اتجاهات

5 جوان عـــــبـــــر أم عــــبــرات/ محمد الحسن أكيلال

اليوم تمر واحد وخمسون سنة عن ذكرى حرب حزيران (جوان1867) التي أرادت الإمبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة ومن ورائها الصهيونية العالمية أن تكون الحقنة الأولى من الإحباط والهزيمة التي حقنت في جسم الأمة لتبني ذلك السد النفسي الذي لا طائل من ورائه لمجرد التفكير في المحاولة للتخلص من الجسم الغريب الذي زرع فيها عنوة وقسرًا دون رحمة أو شفقة على أولئك المهجرين من ديارهم وأرضهم إلى الشتات.

كانت خطوة مدروسة في منهجية مدروسة بكل جدية وعناية لتكون الإنجاز العظيم الذي طالما عملت الحملات الصليبية لقرون على تحقيقه فلم تفلح حتى ظهرت تلك الفكرة الجهنمية المتمثلة في تأسيس الحركة الصهيونية التي أسندتها إلى أكبر المتطرفين اليهود في الغرب معتمدين في ذلك ركاما من الحقد ضد العرب والمسلمين الذين يشهد الخاص والعام أنهم لم يلقوا منهم طوال قرون حضارتهم ومجدهم إلاّ كل رعاية وحسن معاملة، عكس الأمم والشعوب المسيحية في العالم التي كانت تحتقرهم وتزدريهم أيما احتقار وازدراء.

لقد استغل الغرب الإمبريالي المسيحي الصليبي حالة الانحطاط التي وصلت إليه الأمة بعد أفول نجم الخلافة العباسية ثم تدهور الخلافة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر والتأكد من حالة الانفلات الشعوبي والقبلي والعصبي التي تغذت بأسباب وعوامل كثيرة أهمها :

  • زوال مؤسسات الدولة الحقيقية.
  • ضمور التفكير الجدي في تطوير مناهج التعليم التقليدية واقتصارها على المعارف الدينية المحضة بعيدًا عن كل العلوم التجريبية التي كانت فعلا من اهتمامات المسلمين في كل من بغداد والأندلس وآسيا الوسطى.

فالحركة الصهيونية وهي تنشأ وتتغذى من النظام الرأسمالي الإمبريالي الغربي استطاعت في فترة زمنية وجيزة أن تتوسع لتحتوي الكثير من المؤسسات والنخب لتصبح المسيرة الفعلية لها في كل العالم الجديد الذي تحكمه العلاقات والتبادلات والاتصالات بكل ما وصلت إليه التكنولوجيا في مختلف المستويات والأصعدة.

لقد توفرت فرص للاحتكاك بين الأمة والأمم الغربية المتطورة بفعل الاستعمار والاحتلال، لكن بحكم عقدة التفوق والغلبة والانتصار لم تمنح هذه الفرص إلاّ ما قررت الإدارات الاستعمارية سلفا تركه ومنحه؛ فالكم الفكري والمعرفي المتروك والممنوح لا يعدو أن يكون مواد تفعيل ما يريدون من أمراض وعلل وأوبئة سرعان ما استشرت في جسم الأمة جعلتها تعاني الكساح والتشوه في أغلب أطرافها وعقلها، بل حتى في وجدانها وشعورها الجمعي وضميرها.

إن ما حدث في حرب جوان 1967 كان اختبارًا منهم لنا لمعرفة مدى تأثرنا بما تلقينا وابتلعنا من سمومهم وأدرانهم، إنها تجربة لمعرفة مدى فعالية ذلك فينا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى الترتيب لمرحلة تالية من وضع كمية ثانية أقوى تنهي نهائيا مقاومتنا لكل ما يزرع فينا من سموم وأدران أخرى.

إن تجربة حرب جوان 1967 على قسوتها ومرارتها جعلت نخب الأمة الحقيقية تستخلص الدروس والعبر، لكن نخبا أخرى أرادت أن تكون هذه العبر عبرات أخرى تضاف إلى سابقاتها التي تلت النكبة عام 1948 وكأنها تريد تكريس الهزيمة إلى الأبد وتكريس منطق أننا عاجزون على تحقيق النصر وأنه لابد لنا من التنصل من كل ما فينا ولنا من مقومات الهوية والالتحاق بهم والتشبه بهم في كل شيء بما في ذلك أخلاقهم التي أصبحت مرفوضة حتى في ديارهم ومن أبناء جلدتهم من كبار العقلاء والمفكرين.

استقينا منهم الوطنية والقومية بما فيهما من محاسن ومساوئ، لكننا يبدو أننا لم نأخذ منهما إلاّ المساوئ بدليل فشل التجربة في ظرف وجيز ليتولد فينا شعور قوي للعودة إلى الإنية والأصالة وهو أمر إيجابي، لكن بعد فوات الأوان، بعد أن وظفوا لذلك سدنة جعلوا منها بئرًا للجن والعفاريت يعمد فيه شباب الأمة ليصبحوا وحوشًا آدمية جعلت من الدين الحنيف بعبعا مخيفا لذويهم ولغيرهم ممن يمكن أن يعتنقوه ذات يوم؛ رغم ما في الوطنية والقومية اللتين اعتنقناهما واللتين كانتا فعلا عامل دفع للأمة نحو النهضة في كثير من مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فقد كان ذلك يكفي لانتباههم وتفطنهم ليسرعوا إلى إطفاء الجذوة بكل الوسائل بما في ذلك التصفية الجسدية للقيادات.

لقد كنا نعتقد أننا تخلصنا من آثار الهزيمة بعد نتائج حرب أكتوبر 1973، لكن العدو المتربص بنا وهو الذي خطط للحرب وظف نتائجها منذ البداية لتكون تواصل للمسار الانهزامي الذي لم ينته في المعارك الميدانية بعد حصار الجيش الثالث في سيناء ودخول العدو الصهيوني إلى غرب القناة عن طريق ثغرة الدفراسوار في الدلتا ليفرض شروطه في المفاوضات التي كانت للسلم العادل ثم أصبحت مفاوضات للاستسلام المهين.

لقد تحولت العبر إلى عبرات تذرفها الآن دموع كل المخلصين من رجالات الأمة الذين لم يظنوا يوما أن تبلغ العجرفة والصلف الصهيوني إلى ما وصلت إليه بتدمير العراق وسوريا ثم يظهر رئيس جديد في أمريكا يمنح القدس عاصمة للدولة الصهيونية ويهدد بفض حل صفقة القرن على الشعب الفلسطيني خاصة وعلى الأمة الإسلامية عامة.

إن الرئيس “ترمب” في الحقيقة جاء لاستغلال النتائج، لقد جاء إلى الحكم بعد سلسلة القرارات ومجموع الخطط المؤجلة ليقوم هو باستعراض عضلاته للتنفيذ وترجمة النتائج إلى إنجازات ملموسة ميدانيا وهذا ما جعله يضرب عرض الحائط بكل المجموعة الدولية وبكل القوانين والمواثيق والأعراف، لقد فعلت به نشوة الاعتداد بالنفس وجبروت القوة الغاشمة ما فعلت بكثير من الأباطرة والنازيين الذين لا ينظرون إلى البشر كبشر ولكنه يراهم حشرات يجب إبادتها ما عدا الأمريكيين واليهود الصهاينة.

لإرضاء ابنته وصهره “كوشنر”  عليه أن يفجر حربا عالمية ثالثة، فقط لحماية الدولة الصهيونية، ولكنه لا يعلم أن هذه البداية قد توصل أمريكا إلى مواجهة حقيقية مع أقرب حلفائها إليها، إنه يشبه “هتلر”  إلاّ في شيء واحد هو حبه لليهود الصهاينة، عكس “هتلر”  الذي كان يمقتهم لأنه كان يعرفهم جيدًّا منذ خالطهم في شبابه في فيينا، وعرف حقيقتهم أنهم ينفردون بنزعة الحقد على البشر الآخرين.

مأساتنا أن نخبنا السياسية والإعلامية والثقافية انقسمت بين ناسٍ  ومتناسٍ ومتجاهل للحقيقة، كأن الذي حدث ويحدث اليوم في فلسطين إنما بدأ الآن، وفي المرحلة الحالية من تاريخنا وأن كل الدمار الذي لحق بكل الأقطار العربية والإسلامية بداية من الصومال بل من الصحراء الغربية التي استهدفت بها الجزائر لكونها الشعب الوحيد من كل الشعوب العربية والإسلامية الذي استطاع بإمكانياته الذاتية أن يفتك حريته وسيادته واستقلاله، وقد تواصل مسلسل تدمير الشعوب العربية والإسلامية الواحد تلو الآخر حول فلسطين السليبة التي يبدو أن الحلقة قد ضاقت حولها فيما يجري في سوريا، فالهدف من كل الدمار الذي حدث في سوريا وقبلها العراق هو جعل كل الأمة مستسلمة للأمر الواقع الإمبريالي الصهيوني وتنصيب الدولة الصهيونية الدولة الأقوى بل والأعظم في المنطقة، وخاصة وأن دولا عربية تداعت وتتداعى لبيعتها والاختراق لأغلب الشعوب قد وصل مداه بأشكال كثيرة ومتنوعة آخرها تغلغل شركة  “بيبسي كولا”  في الجزائر بزيادة عدد ملصقاتها الإشهارية على واجهات المحلات التجارية المختلفة.

إن نكبة جوان 1967 وقبلها نكبة ماي 1948 ما هما إلاّ حلقتين في سلسلة مترابطة الحلقات هدفها تركيع الشعوب العربية والإسلامية للإرادة الإمبريالية والصهيونية، وللأسف تكون فلسطين الحلقة الأضعف بموقعها الجغرافي وتعدادها الديمغرافي في هذه السلسلة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com