ملف

مالك بن نبي: مسيرته الفكرية والجهادية

البدر فارس/

يُعدُّ المجاهد والمُفكر العالمي «مالك بن نبي الجزائري» أحد أقطاب الفكر الإسلامي المُستنير، وأحد المجاهدين الأبرار الذين عرفتهم الجزائر في عصرها الحديث؛ فـ»مالك» كان مُجاهدًا من نوع آخر، جاهدَ بفكره وقلمه ولسانه، فكان لأفكاره ومؤلفاته ومُحاضراته في العالم الإسلامي الصدى الواسع، والأثر الكبير في انجذاب وتعاطف الأمَّة الإسلامية مع القضية الجزائرية، ومُساهمتها الفعَّالة في مُساعدة الثُّوار الجزائريين في جهادهم ضد الاستعمار الفرنسي. ويعد المجاهد «مالك بن نبي» أول من نادى باستقلال الجزائر في عقر دار العدو؛ من خلال مُحاضراته القيّمة التي كان يُلقيها في عاصمة الدولة الاستعمارية «باريس»؛ فاعتُقل في الأربعينيات من القرن الماضي وزُجَّ به في السجون الفرنسية لبضع شهور.

نشاطاته الفكرية والإصلاحية لنصرة القضية الجزائرية والإسلامية في فرنسا
في 22 سبتمبر 1939م، عاد من جديد «مالك بن نبي» إلى مدينته «تبسة» من «باريس» مُحاولًا أنْ يجد عملا مُناسبًا فيها، غير أنَّ مُحاولته هذه باءت بالفشل… وما لبثت أنْ اندلعت الحرب العالمية الثانية، فعاد إلى «باريس» مُوَدِّعًا الجزائر قائلًا: «يا أرضًا عقوقًا! تطعمين الأجنبي وتتركين أبناءك للجوع، إنني لن أعود إليكِ إنْ لم تصبحي حُرة!»…!!.
عاد «مالك» إلى فرنسا وهو يحمل هموم بلاده الجزائر، داعيًا الرأي الدولي للنظر إلى قضية بلاده باهتمام، والضغط على الدولة الفرنسية لإيجاد حلٍ لِقضية الجزائر عن طريق محاضراته القيِّمة التي كان يُلقيها في فرنسا التي تُنادي بحرية واستقلال الجزائر، غير أنَّ السُّلطات الفرنسية لم تتركه وشأنه بل ضايقته ومنعته من الإدلاء بآرائه، حتى أنها وصلت في مُضايقاتها المُتواصلة، وإيغالها المُتعسف، وظُلمها السافر إلى سجنه في أوت 1944م بدون حق، بل لإسكاته وكتم صوته الذي ارتفع لإعلاء كلمة الله عزَّ وجلَّ، وإظهار الحق، والتعريف بحقيقة المُستعمر الفرنسي الذي يتخفى وراء المدنية الزائفة لِينقذ الأُمة الإسلامية من الجهل والتخلف والفقر، ويبث فيها روح النضال والمُقاومة والجهاد، لينهض بها من كبوتها المُزمنة، ويدخلها من جديد في مضمار الحضارة الذي انحرفت عنه لمدة قُرون وقُرون… وبعد خروجه من السجن تفرغ «مالك» للعمل الفكري واستطاع عن طريق مؤلفاته وكتاباته وحواراته مع المُجتمع الفرنسي أن يُقدم صورة صحيحة وسليمة لأوضاع العالم الإسلامي عامةً، ولأوضاع بلاده الجزائر خاصةً، فقد تمكن من مُخاطبة العقل الغربي إسلاميًّا بصورة جذبت الكثير من الفرنسيين المُستشرقين.
ولقد كان لكتابه الأول الذي أَلفه وطبعه في «باريس» سنة 1947م باللغة الفرنسية، والذي يحمل عنوان: «الظاهرة القرآنية»، الصدى والأثر الكبير في أوساط المجتمع الفرنسي، فلقد أوقدَ شرارة في أعماق الفكر الأوروبي، وفتح نافذة أطل من خلالها العديد من القراء الأوروبيين على مبادئ الدين الإسلامي السامية، وإظهار معجزات القرآن الكريم الخارقة، وتيسير معرفة سيرة سيدنا «محمد» ﷺ العطرة.
ولقد اعترف الدكتور «علي سليمان بنو»، الذي اعتنق الإسلام بعد قراءته لكتاب: «الظاهرة القرآنية»، بأنَّه مُدين بالشيء الكثير لـ»مالك بن نبي». ومن بين الشخصيات البارزة الأخرى التي اعتنقت الإسلام عن طريق أفكار «مالك بن نبي»، نذكر منها: «بيار شابوي» الذي اعتنق الإسلام بفضل هداية الله أولًا، ثم بفضل أفكار «مالك بن نبي»، فغيَّرَ اسمه إلى «شمس الدين» وحسُنَ إسلامه. وكذلك صديقه الفرنسي «جو كلاري» الذي اعتنق كذلك الإسلام بمشورة منه، وفضَّلَ تغيير اسمه إلى «محمد الشريف» تأسيا بسيدنا «محمد» ﷺ.
وهكذا أصبح «مالك بن نبي» نجمًا وطنيًّا مُسلمًا في «باريس» في أوساط المُثقفين المغاربة، عاملًا في حقل العمل الفكري والتربوي والإصلاحي، فبزغَ نجمه حتى خارج الحدود الفرنسية، خاصةً بعد تأليف وطبع كتابه الثاني باللغة الفرنسية: «شروط النهضة»، الذي ظهر في الأسواق الفرنسية سنة 1948م.

مالك بن نبي في يمين الصورة وبرفقته الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر

 

اندلاع الثورة التحريرية الكبرى وانضمامه إليها
عند اندلاع الثورة التحريرية الجزائرية الكبرى في الفاتح من نوفمبر 1954م، كان المُفكر العالمي «مالك بن نبي» من الأوائل الذين انضموا إلى هذه الثورة المُباركة؛ ولقد تأثر بمجرياتها وتطوراتها تأثرًا كبيرًا انعكس إيجابيًا على كتاباته، ولَخير دليل على ذلك أنَّه في هذه الفترة التي خاض فيها الشعب الجزائري معركة من أكبر المعارك الشرسة والعادلة التي عرفتها الإنسانية على مر كل العصور والدهور ألف فيها «مالك بن نبي» أهم كُتبه التي وصل عددها عشرة كُتب، حتى إنَّه عند انتقاله إلى «القاهرة» بعيدًا عن وطنه العزيز الجزائر برفقة الزعيم الوطني «فرحات عباس»، كان يُتابع باهتمامٍ بالغ أحداث وأوضاع ومُستجدات الثورة التحريرية الجزائرية الكبرى، ولقد ألهمته أحداث هذه الثورة المُباركة مشاعر الجهاد المُقدس مشحونة وممزوجة بمشاعر الكتابة الصادقة الهادفة ترجمها في أفكارٍ خالدة، انعكست أنوارها بين السطور المُعطَّرة في كُتبه القيِّمة التي ألفها بمناسبة هذه الثورة المُظفرة؛ وإنَّه لَجدير أن يُكتب عن هذه الثورة المُباركة بأحرفٍ من نور، لا بأحرفٍ من حبر، فمقامها وعظمتها تفوق كل الأراء والمشاعر التي خاضت أقلام بعض المؤلفين والكُتَّاب والمؤرخين الخوض فيها والكتابة عنها.
ولقد أُتيحت لـ»مالك بن نبي» فُرصة التوجه إلى «مصر» سنة 1956م، وبالذات إلى «القاهرة» بمساعدة الزعيم الوطني «فرحات عباس»، واستطاع طبع كتابه الجديد: «الفكرة الأفريقية الآسيوية»، بمناسبة انعقاد مؤتمر باندونج، ولقد تكفلت وزارة الإعلام المصرية بطبع كتابه الجديد باللغة الفرنسية لأهمية مُحتواه الفكري القيِّم.
ولنشاطات المُفكر «مالك بن نبي» العديدة والمُؤثرة في عالم الفكر الإسلامي بـ»القاهرة»، تم تعيينه عضوًا في مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر، كما كان مُستشارًا للمؤتمر الإسلامي في «القاهرة»، وهي مؤسسة مصرية لها صبغة عالمية، وصارت له مُشاركات عديدة في الكثير من المؤتمرات، ولهذا أدركَ «مالك» أنَّ إتقانه للغة العربية على أصولها هي من العوامل والحواجز الرئيسية التي لابد من النظر فيها وتجاوزها، لهذا قرر تعلم اللغة العربية على أصولها، ولكنه لم يدرس في الأزهر، كان همه القضايا الفكرية الإسلامية بالأساس، تاركًا الفقه لأهله… وتمكن في وقتٍ وجيز من عبور هذا الحاجز والاختبار بنجاح كبير في إتقان اللغة العربية، وأصبح يتكلم بلغة عربية راقية، وصار يحضر مُحاضراته كبار دكاترة العالم العربي مثل الراحل «زكريا إبراهيم»، ولقد اعترف كل من استمع لمحاضراته أنَّه لم يسمع تحليلًا مثيلًا لتحاليله، وكان الإجماع على أنَّه عبقري وسابق عصره. والَدليل على إتقانه اللغة العربية على أصولها تمكنه في وقتٍ قياسي من تأليف كتابه الأول باللغة العربية تحت عنوان: «الصراع الفكري في البلاد المُستعمرة»، الذي ظهر في «القاهرة» سنة 1960م.
مُعاناته من مُلاحقات وتهديدات المخابرات الفرنسية والأمريكية له
في نهاية سنة 1959م، عاد من جديد «مالك بن نبي» إلى مدينته «تبسة»، حيث تزوجَ مرة ثانية من قريبة له تُسمى السيدة «خدوجة حواس»، فأنجبت له سنة 1961م توأم بنات سماهما: «إيمان» و»نعمة»، ثم بعد ذلك أنجبت له الطفلة «رحمة». ويُلاحظ من هذه الأسماء كلها، أنها أسماء إيمانية تستشرف منها الإيمان بالله وحده، وشُكر نِعمه، وطلب الرحمة منه. أما زوجته الأولى فبقيت في فرنسا، ثم ليعود من جديد «مالك» إلى «القاهرة» ليكمل جهاده الفكري ضد المُستعمر السافر الظالم، هذا الجهاد الذي كلَّفه الكثير، حيث يذكر لنا الأستاذ الدكتور «عمار طالبي» في كتابه: «مالك بن نبي: الاستعمار يلجأ إلى الاغتيال بوسائل العلم»، مدى المُعاناة القاسية التي كان يُعانيها ويُقاسيها المُفكر العالمي «مالك بن نبي» أثناء تواجده بـ»القاهرة» في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي من طرف المُخابرات الفرنسية وحتى المُخابرات الأمريكية.

يظهر في الصورة المجاهد “مالك بن نبي” رفقة الثوار الجزائريين، ومع ثوار أفارفة آخرين وعلى رأسهم الزعيم “منديلا”

 

مهامه بعد الاستقلال
أثناء تواجد «مالك بن نبي» بـ»القاهرة» قبل استقلال الجزائر ساءت علاقته مع بعض الثُّوار الجزائريين، فـ»مالك» كان مُجاهدًا من نوع آخر، جاهدَ بفكره وقلمه ولسانه، فكان لأفكاره ومؤلفاته ومُحاضراته في العالم الإسلامي الصدى الواسع، والأثر الكبير في انجذاب وتعاطف الأمَّة الإسلامية مع القضية الجزائرية، ومُساهمتها الفعَّالة في مُساعدة الثُّوار الجزائريين في جهادهم ضد الاستعمار الفرنسي، غير أنَّ بعض الثُّوار الجزائريين لم تعجبهم أفكاره، فلقد ذكر بعض المؤرخين أنَّه بعد استقلال الجزائر في الخامس من جويلية سنة 1962م، كانت لـ»مالك بن نبي» خلافات مع قائدي الثورة التحريرية الجزائرية، وعلى رأسهم الرئيس الراحل «أحمد بن بلة»، خاصةً فيما يتعلق بالخلافات السياسية والفكرية، ومنها الاتجاه الاشتراكي الذي انتهجه النظام الحاكم للبلاد في بداية الاستقلال برئاسة الرئيس الراحل «أحمد بن بلة»، حيث كان يشعر «مالك بن نبي» بحالة الاغتراب التي كان يعيشها على الصعيديْن الفكري والسياسي في بلاده، لهذا فضَّلَ الابتعاد عن البلاد والعودة من جديد إلى «القاهرة».
غير أنَّه بعد التصحيح الثوري سنة 1965م، عاد الأستاذ «مالك بن نبي» إلى مدينته «تبسة» ليتفقد فيها أحوال العائلة، ثم عرج إلى الجزائر العاصمة حيث تولى مناصب إدارية علمية بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، منها مستشار في الوزارة المذكورة، ومدير جامعة الجزائر، ومدير عام للتعليم العالي. غير أنَّه لم يستمر في منصبه هذا الأخير سوى بضعة أشهر…!!.
ولقد توفي الأستاذ «مالك بن نبي» يوم 31 أكتوبر سنة 1973م بالجزائر العاصمة، وهذا في حدود الساعة الحادية عشرة إلا رُبع ليلًا على بُعد دقائق من إطلاق مدفعية الاحتفال في منتصف الليل بالذكرى التاسعة عشرة للثورة التحريرية، وتم تشييع جُثمانه بمقبرة «سيدي محمد» بالجزائر العاصمة.
ولقد أمضى المجاهد والمفكر العالمي «مالك بن نبي» حياته يُؤلف ويكتب ويُحاضر ويرد وينتقد ويُوجه ويُحذر من خطر الابتعاد عن الإسلام ومنهجه الصحيح، والانسياق الأعمى وراء عمى المدنية المسيحية واليهودية الضالة المُضلة، وقد ترك العشرات من المؤلفات القيِّمة التي رفعته إلى مصاف المُفكرين العالميين، فلقد كان حقًّا فارسًا من فرسان الفكر الإسلامي، وهو أول من نادى باستقلال الجزائر في عقر دار العدو؛ في «باريس» فاعتُقِلَ وسُجِنَ فيها في الأربعينيات من القرن الماضي، رحمه الله.

أُلتقطت هذه الصورة في إحدى المُدن الجزائرية في أواخر الستينيات من القرن الماضي، ويظهر المفكر مالك بن نبي في حوارٍ مع الرئيس الراحل هواري بومدين

 

مؤلفاته الفكرية وخصائصها
لقد ترك المفكر العالمي «مالك بن نبي» العديد من المؤلفات التي تعد عصارة تجربة فكرية دامت أكثر من أربعين سنة، عالجَ فيها عدة قضايا شائكة وعويصة كانت تُعاني منها الأُمَّة الجزائرية خاصةً، والأُمَّة الإسلامية عامةً. وكان لهذه المؤلفات القيِّمة الفضل الكبير في رفع «مالك بن نبي» إلى مصاف المُفكرين العالميين… ولقد تميَّزت مؤلفاته وكتاباته بتجسيد معنى فكرة التغيير في السلوك الإنساني، فهو يرى أنَّ الإنسان بمقدرته تغيير أحوال بيئته، فهذه التغييرات في نظره تنبع دائمًا من نفس الإنسان لا من غيره، وهذه الفكرة مُجسدة تقريبًا في كل أعمال «مالك بن نبي»، وهي محور معظم دراساته، ولَدليل على ذلك أننا نراه دائمًا وفي الكثير من مؤلفاته يستشهد بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ} (سورة الرعد، الآية: 11).
ولقد لاحظنا واستنتجنا من خلال هذه الكتابات أنَّ الباحث المُفكر «مالك بن نبي» يعد من الباحثين والمُفكرين الجُدد القلائل في العصر الحديث الذين أحدثوا ثورة منهجية في مجال تفسير القرآن الكريم، ودرسوه بمنظار ورؤية جديدة أحدثت تطورًا كبيرًا واسعًا في فهم المعاني السامية للقرآن الكريم مثل الداعية «سيد قطب»، والشيخ «أمين الخولي» -رحمهما الله- وغيرهما، فلقد قدموا للمثقف المسلم المُحتَّك بالحضارة الغربية الحديثة قواعد صلبة تُمكنه من التأمل بشكل واضحٍ وواعٍ في القرآن الكريم ومبادئه السامية، ليس كالتفسيرات التقليدية السابقة التي أَلَمَّ بها الكثير من مُفسري القرآن، والتي تعتمد على توضيح الإعجاز البياني والبلاغي للقرآن الكريم فحسب.
ولقد وصف المفكر العالمي «مالك بن نبي» فضل وأهمية القرآن الكريم في نظام هذه الحياة الدنيا، بل في النظام الكوني ككل وصفًا غير مسبوق، أبدع في إظهار أهميته وفضله، ومُبيِّنًا أنَّه ملاذ البشرية، وأنَّه حافلٌ بالأسرار إلى الأبد، حيث قال:
«… وبعد ففي ضوء القرآن يبدو الدين ظاهرة كونية تحكم فكر الإنسان وحضارته، كما تحكم الجاذبية المادة، وتتحكم في تطورها.
والدين على هذا يبدو وكأنه مطبوع في النظام الكوني، قانونًا خاصًا بالفكر، الذي يطوف في مدارات مُختلفة، من الإسلام المُوحد إلى أحط الوثنيات البدائية، حول مركز واحد، يخطف سناه الأبصار، وهو حافل بالأسرار… إلى الأبد…».
واستخلصنا أيضًا من خلال مؤلفاته، تميّزه عن غيره من الكُتّاب والمُفكرين بإدراكه العميق لمشكلة التطور والحداثة عند المسلمين، فهي تتسم بالحساسية وتأخذ طابع الحذر والتريث أكثر منها عند أي مجتمعات أخرى، وذلك راجع في نظره إلى إدراك المسلمين عامة لقيمة تراثهم الأخلاقي ورغبتهم في إنقاذه، مع إحساسهم بضرورة اندماجهم في عالم زمني لم يتمكنوا بعد من تمثل معاييره والإمساك بقوانينه، فلا أحد منا ينكر كما يقول «مالك بن نبي» بأننا بتنا نعيش في عالم لنا منه أشياؤه المُستوردة، تُحاصرنا وتُحرك حياتنا، بما تحدثه من تقاليد جديدة، وتولده من أذواق مُستعارة وأفكار غريبه، فالعالم العربي والإسلامي يمر الآن بما يسمى بفترة «اللاتكيف الحضاري» زاد من حدة وطأتها عليه الحروب والنزاعات التي تدار على أراضيه، تُبعد طاقاته الاجتماعية ومواده الأولية، وتعصف بإنسانه، فتجعله أشبه بكائن مُنقرض مُطارد مُثقل بالهموم والمشاعر السلبية.
ولاحظنا كذلك من خلال مؤلفاته، فكرة العودة لله والدين، فالمفكر «مالك بن نبي» يرى أنَّه لا خيار لنا إذا أردنا العزَّة والكرامة في هذه الحياة الدنيا، والفلاح والسعادة في الحياة الأخرى إلَّا بالعودة لله بمفهومه الكامل والشامل، والتمسك بالمبادئ السامية التي حثنا ديننا الحنيف على التمسك بها.
ويرى أيضا المفكر «مالك بن نبي» أن نهضة العالم العربي والإسلامي لن تكون في الفصل بين القيّم إنما في الجمع بين العلم والأخلاق، بين الحاجات المادية والروحية في توازن واعتدال، يمسك بكل تفصيل من تفاصيل الحياة، ليضع عليه طابع الأصالة، التي ما فتئت تحفظ قيمة وكرامة الإنسان (انظر: سلسلة مشكلات الحضارة لمالك بن نبي).
أما بالنسبة لرأيه في الاستعمار؛ فهو يرى أن المشكلة ليست في الاستعمار-الذي يُعلق به ويُناط كل المشاكل- بل المشكلة في جوهرها مشكلة نفسية اجتماعية، مُدللًا على ذلك بأن بعض الدول العربية الأشد تخلفا لم تكن مُستعمرة، ففي داخل المجتمعات العربية يجثم الخطأ؛ إنه «القابلية للاستعمار»، ليس فقط بشكله المادي، بل في شكله المعنوي أولا المُتمثل في سريان الأفكار الخاطئة إلى مُحيطنا الثقافي.
فهذه الأطروحة التي طرحها المفكر الفذ «مالك بن نبي» مبنية على إيقاظ العالم العربي والإسلامي إلى مشاكله الفكرية، قبل أن يصب اللوم على المُستعمر المُستغل، فكان «مالك» مفكرا أيقظ الفكر العربي والإسلامي على مشاكله الفكرية والاجتماعية والثقافية التي أنتجت البيئة الخصبة لِقدوم الاستعمار.
ثم يُضيف في تحليلاته المُبهرة وفي توصيفه لِخُطط الاستعمار وحلفائه الأبالسة في الداخل والخارج في مرحلة ما بعد التحرير حيث حذر من الأمصال المُضادة التي يصرّ المستعمر على حقنها في فكر الشعوب المُتحررة، وجراثيمه هذه تتمثل في صراع الأفكار، حيث يعمد المُستعمر-حسب رأي بن نبي- إلى بث الأفكار الهدّامة التي من شأنها إيقاف عملية بناء الحضارة.
ولاحظنا كذلك في كتابات «مالك بن نبي» أنَّ العقل والمنطق سيطر على كيانه كليًا، وأصبحت الفكرة النابعة من العقل والمنطق تُسيِّر حياته ووجدانه، فالفكرة الصحيحة السليمة تُمثل سلوكا حضاريا راقيا، وثقافة إنسانية عريقة تنتمي إلى حقل معرفي مُتميِّز، جاءت لتخدم مصالح الإنسان وتُوجهه إلى الأعمال الصالحة.
حتى أنَّه عندما حاول خوض تجربة الكتابة الأدبية -مثل كتابه: «رواية لبيك»- وجدَ نفسه يكتب بالعقل لا بالخيال، مع العلم أنَّ الكتابة الأدبية في أغلب الأحيان يغلب عليها الجانب العاطفي أكثر من الجانب العقلي، لهذا نرى أنَّ «مالك بن نبي» جعل من أسلوبه الأدبي مطيَّة لبثِّ أفكاره لا لاختبار قُدراته اللغوية والتعبيريَّة، فهدفه في هذا كله إيصال الفكرة، وإبراز الأصالة النفسية لهذا المجتمع الجزائري الذي تميَّزَ -بالرغم من الظروف القاسية التي عاشها إبَّان الاستعمار الفرنسي- بخِصالٍ حميدة قلَّ ما اتصفَت بها مُجتمعاتٍ أخرى.
كما لاحظنا كذلك تركيزه في كتاباته على فكرة الإصلاح التي اشتدَّ عودها في الفترة التي سبقت اندلاع الثورة التحريرية الكبرى بسنواتٍ قليلة، وكيف ساهمَ مُساهمةً فعَّالة في دعم الإصلاحات التربوية والتعليمية التي طرأت على الساحة الاجتماعية والثقافية وحتى السياسية في البلاد وقتئذٍ بكتاباته الهادفة المُتميِّزة، فكان بحق مثلًا في الدعم المادي والنفسي والروحي لبناء وعي قومي، استطاع به من تعبئة الجماهير المُتعطشة لمن يقودها إلى النهوض من كبوتها والعبور بها إلى بر الأمان؛ وبفضل هذه الأفكار الإصلاحية تمكن الشعب الجزائري من النهوض من كبوته وثار ضد المُستعر الفرنسي في ثورة عارمة لم تشهد القرون الماضية مثيلًا لها. والعجيب والغريب في الأمر أنَّ المُفكر «مالك بن نبي» عند مساهمته في اندلاع الثورة التحريرية الكبرى، لم يكن ينتمي إلى أي حزب وطني يُذكر، فلقد ألغى الحزبيَّة في فكره، وأصبح صاحب اتجاه وتيَّار حُر يقرؤه المسلم مهما كان مذهبه. فالمُفكر «مالك بن نبي» هو طائرٌ حُر يطير في مدار فكري مُتميِّز وغير مسبوق، انتهج بمنهجه السليم ومبادئه السامية طريقًا مُستقيمًا لفتتَ إليه أنظار تلك الجماهير المُثقفة المُتعطشة لمزيد من الثقافات والمعارف، متبعًا في ذلك منهجًا سليمًا وصحيحًا في الإبداع والابتكار في أفكاره وآرائه.
ولاحظنا كذلك من خلال كتاباته المُمتعة أنَّه كان يتمتع بأفكارٍ قومية، تُعبِّر بصدق عن فخره واعتزازه بالانتماء إلى القومية العربية الأصيلة. فكما تشبع بالفكر الإصلاحي تشبع أيضًا بالفكر القومي، فآمن بالوحدة العربية، وحارب الانشقاق، وكان يُشارك في المُحاضرات التي تتطرق إلى القضايا العربية ككل، ويُحاول إيجاد الحلول المُناسبة في حلِ عويصها ورأب انصداعها وتقويم اعوجاجها، مُوظفًا في كل ذلك من حنكة كبيرة، وأفكارٍ نافعة قد آتت أُكلها غير ما مرة في مثل هذه المواقف القومية العربية.
ولاحظنا كذلك من خلال كتاباته تجسيده لفكرة الصراع الثقافي والفكري بين المجتمع الغربي والمجتمع الإسلامي، ورسم أيضًا ملامح الإنتاج الفكري والأدبي للمفكرين والأدبيين الجزائريين في فترة الاستعمار، وكيف أصبحت أقلام المُبدعين أبواقًا للاستعمار الظالم، الذي لا يسمح للإبداع الفكري والأدبي الحُر أن ينطلق ويُعبر عن واقعه بكل مصداقية وحُرية.
وركَّزَ كذلك في كتاباته على وجوب استعادة أصالتنا الفكرية الإسلامية، واستقلالنا من التبعية الفكرية الغربية حتى نتمكن أنْ نستقل في جميع الميادين الحيوية الأخرى والتي بفضلها نتطور ونتقدم إلى الأحسن.
وكذلك من خلال استعراضنا السريع لبعض مؤلفاته، استنتجنا أنَّه كان ثاقب البصيرة، مُتّزن العقل، ودقيق التعليل والتحليل، حُرّ الفكر، فجاءت كُتبه تُعلِّم العلم والتفكير. وكان في كتاباته ذا مُلاحظة دقيقة، وروح مرحة فكهة، وقلم رشيق، فصوَّرَ مثلًا في كتابه «شاهد للعصر» أحوال عصره وحياة أهل زمانه وأخلاقهم وعاداتهم تصويرًا يمتزج فيها الفكر الإسلامي بالفكر الغربي، ويمتزج فيها كذلك الجد بالدُعابة.
وكذلك من خلال استعراضنا السريع لقراءة بعض من مُؤلفاته، استنتجنا أنَّ كتاباته فيها الكثير من الوحي العلمي الحسابي الرياضي، مِما أضفى عليها طابع الدقة والتحليل العلمي. فدراسته العلمية في «باريس»، وتخصصه العلمي كمهندس كهربائي ترجمها حتى في بعض من أفكاره على شكل مُنحنيات رياضية وأشكال هندسية تجلب لها الانتباه، وتنتج عنها الإبداع والابتكار.

صورة لتمثال المُفكر الأستاذ مالك بن نبي، نصَّبته السُّلطات المحلية لمدينة تبسة في وسط المدينة.

 

خُلاصة عامة
وكخلاصة عامة لِما قُلناه، فإنّناَ نجد شخصية «مالك بن نبي» -من خلال كتاباته- يجتمع فيها خطان رافقاه طوال حياته، فهو شخصية عاطفية، خيالية أحيانًا، يُفكر بأحلام الفلاسفة ويهيم بالتجريد.
وفي الجانب الآخر الغالب في شخصيته ومُؤلفاته نجد شخصية «مالك بن نبي» الناقد المُحلل، الذي يمتلك القُدرة الفائقة على النفاذ لأعماق المشكلة وبيان أسبابها، من خلال النظرة العلمية الصارمة، ومن خلال اطلاع واسع على الثقافة الغربية، وكيف تنشأ الحضارات مع معرفة بواقع المُجتمعات الإسلامية من خلال معرفته الشخصية بالمجتمع الجزائري، وهو في مُقارناته وتحليلاته يشبه سلفه الصالح المؤرخ الكبير «ابن خلدون».
إن مدرسة «مالك بن نبي» التي أسسها تُمثل مدرسة فكرية اجتماعية تنطلق من الواقع الاجتماعي المُعاش، مُحاولة شده إلى الواقع الاجتماعي الذي عايشه من قبلنا إبّان التغيير الذي أحدثه القرآن الكريم، وهذا الواقع المأمول مبني على فكرة مفادها مأخوذ من قول الله تعالى: «حتى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ» (سورة الأنفال، الآية: 53).
وكخلاصة لِما ذكرناه، ومما تقدم من ذكر خِصال هذا المُفكر العالمي الفذ نقول بأنَّ المُفكر العالمي «مالك بن نبي» كان صاحب رسالة هادفة عظيمة، وأفكار نيِّرة مُتميِّزة، وكانت مسيرته الفكرية والجهادية مسيرة أضاءت للأجيال الحالية واللاحقة درب الفكر الواعي الهادف، ولِتُنير أمام الأجيال ولا سيَّما الشباب معالم درب النضال والجهاد الذي شقَّه ملايين الشهداء الجزائريين الأبرار بدمائهم الزَّكية، وعبَّدوهُ بأجسادهم الطَّاهرة لِيكون مَعبرًا للجزائر ولشعبها إلى الحرية والاستقلال.
فقد عاش من أجل الفكرة وحارب لأجلها ومات وهو يسأل عنها، وجاء هذا على لسان زوجه السيدة «خدوجة حواس»، حيث قالت: «وهو على فراش الموت أرسل إلى أحد أصدقائه وهو أستاذ بجامعة قسنطينة آنذاك -»مغني بشير»- وطلب منه أن يحضر له آخر أخبار أفكاره داخل صفوف الشعب وخاصةً الطبقة المُثقفة…»، وتُضيف الزوجة قائلةً: «… وأن أفكاره لم تُعرف قيمتها إلَّا بعد ثلاثين سنة من وفاته».
مات «مالك بن نبي»، لكن أفكاره ما زالت حية، تهيب بالأُمَّة الإسلامية أن تتلقفها لتنهض بها من كبوتها المُزمنة، وتدخلها من جديد في مضمار الحضارة الذي انحرفت عنه لمدة قُرون وقُرون، فتسبب في دخولها في ظُلمات دامسة من الجهل والفقر والأمراض والآفات الاجتماعية الضارة التي لا حصر لها، والتي أدت بدورها إلى تدهور أحوال الأُمَّة في جميع الميادين والمجالات.
وهكذا قضى «مالك بن نبي» بطل الفكر الشجاع طوال حياته مُجاهدًا في سبيل إعلاء كلمة الله عز وجل، وفي سبيل حرية الرأي والفكرة، فقد عاشَ حياةً حافلةً بالنضال الفكري النزيه، حيث ناضل بفكره الثرِيّ والرائد، ليحقق المجتمع الذي أرادته الشريعة الإسلامية، وليجعل الإنسان على الصورة التي أرادها لها اللهُ سبحانه وتعالى حين قال لنبيه الكريم: وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (سورة القلم، الآية: 04).

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com