البروفيسور محفوظ عاشور في حوار مع جريدة البصائر القيم الإنسانية والرمزيات الحضارية لثورة “نوفمبر” المجيدة
حوارته : فاطمة طاهي/
أحيت الجزائر الذكرى السبعين لاندلاع الثورة التحريرية المجيدة، أيقونة ثورات القرن العشرين، التي أسالت حبر العديد من الكتاب والأدباء والباحثين والمفكرين في الجزائر وخارجها، لما تميزت به من عبقرية وقيم فبقدر قوة القمع الاستعماري الذي سعى إلى إنهاء الوجود التاريخي والثقافي والحضاري لوطن إسمه الجزائر بقدر التحدي الوطني الجزائري الذي قابل هذا القمع بإرادة شعبية مشحونة بقيم إسلامية وبثوابت وطنية حققت انتصارا شعبيا عظيما، وفي هذا الصدد جريدة البصائر الجزائرية تحاور البروفيسور محفوظ عاشور، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة “البليدة” حول القيم الانسانية والرمزيات الحضارية لثورة أول نوفمبر المجيدة.
في البداية بروفيسور لو تقدم لنا وللقراء نبذة عن شخصكم الكريم؟
– البروفيسور محفوظ عاشور أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر باحث في التاريخ الإنساني، ورئيس مشروع البحث والتكوين الجامعي حول “الوضع الإنساني في الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي 1830 1962” ورئيس فرقة بحث حول “الهجرة الجزائرية إبان الاحتلال الفرنسي 1830 1962” في مخبر البحوث التاريخية والحضارية-جامعة البليدة 2، مؤلف كتاب حول “الوضع الإنساني في الجزائر إبان الثورة التحريرية 1954 1962 من خلال أرشيف اللجنة الدولية للصليب الأحمر CICR”, ترجم كتاب الهلال الاحمر الجزائري من الفرنسية الى العربية لصاحبه الدكتور مصطفى مكاسي الامين العام الاول للهلال الاحمر الجزائري سنة 1957, شارك في كتاب جماعي حول “أصدقاء الثورة الجزائرية من الإيمان بالقضية إلى التجسيد”. له عدة مقالات حول الجانب الإنساني والطبي في الجزائر.
في سبعينية الثورة الجزائرية شهدت الجزائر أكبر استعراض عسكري احياء للذكرى السبعين لاندلاع الثورة التحريرية المجيدة، كمدخل في الموضوع أستاذي الكريم، حدثنا عن أهمية الاستثمار في الأيام الوطنية الكبرى للتذكير بالبطولات والانتصارات وكذا بالتضحيات الجسام التي قدمها شهداؤنا الأبرار في سبيل استرجاع السيادة الوطنية ودور ذلك في تعزيز الانتماء والحس الوطني لدى الشباب؟
– نعم مهم جدا أن نحيي الأيام التاريخية الكبرى والوطنية العظمى، فذلك استثمار رابح للأجيال اللاحقة والصاعدة، التي عليها أن تقرأ تاريخها لتتعرف على الفاتورة الباهضة من قوافل الشهداء وعلى التضحيات الجسام التي قدمها الشهداء الأبرار والمجاهدون الأبطال الذين كانوا جسورا للتضحية والفداء كي ننعم نحن بالحرية والاستقلال، الذين عانوا ويلات المستعمر الفرنسي منذ أن دخل أرض الجزائر سنة 1830م. على شبابنا أن يدركوا أن نعمة الاستقلال التي ننعم بها اليوم ليست هدية من طرف الدولة الفرنسية الاستعمارية التي سعت بجرائمها للاحتفاظ بالجزائر والبقاء فيها والاستمرار في استغلال ثرواتها وشعبها، احياؤنا للذكرى السبعين لاندلاع ثورة التحرير المباركة فرصة لإبراز بطولات هذا الشعب الذي وقف في وجه أكبر قوة استعمارية آنذاك، استعملت كل أساليب القمع والقتل والدمار من أجل القضاء على الثورة التحريرية، ليسقط أكثر من ست ملايين شهيدا منذ احتلالها أرض الجزائر، ومليون ونصف مليون شهيد إبان الثورة التحريرية التي دامت أكثر من سبع سنوات، وهذا دليل على أن الحرية والسيادة لهما ثمن، وثمنهما التضحيات والاستشهاد في سبيل الله.
إن المناسبات الكبرى تعزز الروح الوطنية لدى الشباب الجزائري حتى يدركوا قيمة الوطن، إن ما ننعم به اليوم من حرية واستقلال جاء بعد نضال أجيال عدة وبعد وتضحيات وبطولات قدمها الشعب الجزائري في المقاومات الشعبية وفي الكفاح المسلح، فإحياء المناسبات الوطنية الكبرى يساهم في الحفاظ على الذاكرة الوطنية الشعبية والجماعية ويعزز الشعور بالمسؤولية تجاه هذا الوطن، للمساهمة في بناءه ونهضته وفي مواجهة كل التحديات بكل أنواعها وصورها، وبالتالي لا حاضر ولا مستقبل دون ماض.
حظيت الثورة التحريرية المباركة باهتمام كبير من قبل الباحثين الذين كتبوا حولها مؤلفات ودراسات ونظموا حولها قصائد، فما سر الاهتمام الكبير بهذه المرحلة التاريخية؟
– الاهتمام الكبير بالثورة التحريرية الجزائرية أمر طبيعي، فهي الثورة التي سجلت نفسها وإسمها في تاريخ الحركات التحررية في العالم، وهي الثورة التي سجلت اسمها بأحرف من ذهب وبدماء الشهداء، فتضحيات الشعب الجزائري هي قدوة للشعوب الأخرى التي تتطلع إلى الحرية والاستقلال، وبالتالي المرحلة التاريخية للثورة التحريرية تعبر عن الإرادة والتحدي والوحدة والعمل والإصرار على افتكاك الحرية والاستقلال من قوة استعمارية كبرى مدعمة بالحلف الأطلسي، فاندلاع الثورة التحريرية لم يكن بوسائل كبيرة وبأسلحة متطورة أو بجنود متمرسين إنما كان بإرادة شعبية.
عرضت القضية الجزائرية على هيئة الأمم المتحدة في عدة دورات، وفي كل مرة كانت تلقى دعما سياسيا عربيا واسعا، حدثنا عن دور الدبلوماسية العربية في دعم الثورة التحريرية؟
– إن الثورة الجزائرية ثورة شعبية، هذا الشعب الذي لم يمتلك أسلحة ولا أموالا للحصول عليها، لكن امتلك إرادة مكنته من تحقيق الحرية والاستقلال وإيصال صدى وصوت الثورة التحريرية إلى المنابر والمحافل الدولية كهيئة الأمم المتحدة التي سجلت القضية الجزائرية بداية من سنة 1955 إلى غاية 1962، وفي كل دورة من الدورات التي كانت تعقدها يرفع صوت الجزائر ويرتفع الدعم السياسي من طرف شعوب العالم خاصة الشعوب العربية التي كان لها دور في دعم الدبلوماسية الجزائرية كالمملكة العربية السعودية، العراق، سوريا، ومصر، لكن دعم الثورة التحريرية لم يكن فقط من طرف الشعوب والأنظمة العربية وإنما كان أيضا من كل أحرار العالم الذين وقفوا وصوتوا لصالح القضية الجزائرية في دورات الأمم المتحدة، فدبلوماسية الثورة لعبت دورا كبيرا في تدويل القضية الجزائرية من خلال الوفد الخارجي الذي نظم وهيكل العمل الدبلوماسي في كل عواصم العالم بما فيها مقر الأمم المتحدة، وقد كان لامحمد يزيد دور كبير في إيصال صوت الجزائر حيث وصف برجل الأروقة وكان ينتظر الوفود التي كانت تدخل إلى قاعة الاجتماعات ليحثها على ذكر الجزائر والدفاع عنها ودعمها، كما شارك وفد جبهة التحرير الوطني متمثلا في حسين آيت احمد ومحمد يزيد في مؤتمر باندونغ شهر أفريل 1955، وتمكنا من ربط الاتصالات مع حركات تحررية أخرى في إفريقيا وآسيا، فالثورة التحريرية هي التي أثرت في حركات التحرر الأخرى وجعلتها أكثر قوة للحصول على الحرية والاستقلال، لأن كفاح الشعب الجزائري لا مثيل له في العالم، وإرادته لا تقهر، والتضحيات هي التي تصنع الطريق وتحقق الانتصار.
الإعلام والأفلام الوثائقية لهما دور كبير في الحفاظ على الذاكرة الوطنية وفي تعزيز قيم المواطنة، حدثنا بروفيسور عن أهمية تقديم التاريخ الجزائري سينمائيا؟
– إن المآسي والجرائم التي ارتكبها المستعمر الفرنسي في حق الشعب الجزائري قد وثقت في أفلام، فبعد مؤتمر الصومام قررت جبهة التحرير الوطني أن تنشأ فرقة سينمائية لجبهة التحرير الوطني تدون كل تلك المعارك والاشتباكات تحت عنوان: “سينما الثورة الجزائرية”، وذلك بالتعاون مع أصدقاء الثورة التحريرية مثل روني فوتييه ومع الجزائري عبد القادر شندرلي وهو من المخرجين الأوائل الذي تكون على يديه العديد من المخرجين الجزائريين أمثال: عمار العسكري، أحمد راشدي، لخضر حمينة، وقد تم توثيق ونقل معاناة اللاجئين الجزائريين في تونس والاشتباكات التي قام بها جيش التحرير الوطني في الجزائر، كفيلم “ياسمينة” الذي يعبر عن معاناة الأطفال في الجزائر وقد عرض في الأمم المتحدة، فالإعلام والأفلام الوثائقية لهما دور كبير في حفظ الذاكرة الوطنية وفي ربط الأجيال بماضيها، فالصورة تساوي أكثر من عشرة آلاف كلمة، تؤثر بشكل كبير على المشاهد وتعيده إلى التاريخ لفهمه واستيعابه أكثر.
ونحن نعيش ثورة إلكترونية رهيبة، كيف يمكن نقل التاريخ إلى شباب مواقع التواصل الاجتماعي من أجل مواكبة التطور وإيصال التاريخ للأجيال بالطريقة التي يفهمونها؟
– ما نعيشه اليوم من ثورة إلكترونية وتكنولوجية يجعل الجزائر مجبرة على إضافة وسائل جديدة لإيصال محطات تاريخ الجزائر إلى الأجيال الجديدة بالطريقة التي يفهمونها، يمكن إيصال مختلف المحطات التاريخية وبطولات أبطال الثورة التحريرية والمقاومات الشعبية المسلحة وكل رموز الجزائر إلى الناشئة من خلال رسومات وأشرطة قصيرة، علينا توظيف التاريخ في التكنولوجيا كما وظفته العديد من دول العالم، خصوصا ونحن في عصر الأجهزة الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي التي تساعد كثيرا على ترسيخ الهوية والدفاع عنها وتحصينها من كل الأفكار والأخطار التي تهدد قيم وثوابت أبناءنا.
كيف ترى مشروع بناء مواطن المستقبل بشخصية مشبعة بالقيم والثوابت الوطنية؟
– المسؤولية مسؤولية الجميع، مسؤولية الأسرة والمدرسة وكل المؤسسات الفاعلة في الميدان الاجتماعي والثقافي، على المعلمين والصحفيين والأئمة تحمل المسؤولية تجاه هذا الوطن وتذكير الأبناء والأجيال الجديدة بالمحطات الملحمية في تاريخنا العريق وببطولاتها وانتصاراتها، بزعماءها وقاداتها، بجنودها وثوارها، بأعلامها وعلماءها، وروادها وبكل من ساهم في تحرير هذه الأرض وسعى لنهضتها ورقيها، وذلك لصناعة مواطن صالح مخلص معتز بماضيه وبذاكرته وبتاريخ أجداده يساهم ويشارك في نهضة وبناء مستقبل أفضل لبلاده
شكرا جزيلا بروفيسور، في الأخير كلمة ختامية لقراء جريدة البصائر؟
– أقول لهم: إن التاريخ عبر ومنه نستلهم القوة والإصرار والثبات على المبادئ التي سطرتها ثورة أول نوفمبر 1954م، الذاكرة لها دور كبير في الحفاظ على السيادة الوطنية، وما يغذيها العودة إلى التاريخ وإلى المحطات الحضارية التي صنعها كفاح الشعب الجزائري، فمن لا ماضي له لا حاضر ولا مستقبل له، نستمد من تاريخنا القوة والعزيمة والإصرار والعمل على الحفاظ على وطننا الجزائر.