البيوتات العالمة بالجزائر 2- المشذاليون البجائيون
د. عبدالقادر بوعقادة */
تتجلى ظاهرة الأسر العالمة في بلاد المغرب الأوسط «الجزائر» بوضوح عند تصفحنا كتب المصادر ووثائق التاريخ، حيث تميزت كل حاضرة من حواضر البلاد بأسر توارثت العلوم، ومن تلك الحواضر مدينة بجاية التي عرفت بالعديد من الأسر العالمة كالغبرينين والمنجلاتيين والمشذاليين وغيرهم من الأسر ذات الشأن العلمي. وسنحاول تقديم أنموذج المشذّاليين كبيت علم له نفوذه على الفتوى بالمغرب الأوسط حين تصدّر هذا البيت فقهاء بلغوا درجة الاجتهاد، وتركوا آثارهم على مستوى المجتمع والسلطة، ممّا يعني غناء ماضينا بتراث فقهي وعلمي وجب إعادة بعثه.
لعل أول زعيم لهذا البيت هو أبو علي ناصر الدين منصور بن أحمد بن عبد الحق المشذّالي( ت 731هـ/1331م) الذي حلاّه الفقيه ابن مرزوق الجد بقوله: « وصل شيخنا أبو علي درجة الاجتهاد». وتفيد كتب التراجم بتميّز هذا الفقيه بتحصيله للأصلين على طريقتي القدامى والمتأخرين، وأنّه كان يجمع بين معرفة الفقه والأصول والأحكام والجدل، مثلما كانت له مشاركة في علم المنطق والعربية، وله اطلاع على مذاهب الأئمة خصوصا المالكي الذي انفرد بمعرفته والقيام بتفسيره و نصرته. وكان – مع الحفظ- يحرّر و يقرر ويمهّد ويرجّح ويختار بين الأقوال، كما اشتهر بذهنه القوي وبراعة استنباطه للأحكام، مع ثقوب في الفهم. ارتحل أبو علي إلى المشرق مع أبيه صغيرًا، وأقام بالشام ومصر، ودامت إقامته هناك نيفًا وعشرين عامًا، لزم فيها العز بن عبد السلام(ت.660ه) الفقيه الشافعي صاحب البراهين وانتفع به كثيرا ، كما سمع من شيوخ عصره وعلى رأسهم ابن المسفر وابن دقيق العيد. وأدرك تلاميذ ابن الحاجب (ت 646ه)، كما قرأ مع القرافي شهاب الدين في مجلس واحد، وحذق في العقليات والنقليات، ثمّ رجع بعدها إلى بجاية. ويمكن اعتبار ناصر الدين من الركائز التي قامت عليها المدرسة المالكية ببجاية والمغرب الأوسط التي تميل إلى الاجتهاد والتحرر. وكان له الأثر الفقهي البالغ من خلال إدخاله لمصنف ابن الحاجب. وامتدت آثار ناصر الدين إلى جميع حواضر المغرب. وفي هذا تشير المصادر إلى طريقته في التعليم والتلقين التي كانت تقوم على طرح أسئلة على الطلبة لاختبار معلوماتهم، مع إثارة حب الاطلاع، وقد ذكر التجيبي – الذي كان يحضر درسه- بأنّه كان يعلّم طلبته طرق البحث ومآخذ الخلاف، فيورد عليهم الأسئلة ويأمرهم بالجواب.. متبعا في منهجه الطريقة الرّازية في تحقيق المقولات وتفسير الفتوى وهي طريقة الفقهاء المتأخرين ببجاية والمغرب الأوسط.
ورثه في العلم والنبوغ صهره الفقيه عمران بن موسى المشذالي «أبو موسى» المولود سنة 670 هـ/1272م، المحلّى بالإمام الفقيه المحصل الأصولي البجائي الأصل، جعله ابن خلدون من كبار الفقهاء العاملين الذين اشتهروا بالزهد والولاية. ومعلوم أنّه فَرَّ من بجاية زمن الحصار إلى الجزائر، فقربه السلطان أبو تاشفين الزياني واستدعاه إلى تلمسان، فتولى هناك تدريس الحديث والفقه والأصلين، بالإضافة إلى النحو و المنطق و الجدل و الفرائض، وبواسطته انتقل المنهج الرازي من بجاية الى تلمسان. وبالنظر إلى قيمته العلمية وشهرته الواسعة أراد السلطان أبو الحسن المريني أن يستخلصه ويجعله من علماء حضرته، لكن الوفاة أدركت العالم أبا موسى عمران سنة745هـ/1345م. ولعل هذا الحرص من السلاطين (أبوتاشفين الزياني، وأبو الحسن المريني) ممّا يفسّر طبيعة الصّلات التي كانت بين العلماء والسلاطين، ومدى تأثير العلماء في السلاطين، حينما عملوا على تقريبهم و إجراء الجرايات عليهم، و في المقابل كان العلماء يضفون نوعا من الشرعية على أعمال هؤلاء، وتسهيل مهمتهم وترشيد سلوكهم في تسيير شؤون الرعية، باعتبارهم (الفقهاء) وسائط فاعلة في التواصل الاجتماعي بالنسبة للحكام.
وتحدّث المصادر عن عالم مشذاليّ بارز ترك آثارًا جمّة، وهو محمد بن أبي القاسم (ت. 866هـ/1462م)، والذي تقلّد خطابة الجامع الأعظم، وصار المفتي ببجاية في زمانه. وقد برزت قيمته العلمية والاجتماعية، حتى صار مضرب المثل في مجتمعه فيقال: «أتريد أنّ تكون مثل أبي عبد الله المشدالي». يعتبر هذا العلامة سليل بيت كان زعيمه والده أبا القاسم بن محمد بن عبد الصمد، إذ التقيا – الابن والوالد – في مشيخة واحدة، مثلما أخذ الابن عن الوالد. و تخرّج عليه أبناؤه و ثُلّة من الأئمة في بجاية وتونس أمثال البرزلي صاحب النوازل . كما برز تأثير محمد بن أبي القاسم فيما خلّفه على مستوى التصنيف، إذ عمل على تكميل تعليق الوانوغي على البرادعي، واستدرك ما صرح به ابن عرفة في مختصره بعدم وجوده، وتتبع ما في البيان والتحصيل فرتّبه على مسائل ابن الحاجب.. وقد بلغ تأثير مدرسته حواضر المغرب الوسط، فأخذ عنه علماء أمثال ابن الشاط وابن مرزوق الحفيد ، كما أشارت المصادر إلى أخ شقيق لمحمد بن أبي القاسم فوصفته بالفقيه من آل المشذّاليين.
وممن نبغ من المشذّاليين محمد بن محمد بن أبي القاسم الذي اشتغل بأنواع العلوم النقلية والعقلية، واعتبر أحد أذكياء العالم وأعجوبة الزمان في الحفظ والذكاء والفهم . برزت قيمته العلمية في بلده ببجاية، وخارج بلده حينما رحل إلى مصر، حيث قرأ بها الفقه والأصول والكلام والنحو، كما رحل سنة 840هـ/1437م إلى تلمسان للقاء مشيخة الحاضرة أمثال ابن مرزوق الحفيد وقاسم العقباني وأبي الفضل بن الإمام. وقد كان يحضر حلقة ابن مرزوق فتعجب هذا الأخير لفطنته وذكائه وحسن أدائه. ولعل هذه الإشارة تأتي كدلالة على تطور المدرسة البجائية في مجال التعليم وطريقة تلقي العلوم حيث أشار السخاوي إلى أحد معالمها حينما تحدث عن محمد بن محمد بن أبي قاسم المشذالي البجائي وأنّ بعض الطلبة قالوا له:» تنزل لنا في العبارة فإناّ لا نفهم جميع ما تقول»، ممّا يعني أن الحلقة كانت تضم طلبة من مدرسة بجاية وطلبة من مدارس أخرى، وقد كان رد المشذالي قوله:» دعوني أرقيكم إليَّ ولا تنزلوني إليكم». وإنّ الاطلاع على سير فقهاء بلادنا يزيد القارئ شرفا ويكسبه ثقة ويدفعه إلى الاقتداء بقامات تحمل من المعارف ما يمكن أن تصير أرضية صلبة تتأسس عليها شخصية أجيال قوية ومتميزة لتنطلق منها نحو بناء حاضر فاعل وغد زاهر.
* جامعة البليدة 2