الافتتاحية

لم يمت من علم النّاس الفداء

أ.د. عبد المجيد بيرم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/

إنّ الأمة إنّما يُصنع مجدها بحبر العلماء وبمدادهم، وبدماء الشهداء وتضحياتهم، فبهما يُعزّ جانبها وتسترجع حقوقها وتحمي مقدساتها، وما ساد الأوائل إلّا حينما تبوأ العلم مكانته، وعرف النّاس قدر العلماء والمفكرين وأولي الحجَى فيهم، ورافق ذلك الاستعداد لبذل المــُهج والغالي والعزيز من أجل الدّين والعرض والأرض والمقدسات، فمكرمة العلم على أهله، أنّه يمدّ في أعمارهم، بعد انقضاء الأجل، فتبقى مآثرهم تسري في الناس، بما خلّفوا من علم أحيوا به الأمّة؛ لذلك بشر النبي صلى الله عيه وسلم العلماء بامتداد الأجر، مع الذكر بعد مماتهم،: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به …»، وأمّا الشهداء فإنّهم بذلوا أعزّ ما يملكه الإنسان وهو حياته، وأرخصوا دمائهم في سبيل ما يؤمنون به، فكان موتهم حياة لهم ولأمتهم: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [آل عمران /169]، كما أخبر القرآن.

وإذا كان شيخنا أحمد سحنون-رحمه الله- رثى العلامة محمد البشير الإبراهيمي الذي جاهد بعلمه وقلمه، بقوله:
لا تقل يا ناعي الأحرار ماتا  *** لم يمت من علم النّاس الحياتا
فإنّ الشهيد يحيى السّنوار-رحمه الله- لم يمت فهو من أعطى المسلمين، بل البشرية درسا حيا في الفداء، والشموخ، ومعاني البذل والصبر والمصابرة والتجلد في افتكاك الحق وإرغام أنف المغتصبين، فقد قضّ مضاجع الصهاينة مناضلا، وأسيرا، ومجاهدا ظلّ كالأسد الجسور مرابطا مع إخوانه المجاهدين فوق الأرض وتحت الأرض، طيلة هذه الشهور في مواجهة أعتى قوة مدججة بكل وسائل التكنولوجيا والأسلحة المدمّرة والدعم اللّامحدود، بينما كان هو وإخوانه يستمدون العون من الحي الذي لا يموت فقد علموا يقينا أنّ العزة في جناب الله وأنّ العاقبة للمتقين، وكانت أعينهم وهم يجاهدون ويستبسلون على إحدى الحسنيين: فإمّا إلى النصر فوق الأنام، وإمّا إلى الله في الخالدين.

لقد أحي يحيى في وجدان الأمة معاني الإصرار في استرجاع الحق، والثبات في سبيله، فجعل من رفاته الوقود الذي تسير به نحو المجد التليد، ولسان حاله يقول:
فأوقد لهم من رفاتي الشموع  *** وسيروا بها نحو مجد تليد
لقد أشعل الشهيد يحيى فتيل طوفان الأقصى ومضى إلى ربّه شهيدا، ولن يتوقف هذا الطوفان حتى يغمر الكيان الغاصب ويلقي به في واد سحيق، لذلك فسيبقى ذكره حيا في الحياة وهو حي عند رّبه.

نماذج للاحتذاء
إنّ الشهيد أبا إبراهيم وإخوانه قبله في المقاومة، وفي جبهات الإسناد أدّوا ما عليهم، فليسوا هم أوّل من جاهدوا واستشهدوا في سبيل دينهم وأوطانهم وأعراضهم ولن يكونوا هم آخر من يستشهد؛ لأنّها سنة الله في المدافعة بين الحق والباطل، فقد استشهد ابن رواحة وزيد بن حارثة وجعفر وغيرهم -رضي الله عنهم -في الرعيل الأول، والشقاقي وأحمد ياسين والرنتيسي وإسماعيل هنية في الآخرين فما توقف الجهاد في هذه الأمة ولا المقاومة، وقد كان هؤلاء، وأولئك قادة في الجهاد وقدوة للأجيال، وسيظلون رموزا لمن ينشد العزة في الحياة، والخلود في جوار الله.

رسالة إلى الأمة
إنّ الفترات العصيبة التي تمرّ بها الأمّة وما يصيبها من «البلاء والشدّة هو ابتلاء يكسبهم القوة والجلد ويقوي فيهم خلق الصبر والثبات وينبههم إلى مواطن الضعف فيهم أو ناحية التقصير فيتداركوا أمرهم بالإصلاح والمتاب فإذا هم بعد ذلك الابتلاء أصلب عودا وأطهر قلوبا وأكثر خبرة وأمنع جانبا» [آثار ابن باديس:1/213]
إنّ تضحيات هؤلاء القادة أعادتنا إلى زمن الأبطال الذين خطّوا بدمائهم قصصا للفداء، تستلهم منها الأجيال أسمى المعاني، وتستنهض عزائم شباب الأمّة ليسترجعوا حقها المسلوب وكرامتها المهدورة ومقدساتها المغتصبة، في عالم لا يؤمن إلّا بمنطق القوة، إذ لا مكان للضعفاء والمتخاذلين والمطبعين. لذلك فإنّه يتعين على الأمة الانخراط في مشروع النُّصرة، كلٌ في موقعه وإمكاناته وطاقته؛ لأنّ المعركة اليوم ليست معركة أهل غزة بل هي معركة الأمة بكل مكوناتها، كما أنّها ليست معركة حدود وإنّما هي معركة وجود.
فسلام عليك يا أبا إبراهيم وأنت حي ترابط في محراب الأنفاق وسلام على روحك وهي ترفرف في السماء وسلام عليك وعلى جميع شهداء طوفان الأقصى من بيت المقدس وأكناف بيت المقدس في الخالدين، وللمتخاذلين والشامتين نقول.
إذا سيّدٌ منَّا خلا قام سيّدٌ  *** قؤول لما قال الكرام فعول.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com