فضل ليلة القدر … وصدقة الفطر/ يوسف جمعة سلامة
يقو ل الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}(1).
لقد شرَّف الله سبحانه وتعالى ليلة القدر بنزول القرآن الكريم فيها، وجعل لها سورة كاملة سُمِّيت باسمها، كما جعلها خيراً من ألف شهر، حيث ظهر ذلك جليًّا من خلال السورة السابقة.
نعم لقد نزل القرآن الكريم في ليلة مباركة كريمة هي ليلة القدر، التي تتيه على الزمان كلِّه بهذين الوصفين، اللذين لم تحظَ بهما ليلة غيرها من ليالي العام كلِّه، وهما ليلة القدر كما في سورة القدر، والليلة المباركة كما في قوله تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}(2 ).
وقد شرَّف الله القرآن الكريم بأن جعل له ثلاثة تنزُّلات:
1– التنزل الأول للقرآن الكريم:
كان إلى اللوح المحفوظ، ودليله قول الله سبحانه وتعالى:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ}(3).
2- التنزل الثاني للقرآن الكريم:
كان إلى بيت العزة في السماء الدنيا، والدليل عليه قوله سبحانه وتعالى في سورة الدخان:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}، وفي سورة القدر:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، وفي سورة البقرة:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}(4).
3– التنزل الثالث للقرآن الكريم:
هو المرحلة الأخيرة التي منها شَعَّ النور على العالم، وكان هذا النزول بواسطة أمين الوحي جبريل-عليه الصلاة والسلام- يهبط على قلب الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم -، ودليله قول الله سبحانه وتعالى في سورة الشعراء مخاطباً سيّدنا محمداً– صلى الله عليه وسلم -:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}(5).
وقد استغرق نزول القرآن الكريم ثلاثاً وعشرين سنة، حيث كان ينزل مُنَجَّماً حسب الأحداث بخلاف الكتب السماوية السابقة التي نزلت دفعة واحدة.
فضل ليلة القدر
إننا نعيش في هذه الأيام في ظلال ليالٍ مباركة هي العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، حيث يجب علينا أن نغتنم فضل هذه الليالي المباركة، وأن نبادر إلى الجدِّ والاجتهاد في العبادة، فقد ورد عن السيدة عائشة – رضي الله عنها – قالت:( كَانَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ)(6) ومعنى شَدَّ مئزره: الجدّ والتشمير والاجتهاد في العبادة، وقالت أيضاً:(كَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ)(7)، حيث إن هذه الليالي تشتمل على أفضل ليلة وهي ليلة القدر التي قال عنها – صلى الله عليه وسلم– 🙁 تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ)(8).
كما تحدث رسولنا – صلى الله عليه وسلم – عن ليلة القدر وفضلها، فقال – عليه الصلاة والسلام -:( مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)(9)، فإذا علمتَ – أخي القارئ- هذا الفضل العظيم لتلك الليلة فاحرص على إحيائها، وهذا لا يمنع ثواب من قام بإحياء غيرها من الليالي، وإنما لهذه الليلة ميزة في نوال الثواب الفريد لمن قامها وصادفها أو صادفته، وقد رُويَ أن رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر وهي تساوي ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر، وهنا تقاصر الصحابة أعمارهم وأعمالهم، فأعمار أمة محمد –عليه الصلاة والسلام- ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يتجاوز ذلك، وهنا بيَّن لهم الخالق – سبحانه وتعالى- بأن العبرة ليست بكثرة الأعمال ولا بطول الآجال، ليست بالكم ولكنها بالكيف، فليلةٌ واحدةٌ في عمر المؤمن من أمة محمد تساوي ألف شهر بل خيرٌ من ألف شهر.
وإذا هَيَّأ الله سبحانه وتعالى للمسلم ليلة القدر فعليه أن يَتَّبعَ ما أرشدنا إليه رسولنا – صلى الله عليه وسلم – ، كما رُوِي عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إنْ عَلِمْتُ أيّ لَيلةٍ لَيلةُ القَدرِ ما أقولُ فيها؟ قالَ- صلى الله عليه وسلم-: قولي:” اللَّهمَّ إنَّكَ عفوٌّ كَريمٌ تُحبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي” (10).
صدقة الفطر
صدقة الفطر واجبة على كل مسلم حرٍّ قادر على إخراجها سواء أكان صغيراً أم كبيراً، ذكراً أم أنثى، حراً أم عبداً، فقد جاء في الحديث أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:( صَاعٌ مِنْ بُرٍّ أَوْ قَمْحٍ عَلَى كُلِّ اثْنَيْنِ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ، أَمَّا غَنِيُّكُمْ فَيُزَكِّيهِ اللَّهُ، وَأَمَّا فَقِيرُكُمْ فَيَرُدُّ الله تَعَالَى عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى)(11)، وقد فُرِضت في السنة الثانية من الهجرة في رمضان قبل العيد بيومين، وقد فُرضت زكاة الفطر طهرة للصائم كما روى ابن عباس -رضي الله عنهما- قال:” فَرضَ رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ“(12)، وَيُخرجها المسلم عن نفسه وعمَّن تلزمه نفقته كزوجته وأبنائه ومن يتولى أمورهم والإنفاق عليهم كالوالدين الكبيرين أو الأخوة القُصَّر..الخ، ويجوز إخراجها من أول شهر رمضان، وَيُسْتَحَبُّ تأخيرها إلى أواخر شهر رمضان، والأفضل إخراجها قبل صلاة العيد، ليتمكن الفقير من شراء ما يحتاجه في العيد لإدخال السرور على عائلته، لقوله – صلى الله عليه وسلم -:” أَغْنُوهُمْ عَنْ الطَوَافِ في هَذَا الْيَوْمِ“(13).
ومقدارها هو صاعٌ من غالب قوت أهل البلد وَيُقَدّر الصاع بـ (2176) جراماً، وقد جَوَّز الأحناف إخراج قيمتها نقداً؛ لأنها أكثر نفعاً للفقراء في قضاء حوائجهم.
الإنفاق … وفعل الخيــرات
ونحن نعيش الأيام الأخيرة من هذا الشهر المبارك يجب أن نعلم بأننا لن ننال رضوان الله سبحانه وتعالى إلا بمحبتنا للمسلمين وبرهم ومساعدتهم وتقديم يد العون والمساعدة لهم، فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(14)، وجاء في تفسير الآية السابقة:[{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ}أي افعلوا ما يقربكم من الله من أنواع الخيرات والمبرات كصلة الأرحام، ومواساة الأيتام، والصلاة بالليل والناس نيام،{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لتفوزوا وتظفروا بنعيم الآخرة](15) ، وكذلك قوله – صلى الله عليه وسلم -:( الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ؛ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا؛ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(16) .
لذلك يجب علينا أن نغتنم هذه الأيام المباركة من هذا الشهر المبارك لنتعاون سوياً على رسم البسمة على الشفاه المحرومة، وإدخال السرور على القلوب الحزينة، ومسح الدمعة من عيون اليتامى والثكالى، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا.
وداع شهر رمضـان المبارك
من المعلوم أننا سنودع بعد أيام هذا الضيف الكريم شهر الخيرات والبركات، فيه تتضاعف الحسنات، وفيه تكتظ المساجد بالراكعين الساجدين من أهل القرآن، وفيه يظهر التكافل الاجتماعي في أبهى صوره.
لك الحمد ربنا، ذِكْراً وشكراً، بما أنزلت، وبما تفضلت به علينا من أجر الصائمين القائمين والعاكفين والركّع السجود، سلاماً منك ورحمة في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
اللهم اكتبنا من عتقاء شهر رمضان، واكتبنا في قوائم الأبرار، واكتب لنا سعَة الحال من الرزق الحلال، ربنا وارفع الإِصْرَ عن أمة حبيبك محمد – صلى الله عليه وسلم -، واسلك بهم صراطك المستقيم ليكونوا من الذين أنعمت عليهم، آمين … آمين … يا رب العالمين.
اللهم تقبّل منّا الصلاة والصيام والقيام
وصلى الله على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم – وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش:
1- سورة القدر الآيات (1-5 ).
2- سورة الدخان الآية (3).
3- سورة البروج الآية (21-22).
4- سورة البقرة الآية (185).
5- سورة الشعراء الآية (193-195).
6- أخرجه البخاري.
7- أخرجه مسلم.
8- أخرجه البخاري.
9- أخرجه البخاري.
10- أخرجه الترمذي.
11- أخرجه أبو داود.
12- أخرجه ابن ماجه.
13- أخرجه الدارقطني.
14- سورة الحج الآية (77).
15- صفوة التفاسير للصابوني 2/300.
16- أخرجه البخاري.