مع العلاّمة والفيلسوف والمفكر العربي الكبير د. عبد الرحمن بدوي (2002-1917م) وذكرياتي معه
أ. سعدي بزيان/
مسيرة عالِم أثرى المكتبة العربية بصنوف من الأفكار والثقافة العالمية، وما أنتجه من أعمال: «ترجمة، وتحقيقا، مخلفا وراءه أكثر من 150 كتابا».
كنت في حياتي الثقافية وخاصة منذ أن وصلت إلى القاهرة 1958، متعلقا بقراءة ما أنتجه كل من توفيق الحكيم وطه حسين وزكي مبارك –الخصم العنيد لطه حسين-، وقبل مغادرتي الشرق العربي تراءى لي أن الإخوة المشارقة الذين درسوا في الغرب هم أفضل بكثير من الذين اكتفوا بالدراسة بالوطن وبلغة الوطن فقط، وأن الذين طوروا اللغة العربية في الوطن العربي هم الذين تعلموا اللغات الأوروبية، ولهذا كان إعجابي كثيرا بأسلوب طه حسين، وتوفيق الحكيم، وزكي مبارك، وهذا ما جعلني أقرأ كثيرا لهؤلاء، بالإضافة إلى رافع رفاعة الطهطاوي صاحب كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» الذي وصفه د.جابر عصفور الناقد المصري المعروف بـ “رائد التنوير” في مصر، وهو المؤسس لـ»مدرسة الألسُن» في القاهرة، والمترجم للعديد من الكتب الفرنسية إلى العربية، وكان في باريس مجرد إمام، مع ذلك أصبح مضرب الأمثال في الثقافة والترجمة، علما بأنه كان في باريس 1826 مجرد إمام لأفراد البعثة المصرية التي أرسلها محمد علي والي مصر إلى فرنسا لدراسة علوم أوروبا، ويعتبر الطهطاوي أول مؤرخ عربي لباريس باللغة العربية، وكان منبهرا بها كمدينة الأنوار، وصفها بقوله: «باريس شُموس الفكر فيها لا تغيب، وليل الكفر فيها ليس له صباح»، وقد قام د.أنور لوقا بترجمة كتاب تخليص الإبريز في تلخيص باريز بعنوان: «L’Ordeparis»، وقد خصص رسالة الأستاذية لنيل شهادة دكتوراه بعنوان: «رحّالة وكتّاب مصريون في فرنسا»، وأنور لوقا (1927-2006) قدم الكثير للثقافة العربية من خلال ترجماته للثقافة العربية إلى اللغة الفرنسية، وقد أثرى المكتبة في الأدب المقارن.
قصتي ولقائي بالدكتور عبد الرحمن بدوي في إحدى المقاهي الباريسية:
عشت في القاهرة مدة طويلة، وقرأت لأدبائها وكتابها، ويمكن لي القول بأنني تتلمذت على كتب المثقفين والأدباء المصريين، فقد قرأت «الأيام» بأجزائه الثلاثة وأنا طالب في معهد بن باديس، «ووحي القلم» للرافعي، أما د.بدوي فلم أقرأ له إلا بعد أن غادرت المشرق بل والجزائر، وكان أول كتاب قرأته للدكتور عبد الرحمن بدوي هو عن الفيلسوف الألماني نيتشه، وهو أول كتاب له أصدره سنة 1939، وحسب بدوي صدرت له 5 طبعات، وأن جمال عبد الناصر قرأه وأعجب به حسب بدوي أيضا، والغريب أن د.بدوي يعتبر عبد الناصر كارثة على مصر، وإذا عرف السبب بطل العجب، والسبب هو أن عبد الناصر أمّم أراضي فلاحية لأسرة بدوي في إطار «سياسة الإصلاح الزراعي وتحديد الملكية»، مع ذلك عيّنه عبد الناصر ملحقا ثقافيا في سويسرا، وعاش بدوي وهو يمقت ذكر اسم عبد الناصر وعهده وسياسته.
مسار بدوي العلمي والفكري وهجرته الباريسية
ولد بدوي بمحافظة الدقهلية في سنة 1917، فجميع دراساته الابتدائية، والثانوية، والجامعية، تمت في القاهرة وفي جامعتها في قسم الفلسفة، وكان موضوع رسالته لنيل شهادة «الماجستير» من جامعة القاهرة، وموضوعها «الزمن الوجودي»، ولعل من هذا العنوان استشف بعض العلماء توجهه نحو الفكر الوجودي، فهو إذن مفكر وجودي، وخاصة وهو الذي أسند له د.سهيل إدريس صاحب دار الآداب، بيروت، ترجمة كتاب: «الوجود والعدم» للفيلسوف الوجودي جان بول سارتر، ود.بدوي لا يخفي إعجابه بالفيلسوف الألماني مارتان هايدغر (1889-1976) وهو من رواد الفكر الوجودي في الغرب.
عمل بدوي محاضرا في الكويت، في لبنان، في ليبيا، في إيران، والسوربون، كما شارك في عدة ملتقيات حول الاستشراق والمستشرقين، وانتهى به المطاف في باريس في غرفة متواضعة في الطابق العلوي في الدائرة 6 من باريس، مدة تزيد عن 30 سنة، ثم مات في القاهرة.
لقائي بالدكتور بدوي وسؤاله عن تدريس الفلسفة في جامعات الجزائر، ومدى كفاءة هؤلاء وما هي اللغات التي يعرفونها؟
قلت له حسب معلوماتي أن هناك أكثر من أستاذ في الفلسفة درس في جامعة القاهرة، أما اللغات التي يعرفونها فحسب اعتقادي الفرنسية، ربما شيء من الانجليزية، إذن لا يعرفون اللغات الثلاثة التي بدونها يغدو الحديث عن الفلسفة مجرد كلام، وهذه اللغات هي: الألمانية، واليونانية، واللاتينية، وبدون معرفة هذه اللغات لا حديث عن الفلسفة، فقلت له: إنك في أحد لقاءاتي معك، قلت لي أنك تعرف 10 لغات، وكيف أصبحت متعدد اللغات، أجاب نحن فيما مضى كنا قبل الحصول على البكالوريا نكون قد أتقنا: الفرنسية، والانجليزية، والعربية. بطبيعة الحال، وعند التحاقي بدراسة الفلسفة فرضوا علينا اللغات الثلاث المذكورة، ودرسنا هذه اللغات على كبار المستشرقين الأوروبيين، وهذا يعني أنني خلال تخرجي في قسم الفلسفة كان في حوزتي 6 لغات، وعندما طلبت مني جامعة طهران استضافتي مدة سنتين، أضفت خلالها لغة أخرى وهي الفارسية، وما يعاب على المرحوم د.بدوي أنه ليس عالما متواضعا، فالذي قرأ سيرة حياته يعرف إلى أي حد يحط من قيمة العلماء، ولم يسلم منه حتى أستاذه د.طه حسين الذي قال عنه: «أنه كان مخبرا للشرطة»، ود.أحمد أمين قال عنه أنه حقود ولا يعرف سوى قشور من اللغة الانجليزية، أما محمد عبده فقال عنه: «إنني أتعجب من الذين يثنون على محمد عبده، فهو كان عميلا للحاكم البريطاني في مصر، وصديقه، وليس له من الإنتاج سوى «رسالة التوحيد»، قلت له في أول لقاء لي معه في مقهى أمام «حديقة لوكسمبورغ»، لماذا لم تزر الجزائر؟ أجاب: تلقيت أكثر من دعوة وكنت يومئذ في الكويت، ومع الأسف فالحكومة الكويتية لا تدفع تذاكر السفر، ولهذا لم أزر الجزائر، ولا يعرف بدوي شيئا عن الوضع الثقافي في الجزائر، وقلت له ذات يوم ونحن في الحي اللاتيني أن هناك مؤتمرا فلسفيا في الجزائر، وأن هناك فيلسوفا مصريا دعي لحضور هذا الملتقى، وكان جوابه باللهجة المصرية قائلا: «والحمار ده يعرف حاجة في الفلسفة»، ويبقى بدوي وحده مؤسسة ثقافية كاملة، وقد قالت عنه إحدى الباحثات: «إن بدوي عصيٌّ لا تطاله التصنيفات»، وذلك بسبب انشغاله في عدة تخصصات كما أشاد به المفكر المصري د.أنور عبد الملك، الذي سيرد الحديث عنه في مكان آخر.
ومهما قيل وما يقال عن د.عبد الرحمن بدوي فلا غنى عن كتبه، فقد قال لي ذات يوم المثقف التونسي المعروف، الأستاذ العفيف الأخضر، لو أنني قرأت كتاب: «مذاهب الإسلاميين» في جزأين للدكتور بدوي، لما أضعت عمري في قراءتي لكتب عديدة لا ترقى إلى ما ورد في كتاب بدوي –المذكور- عكس ما قاله لي أحد أساتذة الفلسفة في جامعة الجزائر، بأن ثقافة بدوي لا تتعدى الترجمة للفكر الغربي، وبأن الترجمة لا قيمة لها، في حين يعتبر كثير من الكتاب بأن: «الترجمة عمل إبداعي»، بل إن أحد تلاميذته وهو المرحوم د.عبد الغفار مكاوي، انتقد بدوي في ترجماته من الألمانية، والإسبانية، لأنه لم يدرس هاتين اللغتين في الجامعة، في حين درس مكاوي اللغة الألمانية في بلادها مدة 6 سنوات كاملة، ومع ذلك قال مكاوي، فالدكتور بدوي قامة من قامات الثقافة العربية.
ومن كتب بدوي التي تزيد عن 120 كتاب:
1- دفاع عن القرآن ضد الطاعنين فيه.
2- دفاع عن محمد صلى الله عليه وسلـم ضد منتقديه.
3- شخصيات قلقة في الإسلام.
4- الحور والنور.
5- من تاريخ الإلحاد في الإسلام.
6- سيرة حياتي.
7- موسوعة المستشرقين.
8- الفرق الإسلامية في شمال إفريقيا (ترجمة).