعمار الفرنسي يبثها في عقول الشباب….. وحينما أوقفت السلطات الاستعمارية هذه المجلة بعد أن صدر منها 18عددا، أصدر مجلة أخرى هي مجلة الشهاب وجعل محتواها إحياء مقومات الشعب الجزائري من دين ولغة وتاريخ وحضارة حيث خصّصّ عمودا من خلال ما كان ينشر فيها من موضوعات في تفسير الآيات وشرح الأحاديث النبوية تحت عنوان مجالس التذكير من كلام العليم الخبير ومجالس التذكير من كلام البشير النذير، وأركانا يُعرِّف فيها بالأبطال والعظماء من المسلمين أو بمواقفهم الإنسانية الخالدة بما يتناسب مع واقع الجزائريين آنذاك، وأُخرى للأحداث الدولية، لجعل القارئ للمجلة على دراية بما يجري في العالم من أحداث ،كما خصّص ركنا يذكر فيه ثمار العقول والمطابع من الإنتاج الفكري من كتب وجرائد من جميع أنحاء البلاد العربية، وفي المجلة عمود للفتوى، وهذه الموضوعات المتنوعة التي كانت تتزين بها المجلة تعكس كما هو واضح المشروع الإصلاحي الذي باشره هو وصحبه في الجزائر.
أَوْلَى الشيخ محمد البشير الإبراهيمي -رحمه الله-عناية بالغة بالشباب، ليقينه بأنّ هذه الفئة هي المعوّل عليها في إحداث التغيير، وقد كتب في عيون البصائر أربع مقالات تحت عنوان: شباب الجزائر كما تمثله لي الخواطر، كان يخاطب فيها الشاب الجزائري و يختمها بلازمة: ‘يا شباب الجزائر هكذا كونوا أو لا تكونوا’، ويتناسب مع ما نحن بصدده، قوله مخاطبا الشباب الجزائري: ‘ما قيمة الشباب؟: إذا لم تنفق دقائقه في تحصيل علمو نصر حقيقة ونشر لغة ونفع أمة وخدمة وطن’ 3/512
فقيمة الشباب هو ما يتم إنجازه وتحقيقه في هذه الفترة العمرية من تحصيل العلوم والمعارف وبيان الحقائق وكشف الشبهات وردّها أو تبني قضايا الأمة وحمل همومها وخدمة الوطن والعمل من أجل رفع شأنه وحماية وحدته…
كما نبّه إلى مسألة ذات أهمية بالغة وهي أنّ تأثير الشباب في الشباب أقوى من تأثير غيرهم فيهم قال: «أيّها الشباب، إنّ الشباب نسب بينكم ورحم وجامعة، ولا مؤثر في الشباب مثل الشباب، فليكن بعضكم لبعض إماما»3/270، ومن هنا ندرك أهمية الوسائل التقنية التي يستخدمها هذا الجيل، ويتواصلون بها مع الآخرين، ودرجة تأثيرها فيهم.
تحديث الوسائل للتواصل مع الجيل الرقمي
إنّ هذا الجيل يختلف عن الجيل السابق بل الأجيال السابقة، فالتحديات التي تواجهه أكبر، والاكراهات أخطر، والوسائل أشد تعقيدا، فقد فتح عينيه على الثورة التكنولوجية التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ البشري، بفضل ما استحدث من وسائل التواصل التي أزالت كل الحواجز والحدود، وأصبح التواصل بفضل هذه الوسائط بالصوت والصورة، فالرهان لم يعد يتعلق بالقوّة الكامنة في الثقافات والحضارات وإنّما بما تمتلكه الدّول من وسائل تأثير، وانتشار، وإبهار، ومع التدفق الرهيب للمعلومة والصّورة، تراجع دور الأسرة والمدرسة، ممّا سهّل الاختراق الثقافي والقيمي، وهو ما يمثل تهديدا للهوية الحضارية لمجتمعاتنا.
ويؤكد هذه الحقيقة ما نراه من تأثير وسائل التواصل الاجتماعية على عقول الشباب وسلوكياتهم، لذلك فإنّ وعي هؤلاء الشباب بهذا التّحدي، وانبعاثهم للنهوض بمهمّة إيصال محتوى هادف يستجيب لتطلعات الفئات المستهدفة، ويضع يده على آلامهم، وآمالهم، ويشاركهم همومهم وطموحاتهم، ويواجه تيّارات الرداءة والانسلاخ الجارفة، من خلال آليات التواصل المتاحة، لهو دليل صحة يبشر بخير كثير.
المحتوى الهادف
إنّ الفضاء الرقمي مجال مفتوح لكل من يريد أن يلجه، والكل يجد مبتغاه أيا كان، قد يكون نافعا وقد يكون ضارا، لذلك تنوعت مجالات المحتويات، بين ما هو محتواه هادف ونافع سواء تعلق بالمجال التربوي أو الديني أو الأخلاقي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياحي…
وبين المحتوى الهابط أو التافه كنقل تفاصيل الحياة الشخصية للأفراد، والترويج لأفكار ومعتقدات ورموز لا تمت لهويتنا الحضارية والدينية بصلة بقصد ودون قصد، تحت غطاء الرجوع إلى الطبيعة، وعلوم الطاقة، وهي تمثل ديانات ومذاهب فكرية وعقدية في الواقع، إضافة إلى نشر الإسفاف والرقص والعري وغير ذلك من الأمور التي تشغل المجتمع بالتفاهات وتصرفهم عن القضايا الجادة في الحياة وتُضرب بها قيم المجتمع وأخلاقه…
فالمحتوى الهادف رسالة سامية يؤديها المؤثر؛ لأنّ ما يقوم به صاحب المحتوى الهادف من دور في مواقع التواصل الاجتماعي لا يقل أهمية عما يؤدّيه الخطيب في خطبته والمعلم في مدرسته والإعلامي في تغطيته الإعلامية، والكاتب فيما يكتبه… في بعث الأمل ومحاربة اليأس في النفوس وفتح آفاق المستقبل وتحريك الهمم نحو ما يعود عليهم وعلى غيرهم بالخير والنفع
القضية الفلسطينية والوسائط الإعلامية
ومن القضايا الجديرة بالاهتمام ذات البعد العقدي والتاريخي والحضاري قضية فلسطين والقدس والأقصى، ذلك أنّ الحركة الصهيونية جعلت من الاعلام وسيلة لقلب الحقائق وتزييف التاريخ وتسويق السردية الإسرائيلية في الأحداث التاريخية المتصلة باحتلال فلسطين، وكادت أن تتحول هذه السردية إلى الحقيقة المطلقة التي لا يجوز أن يخالطها أدنى شك، ونحن اليوم نشاهد أحداثا من الاعتداء الوحشي، والابادة الصهيونية للشعب الفلسطيني لم تتوقف منذ أربعة مائة يوم، ولا تزال أكثر الشعوب الغربية تعتقد أن اليهود يعيشون ظلما مستمرا من محيطهم العربي لولا الاختراق الذي أحدثه ثلّة من الشباب الرسالي الذين اتخذوا من هذا الفضاء الرقمي مجالا لنصرة قضايانا وعلى رأسها ما تتعرض له غزة من إبادة وتجويع وتهجير، فعملوا على دحض هذه الدعاوى من خلال الصورة، ونقل الواقع الفلسطيني، ومقابلتها بما يحدث في أوكرانيا.. وغير ذلك من الجهود التي تدل على وعي جزء من هذه الشريحة بواقعها، وبما يُحَاك في الظلام ضد أمتها.
{وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[سورة يوسف:21]