التعليم القرآني في الميزان
أ. محمد خليفي/
إن ما تشهده الجزائر من احتفالات بحفاظ القرآن في كل مسجد من مساجدها، وفي كل زاوية من زواياها، لا سيما أيام رمضان المباركات وهي أيام القرآن بامتياز لدى الجزائرين خاصة والمسلمين عامة، إن هذه الحفاوة الكبيرة بحفظة القرآن، وهذا الالتفاف المنقطع النظير حول المدارس القرآنية، إنما يدل فيما يدل على أن هذه الأمة وهذا الشعب الأبي المسلم لا يريد لأبنائه مرجعية ولا دليلا هاديا غير القرآن، إن هؤلاء الآباء والأمهات الذين يرسلون بفلذات أكبادهم إلى دور القرآن، وهؤلاء المساهمين بأموالهم وجهودهم في إنجاح التعليم القرآني، بدءا بتشييد المدارس، ثم إعمارها وتسييرها، ثم إنجاح الاحتفالات بأهل القرآن والحفظة المتخرجين بها، إن هؤلاء ما يفعلون ذلك إلا أملا أن يجدوا فيها ما فقدوه في بقية مؤسسات التنشئة الاجتماعية، بعدما عجزت هذه المؤسسات عن احتواء الجيل الجديد وتربيته على القيم الفاضلة والسلوك السوي، وبعدما عجزت عن حمايته من أخطار بيئته.
إنها مهمة عظيمة وثقيلة تلقيها الأمة بلسان حالها وإن لم تصرح -ربما – بمقالها على دور القرآن، إنها تريد من المدرسة القرآنية أن تنشئ جيلا مثل ذلك الجيل الرائع الذي أنتجه ابن باديس وإخوانه، جيلا يتمثل القرآن في أخلاقه، جيلا يعيش للأمة وللوطن وللدين، جيلا سلاحه العلم والمعرفة، ودثاره الإيمان والتقوى، إنها تريد باختصار «إنسان النهضة».
هكذا أفهم هذا الالتفاف القوي حول دور القرآن، إنها رسائل القلب الذي يقطر أسى على جيل كامل يتفلت من بين أيدينا، يستطيع المثقف والمتعلم أن يعبر عن هذا الأسى والحزن العميق بالألفاظ والكلمات، ليكتفي العامي البسيط في فكره، العميق في إيمانه بإرسال ابنه إلى كتاتيب القرآن، تخونه العبارة لكنه يهتدي أبدا إلى ما يجب فعله، إن مجالس القرآن في معتقده حصن الأمة الأخير الذي سيصنع من ولده قيمة مضافة، ورقما صعبا.
إن آمالا كهاته يعلقها الشعب الجزائري على مدارسه القرآنية، ينبغي أن تقض مضاجع القائمين على التعليم القرآني، وأن تذهب النوم من عيونهم، والبسمة من وجوههم، حتى يتحقق لهذا الشعب ما يريد، إن المهمة خطيرة، ولكنها واجبة وأكيدة، وإنني أريد من خلال هذا المقال المتواضع تسليط الضوء على معضلة التعليم القرآني الكبرى وإشكاليته العظمى «حضور حروفه وغياب حدوده»!! وهي حقيقة لا ينبغي الاختلاف حولها، أعني حقيقة أننا نعاني من فصام في هذا الأمر، مدارس كثيرة تشيد هنا وهناك وخريجون كثر بالآلاف إن لم نقل مئات الآلاف لكننا إلى الآن لا نرى تمثلا حقيقيا لأخلاق ومبادئ القرآن في حياتنا وسلوكنا، بل لا نرى إلا شرودا عن الفضائل، وبعدا عن الأخلاق، من حملة القرآن أنفسهم، فضلا عن غيرهم.
إن هناك بونا شاسعا بيننا وبين حقائق القرآن ومبادئه وقيمه، هذا القرآن الذي نتلوه بالليل والنهار ونقيم المهرجانات والاحتفالات احتفاء وتكريما لحفظته، ونشيد المدارس ونضخ الأموال ونبذل الجهود من أجله، الواقع ينبؤنا أننا بعيدون كل البعد عن روحه وحقائقه، وأننا وقفنا عند حروفه، ولم نعبر بعد إلى جوهره وكنوزه، لذلك فشت فينا الأمراض المهلكة من تخلف، وتفتت، واستعمار وقابلية له، وهي أمراض لا خلاص لنا منها إلا بتفعيل مبادئ وقيم القرآن، بدل الاقتصار على التلاوة والتحفيظ وإن كانا مطلوبين.
يبدو أنه قد أشغلنا فرحنا بالألوف الحافظة للقرآن التي تتخرج بمدارسنا القرآنية عن المهمة الأساسية للتعليم القرآني وهي تخريج إنسان القرآن، وظننا أن النصر والتمكين لهاته الأمة واستعادة الأمجاد إنما يكون بما نصنع!! ما نصنعه جهد مشكور، ولكن ينقصه الكثير الكثير.. هذا -طبعا – إذا غضضنا الطرف عن الكثير من الكتاتيب والمدارس القرآنية التي امتهنت التعليم القرآني و أصبح القرآن عندها مصدرا للثراء، فعبثت بحروف القرآن قبل حدوده عبثا منقطع النظير، وقد أحصيت لتلميذة من تلاميذ مراكز العبث هاته -زيادة على الحفظ المهلهل- ثمانية عشر خطئا نحويا في آخر ثمن أجازتها معلمتها فيه، والله المستعان.
إن فاعلية المدرسة القرآنية ونجاحها يكمن في قدرتها على استدعاء مفاهيم القرآن وقيمه وتحويلها إلى إجراءات وآليات لمعالجة هذا الواقع المرير، وهي مهمة تحتاج إلى جانب طاقم التعليم القرآني تكاتفا وتدخلا عاجلا من أصحاب الفكر والتربية.
وإني أنأى بك أيها القائم على شأن التعليم القرآني أن يكون حظك من الإصلاح ترديدك تلك العبارة التي غدت شعارا عاما لكل دور القرآن «علموهم القرآن، والقرآن سيعلمهم كل شيء»، والتي أفرغناها من معناها الحقيقي وصرنا نسوقها دوما في سياق الحث على الحفظ والتحفيظ، نوهم أنفسنا والمستمعين أن الحفظ هو التربية وهو التعليم، حتى أصبح الحفظ المجرد مرادفا للتعليم وللتربية، تماما كما فعلنا بآيات وأحاديث فضل القرآن حيث يتم تنزيلها على الحفظ، وفي هذا حصر لها -كما هو معلوم – في أضيق دوائرها وهو الحفظ، وهنا أريد أن أقول أن حفظة القرآن وقرائه ليسوا هم الأفضل دائما، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (يخرج قوم من أمتي يقرأون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية). رواه مسلم.
ويروي لنا صاحب تاريخ بغداد، عن جندب الأزدي أنه قال: (لما عدنا إلى الخوارج ونحن مع علي بن أبي طالب فانتهينا إلى معسكرهم فإذا لهم دوي كدوي النحل من قراءة القرآن).
فحفظ الخوارج للقرآن وتلاوتهم له لم يمنعهم من تكفير المسلمين وقتلهم، لتفهم أن القضية ليست في حفظ القرآن وتلاوته -وان كان ذلك مطلوبا -بقدر ماهي في فهمه وتدبره والعمل بمقتضاه …» علموهم القرآن والقرآن سيعلمهم كل شيء»، سيكون لهذه العبارة معنى إذا لم يحرف معنى التعليم والتربية بالقرآن إلى الحفظ الجاف، وحين يغدو التنافس في تخريج الصالحين ورواد النهضة ثقافة ومنهجا بدل التنافس في تخريج الحفظة الذين يقيمون الحروف ويضيعون الحدود، فما أجملها من عبارة لو كانت منهجا حقيقيا في التعليم والتربية على القيم الفاضلة والأخلاق السامية، وما أجملها من عبارة لو كان الواقع الحركي يثبت أننا نغوص في معانيها ببروز برامج حقيقية لإنتاج إنسان النهضة والقرآن.
إننا للأسف نستخدم هاته العبارة من حيث شعرنا أو لم نشعر كمخدر، نخدر بها أنفسنا حتى نوهمها بالإنجاز، ونخدر بها الأمة حتى لا تطالبنا بالاجتهاد وإبداع الوسائل والمناهج التي تستنفر طاقات أبنائنا للتفاعل مع القرآن، نمني أنفسنا ونخادعها أننا على ثغر من ثغور الأمة، وأن جيل صلاح الدين نصنعه الآن على أيدينا وأنه سيعود قريبا، لكن سرعان ما سيكتشف الجميع أنها كذبة كبرى، وأن تلك الصورة الحالمة الجميلة التي اجتهدنا كثيرا في إيصالها إلى مخيلات الناس والتي انتظروا تحققها بشغف لا حقيقة لها، ولا وجود لها، بل المزيد من الدمار الأخلاقي، والتشوه الفكري، والتخلف الحضاري، سيكتشف الجميع ولو بعد حين أن من عُقِدَت عليهم الآمال ومن استؤمنوا على شباب الأمة إنما عبثوا بهذا الجيل أيما عبث، وأن الجمل تمخض فولد فأرا!!
إن السبيل الوحيد لتفادي هذه «الصدمة» هو العمل الجاد والتفكير المستمر في إيجاد حلول لمشكلات التعليم القرآني وللعوائق التي تحول دون فاعليته، والاجتهاد في الانفتاح على المتخصصين في الفكر والتربية لإسعافنا بأحدث وأنجع ما توصل إليه العلم في تربية النشء، فإن أبناء المدارس القرآنية والزوايا هم أبناء الأمة جميعا ويجب أن يتعاون الكل في مرافقة هاته النخبة كل حسب تخصصه وخبراته.
إننا لا نهون من شأن حفظ القرآن، ولا ندعو إلى تركه، بل نحذر من مسلك خطير رأيناه، وهو التركيز على الحفظ على حساب الفهم والتدبر والعمل، وهنا تعجبني عبارة قرأتها في كتاب فقه بناء الإنسان في القرآن «ولو بعث فينا عمر الذي مكث في سورة البقرة عشر سنوات لأنكرنا، ولنالنا من درته نصيب كبير»، وعبارة أخرى لا تقل أهمية عنها في موضع آخر «ويالله كيف ننسى أن الاستعمار كان يشجع مراكز الحفظ ويقتل العلماء، إذ لا أثر للنص إذا فرغ من المعنى».
وإن من المسائل المهمة التي ينبغي أن تعرف أن حفظ القرآن ليس بواجب -إذا استثنينا سورة الفاتحة – كما هو مقرر عند فقهائنا، وأن الذي يجب باتفاق الجميع هو العمل بالقرآن، والطاعة للرحمان .. فكيف نترك العمل والاشتغال على ماهو واجب باتفاق، إلى ما هو ليس بواجب باتفاق؟
وإنني أهيب بك أخي معلم القرآن/ أخي المشرف على مدرسة قرآنية ما في زاوية ما من زوايا هذا الوطن الفسيح، يامن ائتمنك الله على هاته الطائفة من شباب الأمة وشاباتها، إنني أهيب بك أن تكون أبعد الناس عن الدعوة والتأصيل لهجران القرآن بالاغراق في تلاوته وحفظه على حساب تدبره وتمثله ، فما الفائدة من تلاوته والحياة منه فارغة، أليس هذا نوعا من الهجران الذي اشتكى منه نبينا صلى اله عليه وسلم {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان 30]، أليس سبحانه هو القائل {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [ص 29]، قال ليدبروا، ولم يقل ليحفظوا، يقول الشيخ العلامة الطاهر بن عاشور في تفسير هاته الآية [وأولو الألباب: أهل العقول، وفيه تعريض بأن الذين لم يتذكروا بالقرآن ليسوا من أهل العقول، وأن التذكر من شأن المسلمين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فهم ممن تدبروا آياته فاستنبطوا من المعاني ما لم يعلموا، ومن قرأه فتذكر به ما كان علمه وتذكر به حقا كان عليه أن يرعاه، والكافرون أعرضوا عن التدبر فلا جرم فاتهم التذكر].
إن المهمة العظيمة التي تنتظرنا هي اكتشاف لبنات الصياغة الأولى التي صنعت إنسان الرسالة، وشيدت تلك الحضارة الإسلامية الباهرة، والسعي الجاد لبعثها من جديد في هذا الجيل لتثمر سلوكا قويما، وفكرا مستنيرا، وفعالية وإعمارا واستخلافا في هذه الأرض..
ولعلي أشير في الختام إلى مسألة الافتتان بالكم، فقد انقدح في أذهان الكثيرين أن كل ما هو كثير وكبير جميل، مع أن الكثرة في القرآن لم ترد غالبا إلا في سياق الذم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، لا يشكرون، لا يعقلون..الخ، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مشكلة المسلمين حين تتكالب عليهم الأمم ليست في القلة وإنما في الكيف 《أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟》، ليأتي الجواب 《أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل 》 يقول د. عبد الكريم بكار «وهكذا فقد انطبع في الحس الإسلامي أن كل ما هو كبير جميل مع أن منطق العصر يتجه نحو القيمة الحقيقية والفاعلية والقدرة على التوظيف الحقيقي للإمكانات …إن وقفة مراجعة مطولة حول هذا الموضوع يجب أن تشغل تفكيرنا لعلنا نعيد الأمور إلى نصابها».
وفي الأخير نقول إن هناك حقائق لا يجب القفز عليها، وهي أن منهجية الإصلاح مجموعة متكاملة من الأنظمة، وكل قصور في نظام سيؤثر حتما في بقية الأنظمة، فحين نطالب بإصلاحات في التعليم القرآني، ونعلق عليه الآمال الكبيرة، ونحمل إخواننا هاته المهمة الخطيرة، فإننا ندرك أننا في وضع جد معقد وأن الأمة تعيش حالة التخلف، فحسب إخواننا أن يجتهدوا قدر المستطاع في إدخال تغييرات على الطريقة الحالية في التعليم القرآني بما يوافق المنهج النبوي وما درج عليه سلف الأمة، وأن يستعينوا بخبرة الخبراء، وحكمة الحكماء، وأن يكونوا أبعد الناس عن العبث بالقرآن والتأصيل للهجران، وأن يراقبوا في مهمتهم الملك الديان، ثم لا عليهم إن كانت النتائج دون ما كان مخططا له، أو كانت ضعيفة، فقد برأت الذمة بتقديم المقدور عليه، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.