ملف
لماذا مالك بن نبي الآن … ومستقبلا؟
أ.مقلاني صحراوي/
سؤال المنهج أم سؤال السردية النهضوية
لماذا مالك بن نبي؟ لقد طرح هذا السؤال في بداية تسعينيات القرن الماضي وكانت الإجابة مختلفة حسب المشرب الفكري لكل من طرح السؤال، فكان السؤال من طرف الدكتور وجيه كوثراني في الندوة الثالثة لمستجدات الفكر الإسلامي التي نظمتها الأمانة العامة للأوقاف الكويتية بعنوان: «مناهج التغيير في العالم الإسلامي»، وسؤاله كالآتي: «لماذا العودة إلى مالك بن نبي عندما يطرح منهج التغيير»، وبحث الرجل على الإجابة وهي أن ما نحتاجه اليوم هي «ثورة فكرية» والبعد الرئيس والحقيقي الغالب منها هو «المنهج»، لقد وضع هذا الرجل يده على مكمن الداء ولقد عبر مالك عن ذلك مرارا في كتبه سواء فيما يتعلق بالتفكير أو خطة التغيير .
أما بالنسبة لمنهج التفكير أو المشكلة الفكرية فباستقراء مجمل آراء مالك بن نبي في هذا المجال نجد أنها تأخذ أبعادا متعددة منها:
1/ ضعف الجهاز المفاهيمي أو النموذج المعرفي للحركة النهضوية التي أخذت على عاتقها مهمة التجديد في العالم الإسلامي، فنجد نخبنا تفكر من خلال نماذج جاهزة استوردتها من الغرب أو من التراث، ومصطلحات قديمة وضعت للتعبير عن ظاهرة قديمة قتلها البحث في مجال علم العقيدة أو في مجال الفقهيات وأكثر القضايا التي طرحتها النخب المفكرة حينها متجاوزين المسلك الروائي لم تصل إلى درجة إلغاء الوحي نهائيا كمصدر للمعرفة والحضارة، وعندما نعمم هذا الحكم نجد أننا «نمطيون» حتى النخاع، لا نحسن إلا التصنيف والتحزيب للأفكار والأشخاص انطلاقا من واقع التجزئة حتى رؤانا للتاريخ وللغرب ولكل شيء أصبحت تحكمها النمطية والتصنيف لسهولته ولأنه يريح العقل من عناء البحث عن الصواب والحقيقة والتفكير النقدي، لقد أعطانا مالك بن نبي مثالا رائعا في بناء مفهوم الثقافة تحليلا وتركيبا، وجعل منها مشروعا تربويا، يتجاوز هذه التجزيئية والذرية L’ATOMISME في تناول قضايا الحضارة والنهضة التي تأخذ من الوقت والجهود العقلية والبدنية أوقاتا وربما جعلت أجيالا بكاملها ضحايا كما فعلت الأفكار الأيديولوجية سابقا والطائفية الآن لكثير من بلاد المسلمين.
2/ عجز القدرات الفهمية وهذه تأخذ مظاهر كثيرة منها الانطباعية والارتجالية في الكلام والكتابة ففي الغرب تتولى مراكز الدراسات في مختلف الحقول المعرفية والتنموية إعداد الخطابات التي تلقى في المؤتمرات والتجمعات العامة للمسؤولين وتعكس هذه الكلمات السياسة المتبعة والرؤية المطبقة من طرف الجهة المسؤولة، والآفاق المرجوة بينما في بلادنا يختار لذلك الشأن أمين سر يكون بارعا في المحسنات البديعية والقدرة على اللعب بالعبارات والألفاظ في أشكال بديعة لغرامنا بالكلمات كالغرام بالمجوهرات والديكورات والموضات، ومن تلك المظاهر أيضا كما عددها مالك بن نبي في وجهة العالم الإسلامي:
3- غياب المنظورات الكلية في تشخيص مشكلتنا سواء المنظورت الكونية المتعلقة بالوجود أو المنظورات المعرفية التي تؤطر العلوم والمعارف أو المنظورات الحضارية التي تراعي التحولات الكبرى ضمن سياقات تاريخية وجيوسياسية شاملة لتحديد الأولويات وغياب المنظورات الرؤيوية visionary paradigms التي تحكم الحركة التنموية بالنظر إلى أولويات الصراع الحضاري المتفاقم لتمييز المحلي من العالمي من العولمي فغير معقول تماما أن تتنافس الدول في إنتاج أسلحة الردع ونحن نتهافت على إنتاج الأدوات الترفيهية الترفية المؤذنة بالخراب وقد قرر مالك بن نبي أن التكديس لا ينتج حضارة وإنما لا بد من مقاربة ابتكارية علمية.
4 – جمود المناهج التعليمية وكأنها تتحدى الزمن عندما تصبح المنوال العقلي لما مضى رغم أن الواقع قد تطور وأفرز تغيرات نوعية عديدة فما زال يدرس المنطق عندنا كما كان في عهد الغزالي رغم أنه ارتبط بالرياضيات ومر بأزمات مثل ما مرت هي بأزمات وقطع شأوا كبيرا وأصبحت له تطبيقات واسعة ومتعددة فهناك منطق البرمجة ومنطق اللغة والمنطق السائل والمنطق الاستدلالي، وكما يثار على المتفلسفة كما ثار عليهم الغزالي وابن تيمية رغم أن فروعها اليوم يمكن أن تلتقي في كثير منها مع الطرح التيمي، فمثلا فلسفة اللغة عند شوميسكي اليهودي اليساري لا يؤمن فيها بالمجاز العقلي وهو نفس رأي ابن تيمية، فالإصرار على رد ما عند الغير جملة ليس موقفا علميا، كما يصر المتغربون على عدم بذل أدنى جهد للنظر فيما إذا كان هناك شيء من المعارف المتعلقة بتخصصاتهم في التراث الإسلامي لأن عملية التحديث التي تمت في كثير من بلادنا هي تحديث قسري بمنظور عسكري الغرض منه رسم خطة سريعة ومد قنوات السلب والنهب فكل خطوط السكة الحديدية التي شقتها فرنسا في بلادنا فهي مثل أنابيب البترول والغاز، وهكذا نعكس اغترابنا الثقافي والمعرفي على الأجيال بحيث أصبحت أوطاننا عبارة عن محطة انتظار الكل مستعد للمغادرة بعد أن يستكمل تكوينه بمصاريف وتكاليف الدولة ومن تعريفات مالك بن نبي للحضارة هي توفير الشروط والإمكانيات اللازمة للفرد حتى يقوم بدوره تجاه أمته .
5- يضاف إلى ما سبق عدم القدرة على استخدام المناهج التي هي إسلامية بالأصل لأن الإسلام هو الذي أخرج الإنسان عن داعية هواه بالوحي يقول ابن نبي في هذا الصدد التراث الخطير الذي خلفته الحضارة الإسلامية للحضارة الحديثة يظل شاهدا على ما كان يتصف به الفكر الإسلامي في عصوره الذهبية فقد كان يهتم بـ «القانون» – أي الناظم الكلي أو المنهج- … وهكذا نجد التشريع الإسلامي عمل للمرة الأولى في تاريخ التشريع طابع نظام فلسفي يقوم على مبادئ أساسية بينما لا يعدو أن يكون القانون الروماني مجموعة ملفقات قانونية عفوية ليس بينها رابط» (وجهة العالم الإسلامي / ص 16-17)، وهكذا في العلوم الطبيعية والإنسانية عموما، ولكن لماذا أصبحنا نحتكم إلى القوانين الغربية وأصبحنا ندرس العلوم الإنسانية الغربية في جامعاتنا بحذافيرها، وحتى مجرد التفكير في نقد بعض تحيزاتها وبيان بعض قيمها تتهم بأنك تريد أن تدخل الدين في العلم تريدون رياضيات إسلامية وفيزياء إسلامية وغيرها من التهم الجاهزة وهي في الحقيقة منظورات استلحاقية تنتج الإنسان الوظيفي إن كان كفأ فهو في تكريس الهيمنة الغربية كما استخدم الإنجليز 75 ألف مصري لاحتلال فلسطين واستخدمت فرنسا الأفارقة السود لإبادة الجزائريين أثناء الثورة واستخدمت الجزائريين لاحتلال الفيتنام والهند الصينية وتستخدم الباحثين الجزائريين لإنتاج الأدوية في مخابرها كما تنتج بالمقابل إنسان القلة «القليل» boujadisme ليكون هو كادر وإطار البلد بشكل نمطي مجلبة للسخرية وإذا لم تحسن الفرنسية فلن تصلح لأي منصب مهما علا أو نزل وهكذا دواليك .
6- هذا الوضع المعرفي-الاجتماعي أدى بنا إلى حالة «عدم التوافق النفسي» في المجال الإجتماعي والسلوكي عموما فكما نكدس الأفكار نكدس الأشياء ظنا منا أننا نبني حضارة التي هي إبداع في الأساس، وكل يوم يمر إلا ونجد أنفسنا في وضع مزر أكثر فأكثر، وبهذا نساهم في نشوء الاغتراب بكل أنواعه في مجتمعاتنا وكل أنواع الشذوذ الديني منه والعرقي واللغوي والعلماني وتطرف الخنوع والخضوع وفقدان الكرامة، فتخبو روح الإبداع والمبادرة والنقد والتقويم البناء وحب التضحية ومن هنا نبحث عن الأمان في كيانات طائفية قد تكون مذهبية وقد تكون عرقية وسواها.
لقد نبه مالك بن نبي في كثير من كتاباته إلى أن المشكلات الحضارية يجب الرجوع بها إلى أساسها الفكري أولا ثم إلى محيطها الثقافي ثانيا فتحل كمشكلة فكرية مرتبطة بفكر الإنسان وكمشكلة نفسية مرتبطة بسلوكه ووجدانه. فالأولى من خلال تغيير نظام التفكير Mind-set، والثانية من خلال إعطاء النموذج العملي أو القدوة للفرد المراد تغييره، ونضم في الأخير صوتنا إلى صوته بأن «طريق الحضارة الإسلامية شاق وطويل».
7- وأخيرا إلى الآن لا يزال سؤال المنهج مطروحا ولم نستطع أن نجيب عليه أي أننا لا زلنا في حاجة إلى مالك بن نبي كي نؤسس عليه كنقطة انطلاق متميزة من أرضية مختلفة تعالج مشكلة العالم الإسلامي.