من تراثنا

المؤرخة الدكتورة آني راي-غولدزيغر كانت من أنصار الثورة الجزائرية

أ.د. مولود عويمر/

الدكتورة آني راي-غولدزيغر واحدة من أبرز المؤرِّخين الفرنسيين المختصين في التاريخ الاستعماري وتخرَّج عليها العديد من الباحثين الفرنسيين والعرب الذين تميَّزوا في هذا المجال. فضلًا عن هذا العمل الأكاديمي المعروف، كانت أيضا مثقفة ملتزمة بقضايا عصرها، وفي هذا السياق ساندت الثورة التحريرية، وانضمت إلى شبكات الدعم التي تأسست في فرنسا، وعرضت نفسها لكل المخاطر. وفي هذا المقال، أقدم صورا من هذا النضال الانساني الذي يحتاج إلى المزيد من الدراسة والبحث.

آني ري-غولدزيغر في سطور
ولدت آني غولدزيغير في 12 ديسمبر 1925 بمدينة تونس. وهي ابنة المعلمة الفرنسية جيرمان رينييه والطبيب دافيد غولدزيغر الذي ترجع أصوله إلى روسيا التي فرّ منها في عام 1905. وقد مات في إحدى المعسكرات الألمانية النازية أثناء الحرب العالمية الثانية.
في عام 1943 انتقلت مع والدتها للعيش في الجزائر حيث استكملت مراحل تعليمها الثانوي حتى نالت شهادة الباكالوريا ثم التحقت بكلية الآداب جامعة الجزائر حيث تعرفت على الطالب روجي راي وتزوجت به وأنجبت منه طفلين. في عام 1945، استقرت في فرنسا وانتسبت إلى جامعة السوربون، وحصلت منها على شهادة التبريز في التاريخ في عام 1947. ورافقت زوجها الضابط في الجيش الفرنسي إلى مدغشقر وعاشت مع أسرتها هناك مدة 5 سنوات ثم رجعت إلى باريس لتعمل مدرِّسة في ثانوية فرانسوا فالون. وفي الوقت نفسه أنجزت أطروحة الدكتوراه الدولة تحت إشراف المؤرخ المعروف شارل أندري جوليان حول موضوع: «المملكة العربية» التي كان يحلم بها الأمبراطور نابوليون الثالث في الجزائر وعبّر عن خطوطها العريضة خلال زيارته للجزائر في عام 1860 وفي مراسلاته للمقيم العام بليسييه في عام 1861. وقد ناقشت رسالتها في رحاب جامعة باريس 4 في يوم 14 مارس 1974.
عُيِّنت معيدة بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة رينس بشرق فرنسا، ثم تدرَّجت في السلك الأكاديمي إلى أن وصلت إلى درجة أستاذة كرسي. وظلت بهذا المنصب حتى استفادت من التقاعد في عام 1996. كما كانت أستاذة زائرة في جامعة باريس 1، وجامعة باريس 3 حيث تعرفت عليها في عام 1994، وجامعة تونس التي درّست فيها لمدة عامين. وقد تركت آثارا حسنة في تونس ونسجت علاقات علمية وسياسية مع النخبة التونسية واستقبلها الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة في مكتبه بقصر الرئاسة. ووفاء بمسقط رأسها أهدت مكتبتها العامرة إلى المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر ليستفيد منها الباحثون والطلبة التونسيون.
وتولَّت الدكتورة آني راي-غولدزيغر الإشراف على العديد من الرسائل العلمية بين 1985 و2004. وكانت جل هذه الأطروحات الجامعية اهتمت بتاريخ الجزائر وتونس وبعض المستعمرات الإفريقية.
أما في مجال التأليف، فكانت مقلة نظرا لانشغالها بالنشاطات السياسية وأعباء التدريس والإشراف الأكاديمي. ومع ذلك أصدرت عددا من الكتب فضلا عن مجموعة من الدراسات والمقالات، وأعمال جماعية شاركت في تحريرها. ومن أهم كتبها، أذكر هنا: «المملكة العربية: السياسة الجزائرية لنابوليون الثالث (1861-1870)»، وقد نشرته للمرة الأولى في الجزائر في عام 1977، وكتاب «في جذور حرب الجزائر 1940-1945» الذي ترجمه باحثان جزائريان، ونشر في الجزائر في عام 2005.
كما ساهمت مع عدد من المؤرخين الفرنسيين في تأليف كتاب جماعي حول تاريخ فرنسا الاستعماري، فحررت الفصل الثالث من المجلد الأول. ونشرت دراسات وبحوثا في المجلات الفرنسية والتونسية والجزائرية حول تاريخ تونس والجزائر. وشاركت في عدة ملقيات تاريخية في فرنسا وخارجها.

النضال من أجل تحرر الشعوب المستضعفة
انخرطت الدكتورة آني راي-غولدزيغر في النشاط السياسي وهي طالبة بجامعة الجزائر حيث اكتشفت بنفسها التمييز العنصري الذي كان سائدا في هذه الجامعة التي يقصدها أبناء المعمرين الفرنسيين، وقليل من الطلبة الجزائريين الذين يدرسون في كلية الطب وفي كلية الحقوق. وحسب دراسة المؤرخ غوي برفيي، فإن عددهم كان في العام الدراسي 1945-1946 لا يتجاوز 100 طالب.
لقد انتقلت من الجزائر إلى فرنسا وهي تحمل معها خيبة أمل بعدما كانت قبل ذلك مؤمنة بالرسالة الحضارية للاستعمار ودوره الإيجابي في المستعمرات. لقد رجعت من الجزائر كما قالت مناضلة مناهضة للاستعمار ومصممة على مساعدة حركات التحرر التي ظهرت آنذاك في القارة الإفريقية. وتجسيدا لهذه الرغبة، انضمت إلى الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان يدعي الدفاع عن حقوق المستضعفين.
وساهمت في نشاطات شعب الحزب داخل الجامعة سواء في النشاطات التي تتعلق بالمطالب الاجتماعية والبيداغوجية أو بالمطالب السياسية على المستوى الداخلي في فرنسا أو على المستوى الدولي في إطار تصفية الاستعمار في إفريقيا وآسيا.
ولم تكن الدكتورة آني راي-غولدزيغر دائما على اتفاق مع توجهات الحزب الشيوعي الفرنسي في دعم سياسة الحكومات الفرنسية خاصة التي شارك فيها الوزراء الشيوعيون. وانتقدت مساندة هذا الحزب العمياء لسياسة موسكو وتبريره قراراتها والدفاع عن خياراتها بغير حساب ومشاكلة ومساءلة مثل الاعتداء السوفياتي على المجر في عام 1956 وقمع المظاهرات السلمية.
وقد ازدادت أخطاء الحزب بعد ظهور حركات المقاومة المسلحة في تونس والمغرب والجزائر، وساند في كل مرة الحكومة الفرنسية في قمعها للثوار المغاربة. ومعارضة لهذه المواقف السلبية، تلتحق في عام 1958 بالمجموعة المعارضة للحزب الشيوعي المعروفة بـ « الطريق الشيوعية»، وكانت تضم نخبة من الأكاديميين والمثقفين الفرنسيين. وكان لهذه المجموعة نشاط ميداني معروف في مساندة حركات التحرر من الاستعمار والأمبريالية العالمية، وأعمال منددة لحروب الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الأطلسي في القارة الآسيوية وأمريكا الجنوبية.

مساندتها للثورة الجزائرية
لقد أحست الدكتورة آني راي-غولدزيغر بصدمة كبيرة وهي تشاهد للمرة الأولى قمع الشرطة الفرنسية للعمال الجزائريين المتظاهرين في 1 ماي 1945 في شوارع مدينة الجزائر. وتأكدت قناعتها بفشل السياسة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر، وحتمية زوال الاحتلال في المستقبل القريب بعدما عايشت مجازر 8 ماي 1945 في العديد من المدن الجزائرية. وقد قررت الرحيل من البلد وهي تقول في قرارة نفسها: «لن أعود إلى الجزائر إلى بعد أن تنال استقلالها».
ولقد خصصت لهذا الموضوع كتابا كاملا واعتبرت فيه الثورة التحريرية التي اندلعت في 1 نوفمبر 1954 نتيجة حتمية لتلك المجازر التي دفعت النخبة الجزائرية إلى تغيير أشكال المقاومة، وتبني خيار الكفاح المسلح لنزع الحرية ونيل الاستقلال واستعادة السيادة الوطنية بالقوة.
وكانت صادقة في أقوالها التي تطابقت مع مواقفها وأعمالها. فقد انتقدت الحزب الشيوعي الفرنسي الذي تنتمي إليه عندما وافق نوابه في البرلمان الفرنسي على منح السلطة الكاملة للقيادة العسكرية الفرنسية في الجزائر من أجل القضاء على الثورة الجزائرية. وقد مارس الجيش الفرنسي -المحمي من الحكومة الفرنسية التي كان يترأسها الاشتراكي غوي مولي والمدعم من الحزب الشيوعي- كل أساليب القمع والتنكيل بالجزائريين خاصة الذين ثبتت فيهم الانتماء لجيش التحرير الوطني.
ولم تقتصر على إدانة سياسة الحكومة الفرنسية في الجزائر، وإنما انضمت مع زوجها الخبير في الشؤون العسكرية إلى «شبكة جونسون» برئاسة الفيلسوف فرانسيس جونسون التي تدعم فدرالية جبهة التحرير الوطني في فرنسا. وكانت هذه الشبكة تقوم بتوفير الحماية والمال والمأوى والوثائق المزوّرة للمجاهدين الجزائريين وتهرِّب من السجن المناضلين المعتقلين. وكان يطلق على هذه الشبكة «حملة الحقائب»، وتعرض العديد من أعضائها للاعتقال والمتابعة القضائية والسجن.
وقد روت الدكتورة آني راي-غولدزيغر في مقال نشرته في جريدة «الوطن» الجزائرية صلتها بالقائد الثوري محمد بوضياف ومساعدته في أعماله الثورية التي كان يقوم بها في فرنسا. وقد أعجبت بقدراته التنظيمية وشغفه بالقراءة. وبقيت على صلة به بعد الاستقلال. وتروي في هذا المقال كيف جمعت أوراقه التي كانت تهرب من السجن – الذي وضعته فيه حكومة أحمد بن بلة -وأشرفت على إعدادها للنشر تحت العنوان المعروف: «إلى أين تسير الجزائر؟»
كما قدم علي هارون- أحد المسؤولين على فدرالية جبهة التحرير في فرنسا- شهادة أخرى تثبت نشاط هذه المؤرخة لصالح الثورة الجزائرية. فقد روى للباحث رشيد خطاب أن «آني كانت في كثير من المرات تترك لنا بيتها للاجتماعات واللقاءات وتطلب منا فقط العناية بقطتها… كانت فعلا لا تتردد أبدا كلما طلبنا منها الاجتماع في بيتها».
ذكرت هنا بعض الشهادات القليلة التي تؤرخ عملها النضالي السري. وظلت هذه الصفحات مغمورة رغم زوال مبررات كتمانها بعد ظهور كتابات عديدة عن حملة الحقائب الذين ناصروا الثورة الجزائرية ضد دولتهم الفرنسية التي كانت ظالمة تجاه الشعب الجزائري. كما لم يعد جزء كبير من الرأي العام الفرنسي ينظر إليهم باعتبارهم خونة الوطن بعدما عرفوا حقيقة نضالهم ودوافع نشاطهم التي تنطلق من قيم الثورة الفرنسية نفسها ومن التجربة المرة والقاسية مع قوات الاحتلال النازية التي مارست كل أنواع التنكيل مع المقاومين الفرنسيين خلال الحرب العالمية الثانية. بل اعترفت الدولة الفرنسية بمسؤوليتها في قتل عدد من المناضلين الأحرار أمثال موريس أودان وأعادت إليهم الاعتبار.
ولم تتوقف عن دعمها للثورة الجزائرية بعد تحقيق الاستقلال واستعادة السيادة الوطنية في عام 1962، وزارت الجزائر وهي مستعدة للتدريس في الجامعة الجزائرية التي غادرها معظم أساتذتها الفرنسيين، لكنها تراجعت عن مشروعها بعدما اختلفت مع التوجهات السياسة للرئيس أحمد بن بلة.
واصلت دعمها لكل عمل ينتصر للذاكرة الجزائرية وكتابة تاريخها الوطني ومساندة قضايا المغتربين الجزائريين في المهجر، وهكذا كانت من الموقعين على البيان المطالب للحكومة الفرنسية بالاعتراف بمسؤوليتها في اغتيال المناضل موريس أودان في عام 1957. كما وقفت مع مجموعة من المثقفين الفرنسيين ضد التكريم الرسمي للجنرال مارسيل بيجار الذي شارك في تعذيب المجاهدين الجزائريين والمناضلين الأوروبيين المساندين للثورة التحريرية.
توفيت الدكتورة آني راي-غولدزيغر في 17 أفريل 2019 بمدينة مسياك بفرنسا عن عمر ناهز 94 عاما. وفي 2 ماي 2019 نظمت المدرسة العليا للأساتذة في تونس ندوة تأبينية شارك فيها أصدقاؤها وطلبتها التونسيون. ولا شك أن هذه المؤرخة والمثقفة الملتزمة تستحق أكثر من وقفة وندوة نظير ما قدمته من أعمال حول التاريخ المغاربي، وتقديرا لدعمها لكفاح الشعوب المغاربية من أجل نيل الكرامة ونزع الحرية.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com