لبنة قوية في مسار متنامي ذكرى تأسيس الحكومة المؤقتة 19 سبتمبر 1958

د.مراد قمومية */
هي حكومة جزائرية مؤقتة أعلن عن تشكيلها رسميا في القاهرة في 19 سبتمبر 1958، جاءت تنفيذا لقرارات المجلس الوطني للثورة الجزائرية في اجتماعه المنعقد بالقاهرة ( 22 إلى 28 أغسطس 1958)، والذي كلف فيه لجنة التنسيق والتنفيذ بالإعلان عن تأسيس “حكومة مؤقتة”، استكمالا لمؤسسات الثورة وإعادة بناء الدولة الجزائرية الحديثة.
السياق التاريخي لمحطات كبرى
– اندلاع الثورة التحريرية (01 نوفمبر 1954) أعطى الأمل الأكبر للناس في إمكانية تحرير البلاد من المستعمر، فهم يشاهدون عمليا في الواقع المعيش مقاومة مستميتة تبذل النفوس في سبيل التحرير، بينما كان قبل بضع سنين مجرد الحديث عن الاستقلال جريمة كبرى أو خيانة عظمى.
– وجاءت هجومات الشمال القسنطيني (20 أوت 1955) فكسرت الفكرة السائدة ضمن الذاكرة الجمعية أن الجيش الفرنسي قوة لا تقهر، لقد كانت الهجومات في القوة والتخطيط البارع وتغيير الذهنيات لمن اطلع وعرف تفاصيلها شبيهة بهجوم طوفان الأقصى اليوم، غير أن الإعلام لم يكن يومها متطورا لنقل تفاصيل أحداثها حية مشاهدة، كما منحت المجاهدين الأمل والحماسة والاندفاع لتخطيط العمليات الهجومية، وفكت الحصار المادي عن أقوام والحصار الذهني عن آخرين.
– وجاء مؤتمر الصومام (20 أوت 1956) لبنة كبيرة أخرى تجمع الصفوف وتنسق العمل تحت قيادة واحدة ونظام مشترك يعم الجميع، لقد تم به هندسة الإطار العام لبدايات دولة جزائرية ستظهر في المستقبل.
– وأعقبهم إضراب الثمانية أيام (28 جانفي… 04 فيفري 1957)، ثم اجتماع المجلس الوطني (أوت 1957)… ثم جاء تأسيس الحكومة المؤقتة (19 سبتمبر 1958)، وكلها لبنات كبرى أو ركائزُ بناءٍ في مسار متنامي يسند بعضه بعضا، وما بين تلك المحطات الكبرى تفاصيل كثيرة (أحداث ومعارك واجتماعات وقرارات) لا تقل أهمية عنها، كلها تصب في رؤية واحدة أُعلِنت في نداء بيان أول نوفمبر:
(الهدف: الاستقلال الوطني بواسطة
1 ـ إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية.
2 ـ احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني).
2- تأسيس الحكومة المؤقتة
فكرة تأسيس الحكومة المؤقتة قديمة وردت في المراسلة التي وقعت بين عبان رمضان وخيضر سنة 1955، أي قبل مؤتمر الصومام، ولم تتهيأ الظروف لمناقشتها من أجل تجسيدها عمليا سوى في اجتماع المجلس الوطني بالقاهرة ( 22 إلى 28 أوت 1958)، وقد أجريت الاتصالات مِن قَبْل مع الحكومات العربية وكذلك في مؤتمر طنجة (أفريل 1958)، حتى تتهيأ الظروف للاعتراف بها إذا ما أُعلان عنها، وكان السبب الرئيس الذي دفع بها للخروج إلى ميدان الفعل تصريحات السلطة الفرنسية بأنها لا تجد مع من تتفاوض، فلجنة التنسيق والتنفيذ التي انبثقت عن مؤتمر الصومام كانت في نظر الدول مجرد لجنة سياسية يصعب الاعتراف بها كهيئة تمثل دولة، فجاء تأسيس الحكومة المؤقتة ليضع السلطة الفرنسية أمام الأمر الواقع. وقد وصل عدد الدول التي اعترفت بالحكومة المؤقتة قبل الاستقلال إلى 36 دولة وهو ما يمثل ثلاثة أرباع دول العالم يومها.
عرفت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ثلاث تشكيلات من 1958 إلى 1962 ترأسها فرحات عباس في التشكيلتين الأولى (1960- 1961) والثانية (1961- 1962)، وترأسها في التشكيلة الثالثة بن يوسف بن خدة (1961-1962).
من منجزات الحكومة المؤقتة
مواجهة مؤامرات اعداء الثورة التحريرية واطروحات الاستعمار المناهضة لبيان أول نوفمبر 1954، وتنشيط الدبلوماسية على الصعيدين الإقليمي والدولي لكسب التأييد العالمي للقضية الجزائرية، وأبرمت العشرات من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وتكفلت بشؤون اللاجئين الجزائريين في الخارج، وقامت بتحضير الإطارات لمرحلة ما بعد الاستقلال، وسيَّرت مرحلة مفاوضات اتفاقيات ايفيان باقتدار.
استلهام العبرة
الخطة بسيطة ولكننا في كثير من الأحيان نعقد الأمور:
– حدِّد هدفا استراتيجيا واضحا، يجِدُ جميع من تقصدهم به مشمولين ضمنه مهما كانت مدارسهم الفكرية وتنوعاتهم التكوينية. وحدد مبادئ ووسائل وخطة السير إليه بوضوح.
– وانشرها علنا على أوسع نطاق حتى يستجاب للهدف الاستراتيجي عن بَيِّنة وقناعة، فقد حددت الثورة هدفها الاستراتيجي منذ الاعلان عن بيان أول نوفمبر وبقي هو محور دعوتها ونشاطها.
– واستثمر كل مورد بشري مؤهل لديك، وكل وسيلة أمدَّتك بها المرحلة لخدمة ذلك الهدف، دون إقصاء للموارد بالظن والأيديولوجيا وضيق الأفق، ودون تهاون في استثمار الوسيلة واغتنام الفرصة إذا ما أتيحت. فقد جمعت الثورة الجزائرية كل المدارس الفكرية والاتجاهات السياسية والكفاءات العلمية والقيادية والسياسية… ورغم كل ما حدث من شنآن وخصومات وتنافر بين بعضهم لم يَحِد المجموع عن الهدف الاستراتيجي، بقي الجميع يخدمه رغم تحفظاتهم حتى تم تحقيقه، وهذا ما يسمى التركيز على الهدف مهما كانت التحديات والعقبات.
– واعتبر نفسك لبنة في مسار، تستكمل ما أُنجز قبلك، تستثمره وتنميه، وكن وفيا لمن سبقك على الطريق تَعَرَّف فضلهم وانشره وعززه وقدم جهدك بالاستثمار فيه، ولا تنحرف إلى البدايات الصفرية التي تلغي منجزات من سبقها، وترجع إلى نقطة الصفر. فما وصلت منجزات الثورة إلى تأسيس الحكومة المؤقتة سوى بالاستثمار في المنجزات السابقة، فهي لم تنشأ هكذا من فراغ كأنه لم يكن عمل قبلها، بل بقيت وفية لمنجزات جميع من استشهدوا أو سجنوا أو استبدلوا… وتَبْنِي دائما من حيث انتهى الذين من قبلها.
– واحذر متاهات الطريق التي تصرفك عن الهدف الذي حددته وأعلنته، فكثيرة هي مغريات الطريق من جاه ومنصب وقيادة ومكسب مادي… قد تجعلك تتشبث بها بعيدا عن الهدف الأول، فتنحرف عنه من حيث لا تدري، فتتخندق في دائرة ضيقة تحمي بها مكاسبا شخصية، وتصبح ممن يقدِّمون العمل من أجل أن يقال أُنجِز ذلك العمل وفقط، لا من أجل تحرِّي أن يصُّبَ ذلك العمل في الهدف الاستراتيجي حقيقة.
ومن أسوء ما يحدث عندما تميل النفس إلى المكاسب الشخصية أن تطمع في المزيد، وتدفعك لتطلب مواقع ومناصب لست أهلا لها، أو هناك من هو أفضل منك فيها، ولكن ضيق الأفق يعميك، وبدل أن تتواضع وتقدِّم من حقه التقديم، أو على الأقل تستعين بهم وبخبرتهم، تندفع للقول: أنا لها، والواقع يثبت غير ذلك.
وقد تكون لك مهارات ومُكْنَة فيجرفك حب الظهور لتستولي على المشهد وحدك من حيث لا تدري، وتدخل في الاستغناء عن احاطة نفسك بثراء من المتمكنين المتوفرين في العمل ذاته، فتُضيِّق عليهم، وتصيبهم بالعطالة، ولا يستفيد الهدف الاستراتيجي من خدماتهم وخبرتهم.
– وقف في كل مرة وقفة مُراجعة وتَقيِّيم، لا وقفة من يحبون أن يحمدوا بما فعلوا، فإن ذلك يعيد إليك تواضعك ويشعرك بحجمك الحقيقي، ويجعلك تنسب الفضل لأصحابه، ويجنبك تكرار الوقوع في النقائص والتقصيرات ذاتها كل مرة، ويحدد المشكلات والتحديات الحقيقية والفرص الممكنة للمرحلة القادمة، ويبقيك مركزا جهدك وعملك على السير باتجاه تحقيق الهدف الاستراتيجي المشترك.
– وأَكْثِر من الجوانب العملية الميدانية وقلل من الإغراق في التنظير والتجريد وكثرة الجدل، ولا تطرد الذين اتبعوك بسبب الهفوات والتقصيرات، فهم منك ومحسوبين عليك، وجد لهم مكانا يسعهم فإذا أحسنت توظيفهم فيما يحسنون سكنت الغضبات وهدأت النفوس، وانصرفَت إلى العطاء للهدف الأكبر.
– وفي كل مرة تُقبِل فيها على منجزات كبرى وقرارات مفصلية ضع أمامك منجزات وتأسيسات من سبقوك حتى تجعل من نفسك لبنة في مسارٍ متنامٍ، ويَعْظُم البناء على يديك. وضع أمامك أيضا المراجعات والتقييمات التي رصدتها سابقا حتى تتجنب تكرار الأخطاء والنقائص والهفوات التي تسلب جمال العمل واكتماله.
– ولخِّص دوما في كل مرحلة الأفكار العميقة الكبرى الموجِّهة التي توَصَّلت إليها عبر اللقاءات والملتقيات الجامعة، ثم عمِّمها على من معك بعمق ورَوِيَّة، ولا تكتف بالوصف الصحفي الظاهري فهو وحده لا يكفي، بل قد يتحول زخرفا وبهرجة لا تزيد في رصيد العمل والعاملين شيئا، ولكن حوِّله إلى برامج تكوين وتدريب وتأهيل، يزيد بها العاملون خِبرة ونضجا وثباتا، وتبقيهم في سياق خدمة الأهداف الاستراتيجية المشتركة.