شعاع

إلى متى؟/ حسن خليفة

لستُ أدري ـ بالضبط ـ كيف يمكن البدء في الحديث عن موضوع العلم؟ وأدواره في حياتنا أفرادا ومجتمعات ودولا ومنظمات؟ ولا أدري بأي أسلوب يمكن أن تصل الفكرة الجوهرية في هذا الموضوع، أي أهمية في “تقدير العلم” والعلماء والباحثين اللامعين وأصحاب العقول والمفكرين، وقبل كل ذلك أن نمتلك الرؤية التي تسمح لنا بأن نؤمن إيمانا يقينيا أن العلم هو الأسلوب الأمثل لتحقيق ما ينبغي من أهداف في حياتنا العامة والخاصة.

دعنا ندخل من هذا المدخل الذي سطره قلم أحد الكتاب المهتمين بمسائل فقه التغيير والتنمية في كتيب صغير له عنوانه “الأدنى الأمثل” (دار ابن حزم ـ بيروت)؛ حيث يروي عن أحد القيادات الفلسطينية قائلا:

” في أوائل سنة 1970م أنجز مركز التخطيط الفلسطيني،…أصدر هذا المركز  كتيبا بعنوان “الخطة الإستراتيجية الشاملة للثورة الفلسطينية” بجهد متظافر شارك فيه العشرات من الخبراء والباحثين والمفكرين والسياسيين، وطبع المركز هذه الخطة بنسخ محدودة، وأرسلها بالسرّية التامة إلى القيادة الفلسطينية في عمّان (الأردن)…ولمّا لم يتصل به أحد لمناقشته في تفصيلات الخطة سافر (ذلك المثقف المهموم بالقضية) إلى عمان لاستكشاف الأمر، وهناك اكتشف ما لم يكن يخطر على باله قطّ. لقد وجدَ نسخة من الخطة (السرية جدا) مركونة في مقرّ القيادة، وعلى غلافها بُقع من بقايا السكر والشاي، فتسمّر في مكانه دهشة وحسرة، ثم عاد راجعا إلى بيروت وهو في حيرة واضطراب…كيف تحوّل الجهد المتظافر والعمل المتواصل لمجموعة مميزة من الباحثين الجادين..تحول إلى “صينية” للشاي والقهوة، ومع أن الصفحة الأولى من الخطة، ويا للغرابة، ممهورة بعبارة “سري”.” ثم يعقّب صاحب كتيب “الأدنى الأمثل” بقوله:

“هذا الوضع..أو هذه الوضعية هي التي تفسّر ـ بعد ذلك ـ مسلسل التنازلات السخية التي انتهت بالقضية الفلسطينية إلى وضعها المركّب الحالي؛ بإهمالها وازدرائها لجهود النخبة ممن بذلوا جهودا ضخمة وشاقة، مستفيدة من العلوم والمعارف المختلفة، وقدمتها لقيادتها للعمل بها أو على الأقل للاستئناس بها، فانتهت إلى طاولة الشاي والسكر والقهوة.

وتعجب الكاتب ونتعجب معه: كيف يوجد بعد ذلك من يدافع عن تصرّفات الذين يضعون فناجين القهوة على أوراق الخطط الإستراتيجية؟.

ربما يمكن سحب هذا المثل الصارخ على أجزاء كثيرة من حياتنا في مجالات عدة مختلفة ومتنوعة، ونحاول التساؤل: كيف نتعامل مع قيم مثل التخطيط والتفكير والتنظيم والإستراتيجية؟ وكيف نتعامل مع العلم بكل ما تعنيه معاني العلم؟ وكيف نتعامل مع جهود الباحثين والمفكرين والمثقفين (الجادين منهم خاصة) الذين يبذلون قصارى جهودهم ويقدمون عصارات فكرهم وفهمهم وخبراتهم للجهات المختصة  المختلفة..ثم كيف تجد تلك الجهود والخلاصات طريقها إلى صناديق الإهمال وقبور الأدراج والخزائن، حيث تموت هناك. ولو جُمعت وفُعّلت ونُظر إليها بما يجب النظر به إلى الجهد العلمي ـ في أي مجال كان ـ لكانت حالنا غير حالنا.

يمكن لنا أن نتساءل بجرأة: أليس هناك ـ في وطننا، مثلا ـ عشرات الخطط الجادة، التي تحمل مقترحات وبرامج عملية، في المجالات المختلفة: الصحة، الثقافة، التعليم، الفلاحة والزراعة، البحث العلمي، التفوق والتميز، التأهيل والتدريب، الاستشراف والتخطيط، الاقتصاد والتنمية، وصولا إلى السياحة والرياضة وكل ميادين الحياة والنشاط؟

الجواب: يقينا هناك الكثير …الكثير من الخطط والمقترحات والبرامج التي بُذلت فيها الجهود العقلية والفكرية، وبُذلت فيها الأوقات واجتهد فيها المجتهدون والمجتهدات وقدموا أحسن الخلاصات وأهم الأفكار…للجهات المختلفة؟ لكن أين هي؟ لمَ  نراوح في مكان واحد، إن لم نكن نتأخر ـ بالفعل ـ حيث لا يمكن للإنسان أن يبقى مكانه فإن لم يتقدم سيتأخر حتما. وحيث نستطيع البرهان على ذلك يمكن النظر إلى بلدان كثيرة أخرى كانت مثلنا وربما أقلّ منا شأنا في مكانتها واقتصادها ونموّها، ولكن بلغت مبالغ الرقيّ والسمو والصعود؛ حيث أخذت هذا الأمر مأخذ الجدّ، وأشركت النخب العلمية المتمكنة الجادة، واستفادت مما قدمته وطبقته فحققت النتائج الباهرة في تقدمها وتطوّرها وتحقيق أهداف إقلاعها.

ثمة حلقة مفقودة يجب أن نسعى لاكتشافها وتفعيلها وإعادة الأمور إلى الصواب والقصد.

الحديث في هذا الموضوع ذو شؤون وشجون وتشعّبات وأحزان وآلام، فكثيرا ما سمعنا قصصا مبكية لجهود بذلها باحثون متميزون وقدّموها لدعم حركة النهوض الحضاري في بلدانهم، في العالم العربي عامة، وفي وطننا خاصة، ولكن…وكم سمعنا وقرأنا عن اختراعات وبراءات واستكشافات، سعى أصحابها كل السعي لتبنيها واعتمادها فلم يجدوا غير الازدراء والاستهزاء والإهمال، فآثروا تنفيذها ـ وهم محقّون ـ في بلدان أخرى تعرف كيف”تستفيد “من العبقريات الإنسانية.

ثم ..يمكن لنا أن نتساءل: على الرغم من الضعف الذي تصطبغ به منظومتنا في مجال البحث العلمي عامة…أليس في آلاف رسائل الدكتوراه، في مجال العلوم المختلفة، ما يمكن أن يكون حاملا لمشاريع انطلاق ونهضة وإقلاع وتقدّم وتميّز؟..أليس فيها ما يمكن أن يمثل فكرا إبداعيا جديدا ومميزا في هذا المجال أو ذلك؟ هل لدينا آليات لمتابعة تلك الأعمال وغربلتها والاستفادة ـ بشكل عملي وعلمي ـ منها في الحدّ الأدنى؟.

إن المعلوم عند الجميع أن الكثير من المشاريع الكبيرة تستورد لها الخبرات والخُبراء والاستشارات والمستشارون بمقابل مادي مالي كبير، فيما توجد خبرات واستشارات لأبناء الوطن إما في كثير من أدراج المكتبات الجامعية أو المخابر أو مراكز البحث، أو في رؤوس أصحابها من ذوي العلم والخبرة والابتكار والأصالة…

متى نستيقظ؟ متى نخرج من هذه الدائرة المهلكة القاتلة المضيّعة الرهيبة من قلة التقدير وقلة الوعي وقلة الاهتمام؟

 

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com