من تراثنا

الشيخ باعزيز بن عمر وأفكاره التربوية

أ.د. مولود عويمر/

في هذا الأسبوع وقع في يدي مقال مغمور يصف فيه صاحبه وضع التربية والتعليم في الجزائر غداة الاستقلال ويرسم لوحة عن المناهج التي كانت مقرّرة على المعلمين والتلاميذ الجزائريين. وكانت جلّها مستوردة من العالم العربي خاصة من مصر ولبنان، بعيدة عن الواقع الثقافي والاجتماعي الجزائري. وقد تنبه إلى هذا الخلل بعض العلماء الجزائريين وبادروا بتأليف كتب مدرسية تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الوطنية. وكان منهم الشيخ باعزيز بن عمر (1906-1977) الذي ألف كتابا مدرسيا في 4 أجزاء موجها إلى تلاميذ الابتدائي والثانوي.

باعزيز بن عمر خبير في الشؤون التربوية
باشر باعزيز بن عمر مبكرا التعليم في مدينة الجزائر، وساهم في تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وصار واحدا من كتابها الكبار ومفكريها المعروفين. كانت له خبرة كبيرة في ميدان التربية والتعليم الذي كان الشغل الشاغل لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. فكان معلما في مدرسة الشبيبة الاسلامية في أعالي القصبة ثمّ مدرسا في مدرسة الاقبال في الأبيار. وكتب مقالات كثيرة في جريدة «البصائر» حول التربية والطرق العصرية للتعليم، فقد كتب مبكرا في مجلة «الشهاب» عن إصلاح التعليم (1935)، وترتيب وتنظيم الامتحانات ومنح الشهادات. ودافع عن أهميّة الفنون العصرية ونادى بضرورة إدخالها في المناهج الدراسية لتقوية ملكات التلاميذ ورعاية المواهب.
وانتقد أساليب تدريس اللغة العربية في المدارس الحرّة والزوايا، وكذلك في المدارس الفرنسية. وقد استفادت جمعية العلماء من تجاربه وخبرته التي عبّر عنها في مقالاته في جريدة «البصائر» وفي تقاريره التي كان يقدمها إلى الاجتماع العام لجمعية العلماء أو إلى مؤتمر المعلمين الأحرار.
ولكلّ هذه الاعتبارات عينته جمعية العلماء عضوا في لجنة التعليم العليا. وبعد استعادة الاستقلال، واصل اهتمامه بالتعليم والتربية، وعين عضوا في اللجنة الجزائرية لليونسكو، ومحررا في مجلتها «لمحات». وكان من أبرز مقالاته في هذه المجلة مقاله النفيس حول» دور التربية في التقريب بين القرية والمدينة»، ومقاله: «ابن باديس المربي الكبير».
غير أنّ أهمّ ما تركه في مجال التربية والتعليم هو كتاب»دروس الأخلاق والتربية» في 4 أجزاء، الذي -رغم أهميته ورواجه – لم ينل حظه من التعريف والعرض والنقد إلاّ إشارات خفيفة سجّلها كلّ من الشيخين محمد الصالح الصديق، ومحمد الحسن فضلاء في بعض مؤلفاتهم.

تقريظ الأستاذ بونار لكتاب «دروس الأخلاق والتربية»
ومن حسن الحظ، عثرت مؤخرا على تقريظ كتبه الأستاذ رابح بونار (1923-1974) لكتاب «دروس الأخلاق والتربية» في جريدة «النصر» الصادرة في قسنطينة. ونظرا لأهميته أعدت نشره هنا خاصة وأن آثار الشيخ بونار لم تطبع رغم الجهود الجبارة التي بذلها ابنه البار الأستاذ مصطفى بونار الذي جمع تراث والده واتصالاته العديدة بالوزارات والمؤسسات العلمية والثقافية المعنية. وهذا النص المنشور هنا لم تضمه مجموعة الأستاذ مصطفى بونار الذي سلمت له نسخة منه.
ويبيّن هذا النص وضع التعليم العربي في الجزائر غداة الاستقلال، من نقص للمعلمين وقلّة الكتب المدرسية التي تهتم بالشخصية الجزائرية وتحافظ على الخصوصيات الثقافية الوطنية. وقد بقي هذا الخلل لفترة طويلة حتى تخلصت من هذا المشكل البيداغوجي بفضل جهود الشيخ عبد الرحمن شيبان عندما كان مفتشا عاما في وزارة التربية وأشرف على إصدار مجموعة من الكتب المدرسية التي اعتنت بالخصوصيات الثقافية الجزائرية والتعريف بالأدباء والعلماء الجزائريين، مع الحفاظ على جسور التواصل الفكري والحضاري مع الوطن العربي.
وإليك الآن أيها القارئ مقال الأستاذ رابح بونار: «إنّ حركة التعليم في مدارسنا هي في تحسن مستمر منذ الاستقلال إلى الآن وفي تطوّر ملحوظ في الكيف والكم، ولا ينقص هذا التقدم إلاّ قلّة الكتب المدرسية التي تساعد المعلم على النجاح في مهمته التعليمية التربوية، وهذا ما شعر به جميع المعلمين في مرحلة التعليم الابتدائي أو في مرحلة التعليم الثانوي. وإذا نظرنا إلى القسم العربي خاصة وجدنا قلّة كتبه جلية، ووجدنا هذه القلّة من الكتب المدرسية مستوردة من البلدان العربية ومواضيعها لا تتفق غالبا وبرنامج وزارة المتربية؛ لأنّ هذه الكتب قد ألفت لــغيــــر المدرسة الجزائرية، وطبعت بطابع محلي مناسب لبيئة المؤلف وبلاده. ومن أجل هذا كانت حاجتنا إلى إنتاج مدرسي جزائري يسدّ الفراغ المحسوس فى هذا المجال ضرورة لازمة، وكان التقاعس عن تلبية رغبتها، مجلبة للوم ومدعاة للمذمة والمزراية.
وقد شعر بعض معلمونا القدماء بهذا العبء الواجب فانبرى جماعة منهم لتأليف كتب مدرسية وساهم كلّ واحد منهم في مجال محدود، بما وسعته طاقته وسمحت به أشغاله، ومن هؤلاء المعلمين المشكورين صديقنا الأستاذ باعزيز بن عمر الذي أصدر سلسلة كتب تربوية أخلاقية تحت عنوان: «دروس الأخلاق والتربية الوطنية»، والسلسلة صدرت في أربعة أجزاء، ثلاثة منها لمرحلة التعليم الابتدائي خاصة، والجزء الرابع منها أعده للسنة الأخيرة من مرحلة التعليم الابتدائي والمرحلة الأولى من التعليم الثانوي.
وقد طبع الكتاب طبعته الأولى منذ سنوات في جزء واحد ونال ما يستحقه من رواج وتشجيع، ولما نفذت طبعته الأولى، وردت على المؤلف رغبات ملحة لإعادة طبعه في ثوب جديد وفي أجزاء يخصص كلّ سنة بسنة معيّنة فعزم على ذلك ونقّح الكتاب، وأضاف إليه أبوابا وموضوعات كثيرة يتطلبها برنامج مرحلتي التعليم الابتدائي والأول الثانوي واعتنى بأسلوبه فبسّطه، وحذف منه الألفاظ التجريدية التي لا تناسب مستويات التعليم الابتدائي والأول الثانوي، واستعاض عن الأسلوب التقريري الذي برز في الكتاب في الطبعة الأولى بالأسلوب القصصي السهل، الذي يناسب سيكولوجية الأطفال، ويبعث الشوق في نفوسهم لمطالعته. وقد صدر الكتاب في أربعة أجزاء طبعت بلبنان، طبعا أنيقا يمتاز بحروفه الجميلة، وبصوره الملونة الخلابة والأجزاء تتدرج بالتلميذ في مستوياته المختلفة وترافقه إلى المرحلة الأولى من تعليمه الثانوي.
ولا شك أنّ الموضوع الذي طرقته السلسلة وهو الأخلاق والتربية هو من أجلّ الموضوعات التي ينبغي أن تعنى بها مدارسنا الابتدائية والثانوية وأن توليها أكبر عنايتها الآن إزاء عنايتها بالموضوعات الأخرى اللغوية والعلميّة ذلك لأنّ وضعيتنا الأخلاقية المتدهورة تجعل العناية بهذا الموضوع وبكلّ ما ألف فيه جديرة بالاهتمام، وقد لاحظت وزارتنا هذه الناحية وأولتها ما تستحقه من عناية بتوسيع حصة مادة التربية الدينية والأخلاقية منذ سنتين.
ويجدر بإخواننا المعلمين أن يستقبلوا هذه السلسلة بالتشجيع والتأييد، كما يجدر بالمصالح التربوية التابعة لوزارة التربية الوطنية أن ترحب بهذه السلسلة التي لا يسد غيرها من الكتب الآن مسدّها، وأن توافق على تقرير تدريسها بالمدارس الابتدائية والثانوية وهي بهذا التقرير تشجع الإنتاج الجزائري المحلي وتزيل ما ألصقه بها كثير من إخواننا المعلمين من وصمة التزهيد في الانتاج المحلي وتثبيط عزائم مؤلفيه الثقافي المدرسي لأسباب لا داعي لذكرها هنا.
وأخيرا، فماذا أقول في كتاب صديقنا الأستاذ باعزيز من وجهة علم النفس التربوى أنني تصفحت أجزاءه الأربعة وحاولت أن أبحث فيه عن الشروط الأربعة للكتاب الجيد كما يراها بعض المربين فوجدتها متوفرة فيه إلاّ بعض هفوات لا تنقص من أهميته وقيمته، وهذه الشروط هي: (1) أن يكون الكتاب المدرسي مناسبا لدرجة ثقافة الصف الذي خصص له. (2) وأن تعرض فيه مواده الأساسية بوضوح وإتقان. (3) وأن يكون إخراجه إخراجا متقنا ملاحظا فيه شروط الطباعة العصرية. (4) وأن يكون أسلوبه سهلا واضحا وصحيحا خاليا من الأخطاء.
وقد توفر جلّ هذه الشروط في الكتاب والهفوات الخفيفة التي نقصته لا تضر من قيمته الفنية، ومن هذه الهفوات التي لاحظتها فى جزئيه الأولين تطويل خلاصات الدروس فيهما ومستوى التلاميذ في هاتين السنتين يتطلب أن تكون خلاصات دروسه مركزة في سطرين أو أقل ليسهل بذلك حفظها ويتأتى تناولها.
ولعلّ المؤلف سيأخذ بنظر الاعتبار هذه الملاحظة في طبعته المقبلة إن شاء الله.
ولا يسعنا أخيرا إلاّ أن نقدم شكرنا الكثير لصديقنا الأستاذ باعزيز بن عمر على هذا المجهود الكبير الذي ساعد به المدرسة الجزائرية الجديدة ومعلميها ومعلماتها على أداء واجبهم التربوى أداء كاملا».

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com