الافتتاحية

ثورة نوفمبر والمواجهة الحضارية

أ.د. عبد المجيد بيرم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/

تحل علينا الذكرى السبعون لانطلاق الثورة التحريرية المظفرة والملهمة، في ظرف عصيب وفي مرحلة تاريخية حرجة ووضع دولي مضطرب وعدوان سافر وهمجي على الشعب الفلسطيني الأعزل في غزة -الذي يعيش تحت الاحتلال منذ أزيد من سبعين عاما-بمباركة بل ومشاركة ودعم علني ومستتر من الدول الغربية التي ترفع شعار الحرية والعدالة وتصدِّر قيم الديمقراطية لغيرها وتعلم حقوق الإنسان للآخرين، مع عجز عربي وشلل من المنظمات الدّولية.

وذكرى ثورة نوفمبر المباركة تذكر بإنجاز هو محل فخر واعتزاز للأجيال إذ وضعت حدا لاحتلال استيطاني لبلادنا دام قرنا وربع قرن، وكانت فاتحة خير على شعوب العالم للتخلص نهائيا من ربقة الاستعمار، وستبقى ملهمة لإخواننا الفلسطينيين في مواجهة السرطان الصهيوني، وقد أثبتوا بعد مضي أزيد من سنة على طوفان الأقصى تشبثهم بأرضهم وديارهم وحقهم مهما كلّفهم من تضحيات، فإن العاقبة لأصحاب الحق.

الاحتلال بين القوة الباطشة والوسائل الناعمة
كثيرا ما يغيب عن أذهان من يتصدرون للحديث أو الكتابة عن ثورة نوفمبر المظفرة في زخم قصص البطولات والتضحيات التي سطرها جيش التحرير والشعب الحاضن لها، أنّ مفجريها كانوا على وعي تام بمشروع المجتمع الذي يستهدفونه وبالتحديات الحضارية التي ترافق الجهد التحرري الذي يباشرونه، فقد جاء في بيان الفاتح من نوفمبر أنّ الهدف من الثورة هو:
– إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية.
وأنّ من الأهداف الداخلية: تجميع وتنظيم جميع الطاقات السليمة لدى الشعب الجزائري لتصفية النظام الاستعماري؛ وتصفية النظام الاستعماري لا تتأتى إلاّ بالقضاء على ذيوله الذين يضمنون له الاستمرار من خلال هويته الثقافية والحضارية.
وقد أدركت القوى الحيّة للمجتمع الجزائري وعلى رأسها رجال الإصلاح خطورة الأساليب الناعمة التي يعتمدها الاحتلال للهيمنة على عقول الجزائريين، فاستخدموا كل وسيلة ممكنة من شأنها أن ترفع منسوب الوعي لدى الشعب الجزائري، لذلك فإنّ الحركة الإصلاحية برئاسة العلامة عبدالحميد بن باديس –رحمه الله-اضطلعت بالمهمة في المقاومة الثقافية، لإحياء مقومات الشخصية الجزائرية من لغة ودين و تاريخ وهُوية وانتماء حضاري، ومواجهة هذه الأساليب، وقد أبلوا بلاءً حسنا، فأسسوا المدارس الحرة والنوادي وشجعوا على إنشاء الجمعيات الكشفية والخيرية والرياضية والفنية … وأصدروا مجلات لتوعية الشعب الجزائري، وكان ذلك قبل انشاء جمعية العلماء، كالمنتقد والسنة والشريعة والصراط والشهاب وبعدها البصائر.
ومن أساليب التوعية التي تفطنوا إلى أهميتها في تلك المرحلة المسرح الذي كان وسيلة تثقيفية وإعلامية لإيصال الرسائل التوعوية وترسيخ القيم التي تتحقق بها هوية هذا المجتمع ، فقد نوّه الشيخ الابراهيمي في مقاله: ‘الخطابة والتمثيل’ بالمسرح باعتباره وسيلة للتهذيب والتربية الفاضلة، ولتحقيق هذا الغرض خُصصّ طابق من دار الحديث بتلمسان لعرض المسرحيات وفق الأصول، فعلماؤنا سخّروا كل وسيلة ممكنة للنهوض بالشعب الجزائري ، وبث الوعي فيه؛ لأنّ مواجهة المشروع الاستعماري من الضخامة والتنوع لا يمكن القضاء عليه إلّا بتعدد الوسائل واستغلال كل متاح.

تقوية المناعة الذاتية
وإذا كان شهداؤنا الأبرار ومجاهدونا الأخيار أنجزوا مهمتهم في المقاومة المسلحة في تحرير الأرض وطرد المستعمر من بلادنا، فإنّ المقاومة الثقافية لمخلفات الاستعمار لم تنتهِ، ولن تنتهي، لأنّها سنة الله في التدافع بين الخير والشر، وبين الحرية والاستعباد، وبين القوي والضعيف.
وإذا كان الاحتلال قد يئس من الرجوع إلى بلادنا بالقوة الباطشة فإنّه على يقين بأنّه لا يزال بإمكانه إعادة اختراق الكيان المجتمعي من داخله بأساليب أكثر نجاعة من تلك التي اعتمدها غداة احتلاله للجزائر، وذلك عبر إعادة تشكيل نفسية الأفراد وصياغة العقول من خلال استهداف المنظومة الفكرية والثقافية للمجتمع بأساليب ناعمة هادئة، لا تثير ضجيجا ولكنها أشد فتكا وضراوة من ضجيج السلاح.
والمدافعة في معركة تحرير الوعي وتقوية المناعة الحضارية لا تكون إلاّ بالاستثمار في رأس المال البشري من خلال اعتبار التكفل بطموحاته وانشغالاته وهمومه أولوية في المشروع النهضوي الوطني الذي ينبغي أن تتضافر عليه جميع الجهود والمؤسسات العامة والخاصة والأفراد لأنّها مصير أمّة، ودون ذلك نكون كمن يرقُم على الماء.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com