في بيوت العلماء: مقابلة مع الدكتورة ندى وهبة الزحيلي
د. حجيبة شيدخ /
وهبة الزحيلي من علماء المسلمين الذين ذاع صيتهم في القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين، ولد رحمه الله في بلدة دير عطية من ريف دمشق عام 1351هـ-1932م في بيت علم لأبوين صالحين، فأتم دراسته الابتدائية في بلدة دير عطية محل مولده وانتقل إلى دمشق في دراسته الثانوية، ثم التحق بالأزهر الشريف بمصر ليحصل بعد ذلك على شهادة العالمية وأُجيز في التدريس من مشيخة الأزهر، وتابع دراسته حتى حصل على الدكتوراه في الحقوق (الشريعة الإسلامية) عام 1963م بمرتبة الشرف الأولى وكان موضوعها ” آثار الحرب في الفقه الإسلامي ” دراسة مقارنة بين المذاهب الثمانية والقانون الدولي العام… لوهبة الزحيلي مؤلفات كثيرة تنوعت مواضيع تخصصها منها: التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج ، والتفسير الوجيز على هامش القرآن العظيم، الفقه الإسلامي وأدلته والفقه الشافعي الميسر، والعلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولي الحديث، وأخلاق المسلم-علاقته بالخالق، والأسرة المسلمة في العالم المعاصر…
زرت بيت الأستاذ رحمه الله مرتين، واستقبلني وزوجته ببيتهما بالميسات في دمشق بكل حب واحترام، في واحدة من المرتين وجدته يستعد للسفر إلى الهند، فقد كان الأستاذ كثير الترحال للمشاركة في التظاهرات العلمية والعمل الدعوي … و كان من دواعي سعادتي تعرفي على ابنته الدكتورة “الطبيبة ” ندى، حدثتني عن والديها “بعد وفاتهما ” وكانت نبرات صوتها حزينة جدا، إذ أحيينا ذكريات العائلة، فوالدتها توفيت من زمن قريب، ولازالت ذكراها تعيش معها ولا تستطيع نسيانها.
ندى وهبة الزحيلي من مواليد “دير عطية ” 21ماي 1963م مسقط رأس والدها …تقول: سبب ولادتي بدير عطية على خلاف إخوتي الذين ولدوا بدمشق، أن والدي ترك والدتي أمانة عند أهله وسافر إلى مصر لمناقشة رسالته للدكتوراه من كلية الحقوق بجامعة عين شمس “أثار الحرب في الفقه الإسلامي” وأخذها بدرجة الشرف الأولى والسماح بتداولها بين الجامعات، بعد رجوعه كانت فرحته بمناقشته وحصوله على الدكتوراه وولادتي كبيرة جدا، كانت سعادته كبيرة بقدومي، لقد كان والدي يحب كثيرا البنات كنت أنا وأختي لنا منزلة خاصة عنده وبخاصة أنا، كنا أصدقاء. كان دائما يصرح بأنني أنا الأفضل عنده ….وكان ذلك يسعدني، بالرغم من أنني أدركت أن ذلك كان من الأخطاء، كنت أشعر دائما بأن أختي تحمل لي أشياء غير مريحة، إلى أن كبرنا وفهمت الحياة ففهمت سر ذلك، إذ كان تصريح والدي بحبه لي وتفضيله السبب في ذلك … ولعل السر في حبه الكبير لي أنني كنت أطيعه وأحبه حبا جما وأبدي له ذلك، وإذا طلبني أترك أي شيء مهما كانت قيمته وأسرع إليه.
ندى امرأة مضحية، تركت وظيفتها كطبيبة أطفال وأغلقت عيادتها مرتين لتتفرغ لخدمة والديها، عاشت حياتها من أجلهما فقد كانت لا تتأخر عنهما مهما كانت الظروف، وبألم وحسرة تصف والدها الذي كانت أقرب أبنائه إليه، بأنه كان فيضا من الحنان والرحمة، وخاصة بها، ومما تذكره من ذكرياتها؛أن والدها كان يطلعها على كتبه بمجرد صدورها وأنها أول من تشاركه فرحة صدور أي كتاب من كتبه، ولما كان الوالد رحمه الله كثير المشاركات في الملتقيات، وكان يحتاج أحيانا إلى الكتابة باللغة الإنجليزية، فقد كانت هي التي تتكفل بذلك، لقد كانت ساعده اليمين. نذرت حياتها لخدمة والدها ووالدتها لسنوات طويلة، وهذه تضحية لا نكاد نجد مثلها في زماننا، تركت ندى المهنة التي كانت تطمح في ممارستها” طب الأطفال”، وتفرغت لمساعدة والديها فكانت طبيبهما الخاص، وفي المرض الأخير لوالدها، وحين عجز الطب عن علاجه، كان يقول لها : ندى لم فشلت هذه المرة في علاجي، لقد كنت دائما طبيبي؟
تقول: كان أهل زوجي يعاتبونني على طاعتي لوالدي، ويقولون لي طاعتك لزوجك أولى، كنت أتركه لوقت طويل استأذن زوجي وأذهب لوالدي، فكان يقول لي: اخدمي والدك فهو شخص غير عادي ويستحق ذلك، ولم يعترض أبدا أو يقترح أن يقوم أحد من إخوتي بخدمة الوالد بدلا عني أو التناوب في ذلك، ربما لأن والدتي كانت من أقاربه أو لأنه يحترم والدي احتراما كبيرا. كنت دائما أسمع من حولي يعاتبونني على خدمتي لأهلي، وكنت أتمنى أن يعترض زوجي على ذهابي إليهم، لكنه كان حريصا على مشاركتي ثواب خدمتهم.
والدي كان عصاميا في حياته، بالرغم من أن والده كان ميسورا ماديا فقد طلب منه والدي أن يتركه يدبر أموره ويهتم هو بباقي إخوته، كان يعتمد على راتبه فقط بالجامعة بعد ما رجع من مصر وأخذنا إلى الشام ..أول ما سكنا بدمشق أجرنا بيتا بمنطقة اسمها شارع العابد بقينا فيها إلى غاية عمر السادسة. المنطقة التي سكنا فيها أو الشارع الفرعي، كل الشارع كان يقطنه نساء مسيحيات على المذهب الكاثوليكي كبيرات في السن مهجورات من أزواجهن وأولادهن كانت والدتي تستضيفهم في بيتنا ليتسلوا معنا، كنا نشفق عليهن لأنهن مهجورات (هؤلاء من ضحايا دعاة النسوية وهذه هي نتائج ما يدعون إليه)…بعد سن السادسة أصبحت حالنا ميسورة واشترينا بيتنا بالميسات، كان والدي حينها يدرس بكليتي الشريعة والحقوق.
سألتها عن مسارهم العلمي داخل الأسرة ومنهج الوالد في التربية ؟
تقول: حرص والدي رحمه الله على تعليمنا، ولكن اشترط بالنسبة لي ولأختي أن ندرس تخصصا ليس فيه اختلاط، أنا كنت أحب الرياضيات كثيرا، لكن والدي أرشدني إلى تعلم الطب، وتخصصت فيما بعد في طب الأطفال، أما أختي فقد كانت تخصص صيدلة. وأكبر إخوتي طبيب أيضا، أما أخي الصغير فيشغل منصب أستاذ جامعي تخصص هندسة كمبيوتر.
أنا وتأتي بعدي أختي هدى ثم أخي عبادة وأخيرا أخي أسامة كنا متقاربين في السن أنجبتنا الوالدة في سنين متتابعة بين سنتي “63—65 – 66 – 67.”
كان والدي يجتمع بنا يوميا بعد صلاة العصر ويلقي علينا دروسا تربوية يعلمنا القرآن والأحاديث النبوية، واستمرت هذه الحال لسنوات طويلة…
كما كان يعلمنا تطبيقيا الوضوء والصلاة والأدعية التي نتعبد بها، وكل ما يعلمه لنا يرفقه بأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم –. كان حريصا على اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، هي بالنسبة له خط أحمر لا يسمح تجاوزه … وكان يحرص على النوافل، ويدعونا إلى ذلك، فحين أكون في بيتنا إذا قصّرت في سنة الصلاة قبل الظهر يعاتبني على ذلك، كان يتفقدنا جميعا ويراقب تصرفاتنا، وقت الصلاة يخرج من مكتبه ويسألنا واحدا واحدا على الصلاة ولا يطمئن إلا بعد تأكده أننا أديناها، كان حريصا على ذلك وبخاصة صلاة الفجر إذا لم نصل أمامه لا يدخل مكتبه إلا بعد التأكد من أدائها.
يرى والدي أن التربية منذ الصغر تحفظ الإنسان، تغرس فيه الوازع الديني الذي يحميه
طول الحياة، حتى إذا تاه الإنسان سرعان ما يرجع.
-ممكن الحديث عن علاقته بالوالدة ؟
كانت والدتي تحترم والدي احتراما كبيرا، حين أصبح يسافر للتدريس بالخارج كانت هي القائمة على شؤون البيت كلها، أتى لعرسي قبل الموعد بيوم واحد، أما عرس أختي فلم يكن حاضرا، كان متفرغا للعلم وكانت الوالدة امرأة قوية وتنوب عنه بثبات في رعايتنا، كان التعامل بين والديّ راقيا جدا، وإخوتي أخذوا ذلك من والدي، لقد كان قدوة حسنة لنا في الصدق والإخلاص والاحترام بينهما، وكل ذلك ساعدنا على التنشئة السوية و أثر كثيرا في مسار حياتنا.
أشرف علينا الوالد وأنشأنا تنشئة دينية، أصغر إخوتي لم ينل ما أخذناه نحن الأوائل، أنا التي قمت على تربيته، حين رحلنا إلى ليبيا مرضت والدتي ودخلت المشفى، فقال لي الوالد : يا ندى نحن بالغربة وليس لدينا أقارب، أعرف أنك صغيرة ولكن يجب أن نتعاون أنا وأنت على تربيته، كنا بمدينة بنغازي سنة 71، 72 ظلت الوالدة بالمشفى حوالي ثلاثة أشهر بعدما خرجت تعودت على تحملي المسؤولية و أصبحت يدها اليمنى لا تعمل أي عمل تقريبا بدوني. كنت أساعد الوالدة بالبيت وأساعدها في تدريس إخوتي الأصغر مني.. وبخاصة أصغر واحد إذ بقي يعتمد علي إلى درجة كبيرة.
كان بيتنا بيت دراسة كنا دائما الأوائل على الصف، ماعدا أصغر إخوتي كان مدللا لكنه في نهاية المطاف تفوق أيضا.
بيتنا كان يحيا بالعلم، أصبحنا مدمنين على القراءة. ونحن صغار كان يتدرج في إعطائنا ما نقرأه فيعطينا كتبا للصحابة وهي من تأليفه مثل كتب: سعيد بن المسيب عمر بن عبد العزيز أسامة بن زيد … ثم يرشدنا شيئا فشيئا إلى الأصعب…
كانت كتب والدي متنوعة ومكتبته ضخمة، قبل وفاته أعطاني جزءا من صحيح البخاري لقراءته، وكان حريصا جدا على كتبه حتى معنا، وإذا أعير منه كتاب يضعه في ظرف ثم في كيس ولا يحب أن يرى أوراقه مطوية، ولا يسلم الكتاب إلا لمن يتأكد من احترامه له، أذكر حين أعطاني هذا الكتاب وكان على فراش المرض كانت يداه ترتجفان وقام بصعوبة كبيرة لتسليمه لي بنفسه.
ولكن فيما بعد تبرع بكتبه كلها للمدرسة الثانوية الشرعية التي أنشأها “بدير عطية” مسقط رأسه، وبنى بها مسجدا كذلك.
جو التأليف والقراءة والمستوى الراقي في التعامل بين الزوجين جو مساعد كثيرا على النبوغ والتفوق. إلا أنه كانت هناك بعض الأشياء في بعض الأحيان تقطع علينا هذا الجو، فكان بيتنا مفتوحا لأهل أبي، كان والدي كريما جدا يسعد بالضيوف ويسعدهم وكانت الوالدة ترحب بأي طارق يطرق بيتنا…وكانت دراستنا في المجال الطبي تحتاج إلى المثابرة كثيرا، فكان ذلك يؤثر على جونا العلمي، أيام وجود والدي كان بيتنا في استقبال دائم للضيوف وللذين يستفتونه، وكان لا يرد أحدا إلى درجة أنه يكاد يفقد صوته وتوازنه الصحي من التعب في بعض الأحيان …
كانت حياتنا مع الوالد سعيدة، كان محبا للجميع، لا يتكل علينا كثيرا، فكان مثلا: يكوي ثيابه ويخدم نفسه في أمور كثيرة، كان أبا محبا مربيا في لين ولطف، كان رحمه الله فيضا من الحنان، وتذكر أنها مرة اشتكت له أنها تريد الحج ولكن زوجها لم يحقق لها ذلك، وإذا به بعد أيام يأتيها بتأشيرة الذهاب إلى الحج ويرافقها لأداء مناسكه، كان لا يتأخر عن تلبية طلباتها.
في البيت كان والدي يخلو بنفسه في مكتبه، من الرابعة صباحا إلى الثامنة مساء.لا يخرج إلا حين يذهب إلى الجامعة..ولا يسمح لنا أبدا بقطع خلوته بالكتب. وكنت أرى في ذلك مشقة كبيرة واستمر هذا إلى آخر عمره كان بصره قويا، ولم ينقطع عن القراءة إلى غاية مرضه الأخير.
توفي الأستاذ وهبة الزحيلي سنة 2015م…وبقيت ندى تخدم والدتها التي مرضت بعد وفاة زوجها إلى غاية وفاتها، رحمهما الله وأسكنهما فسيح الجنان، ورزق ندى جميل الصبر والسلوان على فراقهما.