الافتتاحية

القراءة مفتاح الحضارة

أ.د. عبد المجيد بيرم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/

في جبل النور لجأ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى غار حراء، نائيا بنفسه عن صخب مجالس قريش، متوجها لله بالعبادة، مفكرا فيما حوله من ملكوته، فجاءه الروح الأمين بأوّل آيات القرآن مقررا أن القراءة مفتاح النجاة في الدنيا والآخرة، «اِقرأ باسم ربّك الذي خلق، خلق الإنسان من علق اقرأ وربّك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم» العلق1-5

أمّة اقرأ
لقد جاء الأمر في القرآن بالقراءة بالإطلاق دون أي قيد، ومن القواعد المقررة في فهم النّصوص أنّ حذف المعمول مؤذن بالعموم، فالدّعوة إلى القراءة في الآية الكريمة جاءت مع حذف المتعلق أي بيان المقروء، وهي توجيه للمسلمين لاقتحام كل المعارف والعلوم وتوظيفها لخدمة الإنسانية، فالخلق عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله. وهذا ما قام به المسلمون الأوائل في بناء نهضتهم، حيث توجهوا إلى الكتاب المسطور (القرآن) يستلهمون منه مبادئهم، وإلى الكتاب المنظور (الكون) يدرسون آيات الله في الأنفس وفي الآفاق، فأنتجوا المعرفة، واستفادوا من علوم غيرهم ،فأبقوا النافع الصالح وأعرضوا عما لا نفع فيه أو ما يتعارض مع قواطع الوحي، أو ما يكون مآله المفاسد والمضار .
إنّ مطالعة كتاب الفهرست لابن النديم على سبيل المثال حيث قام بفهرسة كتب جميع الأمم من العرب والعجم وبيان أصناف العلوم وأخبار مصنفيها…منذ ابتداء كل علم اُخترع إلى عصره أي القرن الرابع الهجري، أو ما جاء في كتاب مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده الذي استوفى في إحصاء العلوم وتعدادها وترتيبها وأشهر المصنفات فيها … يبيّن ما كان عليه أسلافنا من شغف بالقراءة والبحث والتصنيف، مما يعدّ من مفاخر حضارتنا التي خلّدها التاريخ.
إنّ القراءة والمطالعة هي جزء أصيل من ثقافة المسلم الحياتية، فالمسلم مطالب بأن يكون له ورد من القرآن الكريم يتلوه يوميا، كما يتعين عليه تحصيل قدر من معرفة سنّة وهدي نبيّه صلى الله عليه وسلم ليكون اتباعه له، والاقتداء به في حياته على المنهج السليم، وهذا يجعل علاقة المسلم بالكتاب ممتدّة ومستمرة.

معرض الكتاب
تخصص كثير من دول العالم أياما في السنة لتظاهرات علمية يكون محورها الكتاب، وتنشئ معارض للكتاب تشارك فيه دور نشر عالمية من مختلف البلدان تتنافس فيها لعرض أحسن وأحدث ثمار العقول في حقول علمية متنوعة، وتعمل على نشر ما جادت به قرائح العلماء من مختلف بقاع الأرض، وفي ذلك تقريبٌ للثقافات بين الشعوب والأمم وتناقل للمعارف والعلوم من جهة إلى أخرى، وهي فرصة للاطلاع على الجديد، وما وصل إليه الابداع والابتكار في العالم.
ولا شك أنّ مثل هذه التظاهرات تعدّ مؤشرا إيجابيا على مكانة العلم في المجتمع، فإقبال النّاس على الكتاب بكثافة دليل صحة وعلامة على إدراك عميق لقيمة الكتاب في حياة الإنسان، والأمّة التي لا تقرأ لا يتوقع منها أن تحقق إنجازا حضاريا ولا تأثيرا إيجابيا، لأنّها حجبت نفسها عن موارد العلوم المعاصرة وتخلت عن الموروث الغني الذي أنتجته العقول التي صنعت الحضارة، وتحولت إلى مستهلك لما يُصدَّر لها دون تمييز بين الغث والسمين، كما تُعَرّض كرامتها للامتهان وسيادتها للارتهان، لأنّها عالة على غيرها.

القراءة سلاح المستقبل
والجزائر كغيرها من الأمم تخصص في كل سنة مناسبات لتمكين الناشئة ومحبّي الكتاب وتهيّئ لهم الفرصة للقراءة والاطلاع على الجديد والمفيد، وفي ذلك ما يبعث الهمة، ويكسر الرتابة، ويفتح الآفاق، ويُشعر المرء بإنسانيته، فليس بالخبز وحده يحيى الإنسان.
ولما كان تحصيل العلوم والمعارف لا يأتي إلا بالقراءة، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإنّ الوعي بأنّ المحاضن التي تربّي نفوس الناشئة على حبّ القراءة والمطالعة هي البيت ثم المدرسة ثم المجتمع، وإذا كان من المناسب أخذ الأولاد إلى المعارض، وارتياد هذه الفضاءات، فإنّ المؤشر الحقيقي على منسوب الوعي في هذا المجتمع هو السلوك الاجتماعي في مثل هذه التظاهرات، فإنّ مما يؤسف له ما نلاحظه من إقبال أغلب روّاد المعرض على الفضاءات الترفيهية والمطاعم، أكثر من إقبالهم على اقتناء ما يلائم أعمارهم ومستوياتهم من كتب أو وسائل تعليمية تحبّب لهم الكتاب و تشجعهم على قراءته و تعوّدهم على اقتنائه بما يتناسب مع القدرة الشرائية للأفراد التي تعدّ هي الأخرى تحديا من التحديات التي تستدعي البحث عن حلول لها مع تنامي النزعة التجارية والتسويقية للكتاب.

الكتاب الورقي والثورة التكنولوجيا
تمثل التكنولوجيا العصرية تحدٍيا للكتاب الورقي الذي تبوأ المقام الأول بدون منازع لفترة طويلة، ومع ظهور الأجهزة الالكترونية اللوحية، والهواتف الذكية …أصبحت المعلومة المصحوبة بالصوت والصورة أكثر جذبا وأسهل تناولا وأقل تكلفة، مما جعل الناس تستسهل السهل وتُقْبِل عليه بنهم، وتعزُف عن الكتاب الورقي ،فالكتاب الإلكتروني لا يخلو من ميزات لا توجد في الورقي ، وأيّا ما كان فإنّ القراءة من الكتاب الورقي أو الكتاب الإلكتروني مفيدة للقارئ ، وإنّما الحذر من الاكتفاء بما ينشر ويكتب في وسائل التواصل الاجتماعي من نُتَف أو فوائد، والزُّهد في مصادر المعرفة الحقيقية وأمهات الكتب، والمنشورات الهادفة؛ فإنّ من شروط النهضة توجّه الانسان للمفيد وبذل الوسع في تحصيله.
وما أصدق ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله:
ومن رام العلا في غير كدّ  *** أضاع العمر في طلب المحال
يغوص البحر من طلب اللآلي  *** ويحظى بالسيادة والنّوال

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com