تقرير الشاذلي مكي إلى المؤتمر الثالث لمنظمة اليونسكو (1948)
أ.د. مولود عويمر/
في ديسمبر 1948 عقدت المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) مؤتمرها الثالث في مدينة بيروت بلبنان. وهي المرة الأولى التي عقدت هذه المنظمة اجتماعها العام خارج مدينة باريس التي يوجد بها مقرها الرسمي. وقد اغتنمت جمعية تحرير المغرب العربي في لبنان هذه الفرصة الذهبية لتعرض على الوفود المشاركة الحالة المزرية للتربية والتعليم في بلدان الشمال-الإفريقي، وذلك بالتنسيق مع زعماء التحرر المغاربي الذين كانوا مقيمين بالقاهرة آنذاك أمثال الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي المغربي والشاذلي مكي الجزائري ومحي الدين القليبي التونسي…الخ.
جمعية تحرير المغرب العربي في لبنان
معلوماتي قليلة عن هذه الجمعية التي أسسها في لبنان بعض النشطاء السياسيين المغاربة الذين استقر بهم المقام في هذا البلد العربي الشقيق، وواصلوا نضالهم التحرري القومي من أراضيه، وأذكر منهم: عبد السلام بوعزة الجزائري (رئيس الجمعية)، وأحمد بديع المغربي (الأمين العام). ولا أدري هل كانت فرعا من لجنة المغرب العربي التي أسسها في عام 1947 قادة المغرب العربي في القاهرة برئاسة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، أم كانت جمعية محلية مستقلة؟ في كلا الحالتين، كانت هذه الجمعية الكائنة ببيروت على اتصال دائم مع تلك اللجنة الموجودة بمصر.
تلقت هذه الجمعية البيروتية من الأمير الخطابي تقارير وافية عن حالة التعليم في هذه البلدان المغاربية الثلاثة المستعمرة من طرف فرنسا بأقلام علال الفاسي (حزب الاستقلال المغربي) والشاذلي مكي (حزب الشعب الجزائري). وجاء تقرير من اللجنة التنفيذية للحزب الحر الدستوري عن التعليم في تونس بدون إمضاء صاحبه. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ أن هذه الجمعية نشرت هذه التقارير الثلاثة في كتيب مستقل، ووزعته على وفود الدول الشرقية والغربية المشاركة في هذا المؤتمر العالمي.
كلمة عن الشاذلي مكي
نتوقف قليلا هنا عند تقرير الشاذلي مكي (1913-1988) الذي كان آنذاك موفد حزب الشعب الجزائري في الشرق العربي. وقد وصل إلى القاهرة في عام 1945 بعد نضال سياسي طويل في الجزائر التي غادرها بعد ما صدر عليه الحكم بالإعدام غيابيا بتهمة تنظيمه لمظاهرات 8 ماي 1945. وسجل في تقريره ما وصل إليه التعليم في الجزائر بعد مرور أكثر من قرن على الاحتلال الفرنسي للبلاد، وقدم حقائق مرة عطلت النمو الحضاري والتطوّر العقلي بناء على سياسة عنصرية حرمت الجزائريين من حقوقهم في تعلم لغتهم العربية وتحصيل العلم بعد أن كانت البلاد قبل الاحتلال تعج بالمدارس والطلبة والمعلمين.
ونظرا لأهمية هذا التقرير الذي عثرت عليه مؤخرا في مكتبة قديمة، ونظرا لندرته فإنني أضعه بين أيادي القراء لعله يشجع بعضهم على مواصلة البحث في تاريخ جمعية تحرير المغرب العربي في لبنان، ويحثهم على الاستمرار في جمع آثار الشيخ الشاذلي مكي التي لم أصل إليها لحد اليوم، وكذلك لم يصل إليها المؤرخ الدكتور محمد الأمين بلغيت والباحث فوزي مصمودي اللذان اهتما أيضا بحياة وأعمال هذا المناضل الوطني الكبير.
محاولات لنزع العروبة
إن الشكل الأساسي لسياسة نزع العروبة التي تنتهجها فرنسا في الجزائر ظاهر في مكافحة اللغة العربية، لغة الجزائريين الوطنية. إنها لغة عشرة ملايين من الوطنيين تمثلت فيها ثقافتهم وتاريخهم ودينهم. ولكنهم مع الأسف الشديد يصطدمون بمعارضة فرنسا المنظمة. فقد اخضعت هذه الدولة الاستعمارية المدارس الاسلامية لقوانين صارمة بحيث لا يتخلص الطالب الصغير الذي يحفظ القرآن في كتابه من صرامتها وشدتها.
هذا وقد صدر قرار في 24 ديسمبر 1904 يمنع المسلم بموجبه من إدارة أية مدرسة إلا بإذن من حاكم المنطقة، ثم عقب لارشا أحد الباحثين قائلا: كما تستطيع السلطة نفسها أن تحرم أيا كان من هذا الإذن إلى أجل مسمى أو غير مسمی عند ظهور حوادث تسيء إلى السلوك المستقيم أو تدل على فساد خلقي. كما يمنع منعا باتا فتح أية مدرسة على امتداد ثلاثة كيلومترات حول مدرسة المعارف العامة.
يتضح مما سبق أن الحكومة بتدابيرها هذه تحارب اللغة العربية بكل ما وسعها من قوة. ولهذا ظهرت – جمعية العلماء- وحاول أفرادها العاملون أن يرتفعوا بالوسط الدراسي ارتفاعاً محسوساً فكانت محاولتهم محلا لإثارة الشبهات عند الهيئات الادارية. فظهر قرار بمنع تعليم اللغة العربية في الجزائر ثم بلغت الجرأة بهذا القرار إلى الادعاء بأن هذه اللغة لغة أجنبية طارئة.
وهنا ظهرت الاحتجاجات بشدة من مختلف الهيئات والوفود في كل طبقات الشعب. ولكنها لم تفد شيئاً لأن فرنسا بقيت مصرة على نهج هذه السياسة العدائية رغم الملمات التي أصابتها أثناء الحرب الأخيرة، ثم أمرت كل معلم مسلم أن يدرس اللغة الفرنسية إذا أراد أن يسمح له بمزاولة مهنة التدريس.
هذا ويصرِّح شاتنيو بعد ذلك قائلا: «أرجو أن لا نتهم بحمل أية ضغينة على اللغة العربية وسياسة تعليمها». فإذا لم تكن مطاردة الفرنسيين هذه اللغة واعتبارها أجنبية طارئة وإغلاق المدارس التي تقوم بتعليمها على امتداد ثلاثة كيلو مترات من كل مؤسسة رسمية، ضغينة مقيتة فأين يكون الاضطهاد، وكيف يكون؟
التعليم العربي العالي
والتعليم يوجد إلا في مدارس الجزائر وتلمسان وقسنطينة. وهي تعد 150 طالباً يهيئون أنفسهم لوظائف القضاء الاسلامي أو الوظائف الادارية. فالجزائر هي البلد الوحيد الذي لا يملك جامعة بينما نجد مثلها في كل بلد عربي آخر.
والغريب أن فرنسا قد انفردت بسياستها هذه دون بريطانيا التي لم يؤثر عنها في الهند أو أية منطقة من مناطق استعمارها مثل هذه الاجراءات. على أنني لا أعني بذلك أن بريطانيا المستعمرة خير من فرنسا. وقد جربت فرنسا أن تفرق أهل البلاد فتجعلهم شِيعاً بربري وعربي، ولكن روح التعاون التي ظهرت عند أولئك وأولئك هدمت آمالها وحطمت رجاءها.
وقد برهنت الحضارة الاسلامية بشهادة ريمون إيمار وغيره من رجال الفكر على أنها أقوى مظهر ثقافي عمل في تاريخ إفريقيا وليس غريباً ان نؤكد اليوم بأن الجزائريين على اختلافهم يتمتعون بإيمان وطيد لا يتزعزع بعدالة قضيتهم وهم مزمعون على الدفاع عنها حتى النهاية. ولما وجدت الدولة المعتدية أنها فاشلة في كل محاولاتها فصلت ما بين الجزائر والبلاد العربية ومنعت الكتب ومختلف وسائل الدعاية والنشر من الشيوع في البلاد. ولكن الجزائريين يزدادون حماسة في كل يوم. وعبروا عنه يوم شاهدوا على الشعار الفضي الملك فاروق والملك ابن سعود يستعدان لاستقبال روزفلت رئيس جمهورية أمريكا. وقد كان السماح بظهور هاتين الصورتين حدثاً غريبا جداً وتسامحاً غير معهود ولا منتظراً.
كما أن الجزائريين قد تابعوا بشوق سنة 1945 أخبار الثورة في سورية ولبنان وغمرهم من استقلال البلدين الشقيقين سرور عظيم. ولم ينسوا أن يتابعوا أيضاً مناقشة الوزراء الأربعة لمسألة ليبيا، وأن يلاحظوا أن فرنسا التي ضربتها إيطاليا في الظهر خيانة منها وجبناً ترجع اليوم فتطالب بضم ليبيا إليها. والجزائر تقاتل جاهدة من أجل استقلالها متعاونة مع تونس ومراكش الخاضعتين للاضطهاد نفسه.
إن حلم كل جزائري هو تكوين وحدة لإفريقيا الشمالية والجلوس مع زملائه العرب الشرقيين إلى منضدة واحدة يحس ما يحس به المغترب الذي كان مبعداً ثم اجتمع بعائلته وأصدقائه عند نهاية المطاف.
سياسة إشاعة الجهل
قبل الدخول في هذا الموضوع نجد من الخير أن نشير إلى السياسة التعليمية التي كانت قائمة قبل سنة 1830 م. يعلم الجميع أن الاسلام يدعو بحماس للتعليم والتثقيف وأن الرسول الأعظم يقول: «اطلبوا العلم ولو في الصين»، و«اطلبوا العـلم من المهد إلى اللحد».
كانت المؤسسات التعليمية الدينية المنتشرة في المساجد والزوايا لا تقل عن الثلاثة آلاف عداً فإذا افترضنا أن كلا منها على الأقل كانت تحوي 20 طالباً كان متوسط عدد الطلاب 60 الفاً، وبذلك تكون نسبة التعليم آنذاك هي: 3 %. وقد أصبح عدد الطلاب بين سنة 1892 – 1943: 100.000 في شعب بلغ تعداده 5 ملايين من النفوس. وهكذا لم تكتف فرنسا بمهاجمة الثقافة الاسلامية بل امتنعت أيضاً عن تنمية الثقافة الفرنسة الابتدائية.
أما الطلاب الأوروبيون فإنهم محل لعناية خاصة. وقد ظهر في احصاءات السيد لوجيه (رئيس مجمع الجزائر أن عدد الطلاب الاوروبيين في المدارس الابتدائية ضعف عدد الطلاب الجزائريين أي 200.000 طالب بينما يساوي عدد سكان الجزائر سبعة أضعاف عدد الأوروبيين في البلاد كلها وعلى ذلك فنسبة الثقافة لكل طالب جزائري أمام الطالب الأوروبي تساوي 1/14. أما فيما يتعلق بالميزانية فقد تبيّن أن ما يصرف على كل طالب جزائري هو 880 فرنكا بينما ينال كل طالب أوروبي 1605 فرنكا.
إن الطفولة الجزائرية لم تعرف على امتداد تاريخها الطويل مرحلة أشد بؤساً وأكثر قتامة من تلك التي تجتازها اليوم. فالطفل يلقى في الشارع في سنوات حياته الأولى ليعمل ويعيش أو يعيل على الغالب عائلة بائسة. ويمارس مهناً لا تتفق مع طفولته هيأه لها النظام الاستعمارى. فهو حمال أو سمسار أو بائع جرائد أو تاجر صغير متجوِّل الخ. وهكذا يتشرد الطفل فيزداد في كل يوم عدد البائسين والفقراء بينما نجد أن الطفولة في بقاع أخرى من العالم محل لعناية دائمة واهتمام شديد.
وقد ادعى السيد فيولات سنة 1931 في كتابه «هل ستعيش الجزائر؟» بأنه يتعذر على هذا البلد أن يتحمل مصاريف 22000 أو 23000 من الصفوف الضرورية لتعليم اطفاله. وقد نسي هذا الحاكم العام أن الحكومة الفرنسية قد خصصت من ميزانية هذا البلد مبلغاً ضخماً جداً للاحتفال بمرور مائة سنة على احتلال الجزائر مما آلم الشعب الجزائري وأصابته إصابة شديدة في كرامته. كما يجب أن لا ينسى أن ميزانية الأمن العام لسنة 1946 هي خمس الميزانية العامة أي 10610161592 فرنك بينما لم يخصص للتعليم غير 88 مليون فرنك.
ورغم الجهل المنتشر بنسبة 90٪ تتشدق فرنسا زاعمة أنها نشرت اللغة الفرنسية بين مختلف الطبقات. أما فيما يتعلق بالتعليم الثانوي والعالي فليس من الضروري أن نقف عنده لأن المسلمين محرومون منه تقريباً. والمتمتعون به منهم بعض من أبناء كبار العائلات. وقد توزع الجزائريون سنة 1929م على كليات الجامعة الجزائرية كما يلي: كلية الحقوق: 17، الطب: 7، الصيدلية: 6، العلوم: 14، الآداب: 33، والمجموع: 77 طالبا.
أما عدد الطلاب اليوم فلا يزيد على 100 بین 4000 من الأجانب. وأصحاب المهن القليلون من هؤلاء محرومون من حق التعليم والعمل في الدوائر الرئيسية. أما الدخول إلى المؤسسات العلمية الكبرى من «بوليتكنيك» والبحرية و»سان سير» فممنوع منعاً باتاً. هذا، ولا يوجد في الجزائر كلها مهندس عربي مع العلم أن البلاد غنية جداً في زراعتها ومعادنها.
أما الجيش فتتمثل فيه نفس هذه الظاهرة فقد أبعد العرب فيه عن المراكز المهمة رغم اشتراكهم في الحرب بنسبة %90. أما المدرسة العسكرية التي تخرِّج الضباط العرب فخاصة ببعض أبناء العائلات الذين برهنوا على إخلاصهم لفرنسا قبل البرهنة على جدارتهم العسكرية. وبذلك تحقق السلطة في المسائل الآتية: هل ينسب الطالب إلى أية هيئة سياسة؟ ونشاطه؟ هل ينتسب إلى عائلة دينية كبيرة أو مرابطية؟ ما هو تاريخ عائلته؟ ما هي ثروته؟
ولا يحق للجزائري أن يتجاوز رتبة المقدم. أما في البحرية فالمشكلة نفسها. وعلى هذا يتبين لنا ان فرنسا الاستعمارية تعمل على إشاعة الجهل وإنها عنصرية تعصبية ولذلك تأخر تطور الجزائر الثقافي والاقتصادي والاجتماعي». ا.هـ.
بالرغم من كل هذا التحرك المغاربي في اتجاه نقد السياسية الثقافية والتربوية الفرنسية التي تتناقض مع القيم والمبادئ التي تبشر بها منظمة اليونسكو، فإن القادة المغاربة لم يفلحوا في نزع حقوق جديدة من هذا المؤتمر الدولي على الأقل في ميدان التربية والتعليم! وعاش الأستاذ الشاذلي مكي حتى شاهد استعادة الاستقلال وساهم في تعليم النشء، وكان واحدا من أبرز المسؤولين في وزارة التربية الوطنية.