البروفيسور نوارة العشي في حـــوار للبصائر: الأخلاق ركيزة أساسية للإنسان الرفيع وللحضارة المزدهرة وللإنسانية الراقية
قيام العلوم التكنولوجية على أبعاد إيمانية ضرورة حتمية للارتقاء بالأمة إلى الخيرية
حاورتها : فاطمة طاهي/
يعتبر التكوين الإسلامي القوة الموحدة للأمة والمحققة للنجاحات والانتصارات، وسلاح الشباب لمواجهة تحديات الواقع وتقلبات الحياة، واليوم في زمن التكنولوجيا والعولمة الرامية إلى تغيير الثوابت وتثبيت المتغيرات، وأمام الغزو الثقافي والفكري الذي لا يقل خطرا وفتكا عن الغزو العسكري، تؤكد البروفيسور نوارة العشي، أستاذة الشريعة والقانون بكلية الحقوق، جامعة الجزائر 1، في حوار خصت به جريدة “البصائر” الجزائرية على أهمية ودور الإعداد الإيماني والأخلاقي والقرآني لصناعة أجيال البناء والإصلاح والتغيير .
في البداية بروفيسور لو تقدمي لقراء البصائر نبذة عن شخصك الكريم؟
– البروفيسور نوارة العشي ، متحصلة على دكتوراه في الشريعة والقانون من كلية العلوم الإسلامية جامعة الجزائر أستاذة في كلية الحقوق جامعة الجزائر1 وعضوة في مخبر قانون الأسرة، عضوة في لجان وضع البرامج والتكوين لمستوى الماستر والدكتوراه تخصص قانون الأسرة، أشرفت على العديد من أطاريح الدكتوراه ومذكرات الماستر.
شاركت في العديد من الملتقيات الدولية والوطنية ولها عدة مؤلفات علمية ومقالات في مجلات محكمة ، كما لها مشاركات في إطار النشاط المجتمعي والإعلامي.
التكوين الإسلامي والتربية الإيمانية هي القاعدة الأساسية والصلبة التي تضمن لنا تنشئة صحيحة وسليمة لأبنائنا، وهي الدافع الذي يحركهم لتحقيق النجاحات والانتصارات على عدوهم الداخلي «الشيطان» وعلى عدوهم الخارجي «الغزو الثقافي والفكري»، كيف ذلك بروفيسو؟
– بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، إن التكوين الإسلامي أو التربية الإيمانية فعلا تعتبر القاعدة الأساسية والصلبة التي تضمن للنشئ تكوينا سليما وصحيحا يجعله في حصن متين يحميهم من الفساد ومن كل المغريات، فيكون الفرد المتكون بهذه التربية الصحيحة إنسانا رساليا إيجابيا صالحا في نفسه ومصلحا لغيره محققا للنجاحات والانتصارات، يتصف بالربانية وبالسمات التي يرتضيها الله سبحانه وتعالى لعباده الذين خلقهم كي يكونوا خير خليفة له في الأرض، الأمر الذي يخوله الارتقاء لمقام الإنسانية الرفيع الذي أراده الله سبحانه وتعالى.
إن التكوين الإسلامي يجعل الناشئة في حصن متين وسد منيع أمام الغزو الثقافي والفكري، ويؤدي إلى إيجاد إنسان رفيع الصفات رباني الروح، فيحقق الله له الطمأنينة والعزة بهذا الدين القويم، لكونه تربى تربية صحيحة قائمة على الفطرة السليم والوجدان القوي المرتبط بالله عزوجل.
تعتبر مرحلة تكوين الناشئة مرحلة مهمة جدا إذ هي المرحلة التي تتكون فيها القيم وتترسخ فيها المعاني والمبادئ، فإذا تكوّن النشء على المبادئ السامية والمعاني الربانية سنحصل على جيل منتصر على وساوس وضعف نفسه وعلى سلبيات غيره، وبالتالي يكون جيلا محققا للنجاحات في هذه الدنيا، فتتكون الحضارة الإسلامية كما تكونت في بدايات الدعوة مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع جيل الصحابة والتابعين ومن بعدهم الذين ملؤوا الأرض عدلا وإيمانا، وكونوا حضارة لا يزال التاريخ يذكرها إلى يوم الناس هذا.
ولسنا بعيدين عن هذه المعاني إذا تم التكوين السليم بالقيم الصحيحة فإننا سنخرج جيلا يكوِّن حضارة راقية، ولعل بوادرها ابتدأت لتنتج لنا ثمارا وأشجارا باسقة في هذا المجال حتى تعود لهذه الأمة المكانة التي يريدها الله عزوجل باعتبارها خير أمة أخرجت للناس، وتكون شاهدة بأنها أوصلت الإنسانية إلى المعاني الربانية الكبرى التي ترتقي بالمخلوقات إلى المستوى الرفيع الذي يتحقق به رقي الإنسان على هذه الأرض.
إن هذا التكوين يحمي الجيل والناشئة من التناقضات والإضطرابات، باعتبار أنه تكوين تتوازن فيه المتطلبات المعنوية مع المتطلبات المادية، الأمر الذي يجعل الفرد يعيش الطمأنينة والعزة بالنفس وبالإيمان، وكلها معان تجعل الإنسان في استقرار ينتج عنه القدرة على الإنتاج والعمل والقدرة على العطاء والتضحية.
وأهم مراحل التكوين مرحلة الطفولة والشباب التي تترسخ فيها المعاني وتثبت فيها القيم، وما يدل على أهمية مرحلة الشباب أن الإنسان سيسأل يوم القيامة عن عمره كله وعن مرحلة الشباب خاصة حسب ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي أخبرنا كذلك أن الشاب الذي نشأ في عبادة ربه يكون من السبعة الذين يظلهم الله سبحانه وتعالى يوم لا ظل إلا ظله، فالأنبياء والمرسلون كانت مراحل عملهم ودعوتهم في شبابهم فهي مرحلة الفتوة والقدرة على العمل والعطاء والتضحية وعلى التغيير والإصلاح.
كلنا على يقين أن المنهج الرباني إذا ما طبق بالشكل الصحيح فسوف نرى جيلا فريدا لأن منهجنا قائم أساسا على صياغة شخصية الإنسان صياغة متكاملة ومتوازنة ومتزنة، أليس كذلك دكتورة؟
– نعم، إن المنهج الرباني إذا ما طبق وجسد سنرى جيلا راقيا فريدا معتزا بقيمه، فالمنهج الرباني يقوم أساسا على تكوين الشخصية الانسانية المتكاملة والمتوازنة، ومن أهم صفات الشريعة الإسلامية الوسطية والتوازن، إن الله سبحانه وتعالى لبى للإنسان متطلباته في إطار الحدود الشرعية التي أرادها المولى عز وجل، ولكي يكون تكوين الأجيال سليما وصحيحا لابد من مراعاة هذه الحدود الربانية التي تحقق توازن الانسان، فالدين الإسلامي الرفيع في تكوينه للإنسان يوازن بين متطلبات الروح والعقل والجسد، والإنسان يتكون من هذه الأمور فهو أفكار بعقله ومشاعر بروحه وأعمال بجسده، والإسلام يريد من الإنسان أن يرتقي بعقله وروحه وجسده.
الروح التي تتصف برسوخ العقيدة وبتحقيق الطمأنينة من خلال ترسيخ معاني الإيمان بالله سبحانه التي تحميه من التناقض والاضطراب، كذلك التكوين العقلي بالمعارف العلمية، فالله سبحانه وتعالى أمر المؤمن بالقراءة وطلب العلم، حيث أول آية نزلت من القرآن الكريم بعد بسم الله الرحمن الرحيم: «اقرأ باسم ربك الذي خلق»، وهي دعوة إلهية كريمة إلى القراءة والكتابة والتعلم والتعليم، كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم: «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون»، وبين لنا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم مكانة وقيمة طالب العلم حيث تستغفر له الملائكة وتضع له أجنحتها وتدعو له الكائنات لتيسير أموره، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على المكانة الرفيعة والشأن العظيم للعلم الذي يعتبر طريقا إلى الارتقاء بالمعاني العقلية والفكرية للإنسان كي يستغل هذا الكون الذي سخر له ويبني الحضارة حسب ما أرادها رب العالمين.
كما دعا الإسلام الى الحفاظ على القوة البدنية وأداء حق الجسد علينا، وهذا ما وجه إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث بين أن تعلم بعض أنواع الرياضة أمر مرغب فيه. الصحيح قادر على السعي والعمل ومن ثم الارقاء في مراتب الإيمان ، فهذا الأخير ليس مجرد إحساس بالقلب إنما هو إضافة إلى هذا الإحساس يقين بالعقل وعمل بالجوارح، فلا يمكن أن يكون العلم كاملا إلا بالعمل «قل لن تعلموا حتى تعملوا» وهذا العمل يحتاج إلى الفرد القوي في بدنه والسليم في عقله.
العمل الذي يرتضيه الله عزوجل يكون مرفوقا بالنية الصالحة التي تتصف بالتجرد لله سبحانه، ومع هذه النية همة عالية وإرادة قوية إضافة إلى تحري الصواب والحكمة، فيختار الفرد المتكون إيمانيا من الأعمال أحسنها ويختار من الأقوال أصوبها ويختار في كل مواقفه المواقف الربانية النورانية التي تكون شاهدا له يوم القيامة، أنه أراد بعمله وجه الله سبحانه وتعالى وأنه أراد الخير لنفسه ولغيره وللأمة، فيرتقي في مراتب الدنيا والآخرة. وهذا الأمر مبتغى كل إنسان أن يصل إلى أعلى المراتب في الدنيا وأعلى المراتب في الآخرة.
البعد الإنساني والأخلاقي يجعل النفس الإنسانية بعيدة عن الفساد قائمة على الصلاح |
إن التاريخ الحضاري صريح وواضح عند الحديث عن الأوضاع الاجتماعية والقضايا الحضارية العامة فهو يبين لنا بالأمثلة والحقائق الصارحة أن الأسس الأخلاقية هي الأساس لبناء الفرد والمجتمع والحضارة، أليس كذلك بروفيسور؟
– فعلا، إن الأسس الأخلاقية هي القواعد الأساسية لبناء الفرد والمجتمع والحضارة، فالحضارة بغير أخلاق تؤول إلى الزوال، وأقصد هنا الأخلاق بمفهومها العام، الأخلاق الفردية والجماعية. ونبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم جاء متمما للخلق القويم لكل الانسانية «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، الأخلاق الكريمة التي تسمو بالإنسان إلى المستوى الرباني الرفيع، وأي حضارة ينقص فيها الجانب الخلقي المعنوي فإنها حضارة تؤول إلى الزوال، وكلما كان أفراد المجتمع في مستوى عال من الأخلاق كان بناء ذلك المجتمع بناء صلبا، فإذا اتصف الأفراد بالأمانة والصدق والإتقان في العمل وحسن الخلق… فإن المجتمع سيرتقي، لأن مكارم الأخلاق تبني المجتمعات وتجعل الحضارة قادرة على المواصلة والمواجهة والتحدي، في حين أن المجتمع الذي ينتشر فيه سوء الخلق من خيانة وكذب وظلم وفساد فهو مجتمع مقطوع ومهزوم مهما حقق من تطور في الإمكانيات المادية.
فالأسس الأخلاقية هي الأسس المهمة لتكوين الأفراد والمجتمعات ابتداء من الفرد في الأسرة وفي المدرسة والشارع والعمل إلى المدير في المؤسسة والحاكم في الدولة، فلما تكون هذه الأسس هي التي تبني العلاقات وهي التي تحكم بين الأفراد سنصل إلى مجتمع صلب ينتشر فيه العدل والأمان والطمأنينة. لذلك لابد من أخلقة كل مجالات الحياة أخلقة العمل، أخلقة العلاقات الأسرية، أخلقة العلاقات العملية، أخلقة جوانب الحياة كلها، وهذا ما دعا إليه ديننا الإسلامي ورسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم الذي ارتقى بصورة عالية في مصاف الإنسانية «وإنك لعلى خلق عظيم»، وأي مسلم لابد أن يحذو حذو النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي به في أخلاقه، وهذا ما فعل الصحابة الكرام رضي الله عنهم في المجتمع الراقي الأول، والإسلام ولاد للخير وقادر على تكوين مجتمع متخلق قادر على مواجهة التحديات بكل أمانة ليصل إلى المستوى الإنساني الراقي.
وهذا ما تفطن له عدد من مفكري الغرب الأمر الذي جعلهم يهتمون بالتربية الأخلاقية ويرتبون على مخالفة الخلق السليم عددا من العقوبات، ومع ذلك يمكن القول أن غياب الوازع الديني في تكوين هذه الأخلاق يجعلها ظاهرية ولا تغوص في العمق الداخلي للانسان، في حين أن التكوين الإسلامي للأخلاق تكوين عميق يجعل الإنسان متخلقا ولو كان بمفرده مختليا بنفسه، فالأخلاق ركيزة أساسية للإنسان الرفيع وللحضارة المزدهرة وللإنسانية الراقية.
اليوم مع شيوع القيم المادية وتراجع القيم الروحية والإنسانية، وأمام التضحية بالقيم عندما تتعارض مع المصالح المادية، هل يمكن أن نقول بأننا أمام أزمة قيم؟
– يمكن أن نقول أننا أمام أزمة قيم لما تكون المصالح والقيم المادية أعلى درجة من القيم الروحية، لأن القيم الروحية هي التي يجب أن تكون الغالبة والسائدة، وتكون الماديات تابعة لمعاني الروح وللقيم المعنوية، لذلك فإن التضحية بالقيم الروحية للحصول على المصالح المادية تعتبر انهزامية للإنسانية وتدنيا في المستوى الأخلاقي والمستوى الروحي، وبالتالي ينبغي أن يكون هناك ميزان ينظم المتطلبات المادية في إطار المعاني الروحية، فيكون الارتقاء والعلو للمعاني الروحية التي توجه مصالحنا المادية.
تعتبر المصالح المادية البعيدة عن القيم الروحية الأخلاقية من الأمور التي نهانا عنها شرعنا الحكيم، وعلى الإنسان أن يضحي بكثير من رغباته المادية غير المشروعة كي يرتقي في المعاني الروحية، فالصدق معتبر ومقدم رغم المنافع الظاهرية التي تتحقق بالكذب والأمانة مقدمة رغم المنافع التي يمكن أن تتحقق بالخيانة والصلاح مقدم رغم المنافع التي يمكن أن تتحقق بالفساد، فهذه المعاني مقدمة لكي يكون بناء الإنسان والمجتمع بناء سليما وصحيحا، أما الارتماء في الماديات والرغبات والشهوات وغيرها من الأمور التي تغري بالإنسان للوصول إلى درجات الحيوانية، فهذا فعلا مطب كبير ومزلق أقدام لابد أن يجاهد الإنسان نفسه لتجنبه، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى يوجه المؤمنين إلى أن يجاهدوا أنفسهم «والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا»، فالإنسان لابد أن يجاهد نفسه كي يبقى على الصدق والأمانة وعلى الخلق الحسن وغير ذلك من المعاني الراقية، لتتحقق له الهداية بعد هذه المجاهدة، وإذا تحققت الهداية فإن الله عزوجل يزيد المهتدي هدى «والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم» فيصل الإنسان إلى درجة التقوى، وهذا يكون بالتعلق بعظائم الأمور، فعندما يتعلق الإنسان بحب الله أكثر من حبه للمادة وبالجنة أكثر من تعلقه بالنتائج الدنيوية، فإن أعماله ستصلح وستوصل الإنسان إلى درجة التقوى.
إن المصالح المادية المحفوفة بالمعاني الخلقية مرغب فيها، لكن المصالح المادية البعيدة عن المعاني الخلقية منهي عنها شرعا وهي مزلق أقدام لابد من توخي الحذر منه، فالميزان الذي يجب أن تقاس به المصالح هو الميزان الرباني، حيث يسأل نفسه في كل عمل ماذا أحقق بهذا العمل؟ هل أرضي الله عزوجل أم لا، فلما يكون رضا الله سبحانه وتعالى والمصلحة الدينية والمجتمعية قبل كل شيء يكون بعد ذلك العمل الرباني الذي يبني ولا يهدم ويصلح ولا يفسد.
أزمة القيم تظهر كثيرا عندما يكون هناك الارتماء بين أحضان الحضارة الغربية دون غربلة وتصفية، فالحضارة الغربية فيها السلبيات والإيجابيات، وعلى الإنسان أن يستفيد من إيجابياتها ويغربل سلبياتها، والتأثر بالغزو الثقافي والتقليد الأعمى الذي نراه في حياة الناس اليوم قد نهى عنه رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فقد روى عنه أبو سعيد الخذري أنه قال: «لتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قَبْلَكُمْ شِبْرًا بشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بذِرَاعٍ، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ، قُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قالَ: فَمَنْ؟» فقد نهى صلى الله عليه وسلم الإنسان أن يكون تابعا دون بصيرة بل عليه أن يكون واعيا ومتدبرا في كل تصرفاته.
اليوم وأمام التقدم المتسارع والمتلاحق في عالم التكنولوجيا، هل يجب أن يصاحبه تربية روحية وقيمية تحافظ على توازن الحياة البشرية؟
– فعلا، في عالمنا المعاصر هناك تطور في الجانب التكنولوجي بكل جوانبه، هذا التطور إذا لم يكن محفوفا بمعان أخلاقية وقيم روحية فإنه لا يوصل الإنسانية إلى معاني السعادة الحقيقية، فمهما تطورت التكنولوجيا لابد أن تكون مقترنة بالمعاني الإنسانية السامية لذلك لابد من «أنسنة» العلوم، فالبعد الإنساني لابد أن يبرز في كل علم حتى في العلوم المادية البحتة.
والجدير بالقول أن العلوم لما تكون محفوفة بمعاني الأمانة والخيرية ستنفع الإنسانية أما إذا كانت بعيدة عن القيم الروحية فسوف تدمر الإنسانية، ذلك أن البناء السليم القائم على الأبعاد الربانية والروحية والقيمية يجعل النفس الإنسانية بعيدة عن الفساد قائمة على الصلاح عاملة بالخير وداعية إليه، والعقل الذي يريده الله سبحانه وتعالى هو العقل الواعي والمفكر في إطار الموازين الربانية، إن هذه الأمور لابد من تأكيدها في عملية التكوين من أولى درجات التربية والتعليم إلى أعلاها، لترتقي هذه الأمة إلى الخيرية ولتحافظ على توازن الحياة وليكون الوقوف على الصراط المستقيم الذي ارتضاه رب العالمين للبشرية.
الأسرة هي المؤسسة الأولى والمرتكز الأساسي من بين المؤسسات الاجتماعية المتعددة، وهي المسؤولة عن إعداد الطفل للدخول في الحياة الاجتماعية، كيف ذلك بروفيسور؟
– إن دور الأسرة أساسي في تكوين الفرد، هذا الطفل الذي سيكون رجل المستقبل ومكونا لهذا المجتمع ولهذه الأمة، وبالتالي لابد من الاهتمام بالتربية والتنشئة الأسرية، فالأسرة هي أساس المجتمع واللبنة الأساسية في تكوينه، ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ذكر أن كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه، فهما اللذان يحافظان على فطرته السليمة ويغرسان فيه القيم الصحيحة أو يغيران هذه الفطرة وينقلانه إلى دين آخر. فكل إنسان راع وهو مسؤول عن رعيته، والآباء لابد أن يهتموا بتربية أبنائهم والقيام على إصلاحهم وتوجيههم توجيها سليما بغرس القيم الربانية والعمل الصالح والخلق الحسن.
يجب على الأسرة أن تقوم بالعملية التربوية ولا تستقيل عن مهمتها الأساسية تحت ضغط الظروف الاجتماعية، وما يؤسف له أن عددا من الأسر لديها اهتمام كبير بالجوانب المادية من مأكل وملبس وإهمال في التوجيه الروحي التربوي والأخلاقي، حيث يترك ذلك للشارع أو لمواقع التواصل الاجتماعي، فما عاد للطفل بالضرورة أن يخرج إلى الشارع ليأخذ قيما جديدة ودخيلة وإنما هي التي تأتيه من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، فبات لزاما على الآباء والأمهات أن ينتبهوا لهذه المخاطر، إن قضية الالتزام بالأحكام الشرعية أمر مهم جدا فيجب أن يغرس في الطفل البعد الروحي والأخلاقي القائم على العبادة الصحيحة والخلق الحسن والعمل الصالح.
ومن المظاهر التي ينبغي أن ينتبه إليها الآباء في تكوينهم للأبناء أن يسعوا إلى إبعاد الأبناء عن بعض الصفات التي انتشرت في الأوساط المجتمعية كعدم السعي نحو التحصيل العلمي والانتاج العملي بسبب الصحبة السيئة واتباع الغير دون تثبت وترو، إضافة إلى تضييع الوقت مع الوسائل الحديثة، ينبغي أن تسعى الأسرة جاهدة إلى اتخاذ كل الوسائل الحكيمة لوقاية أبنائها من المحاذير التي تجعل الانسان تافها في اهتماماته متفلتا عن تكاليفه متصفا بروح الانهزامية والتقليد الأعمى، ولحماية النشء من المظاهر السلبية التي انتشرت في المجتمع، والتي يسوق لها من طرف بعض الأفراد الذين ابتعدوا عن المبدئية وعن الغايات الربانية.
حقيقة إن الأسرة هي اللبنة الأساسية في المجتمع وإذا اتصفت بالوعي وعملت على غرس الصفات الإيجابية في أبنائها كونت جيلا رساليا معتزا بدينه وأمته متزنا في حياته صالحا في نفسه ومصلحا لغيره، وملتزما بالقيم الصحيحة التي تحفظه أمام مختلف الانزلاقات، فيكون قادرا على التغيير الإيجابي وعلى قيادة الأمة إلى الرتب العالية وإلى مستوى الخيرية التي أرادها الله سبحانه وتعالى.
شكرا جزيلا لك بروفيسور نوارة العشي، في الأخير ماذا تقولين لجريدة «البصائر» ولقراءها؟
– قراء جريدة البصائر جعلهم الله جميعا على بصيرة من الأمر، فجريدة «البصائر» منبر الكلمة الطيبة وميراث السلف الصالح لسان حال جمعية العلماء المسلمين التي تسعى للوصول بهذا المجتمع إلى معاني الخيرية والرقي الرباني والحضاري، فلنكن جميعا خير خلف لخير سلف نبذل من أنفسنا ومن أوقاتنا وكل ما هو لنا لخدمة هذا الدين ولخدمة هذه الأمة، فتحية خالصة لقراء هذه الجريدة الرسالية في مضمونها والراقية في أهدافها.