نظرية تكافؤ الأخلاق من فتوح الأفكار
د. محمد مراح /
اعتنى كتاب السيرة النبوية العطرة على مر العصور باستكناه أغوار عظمة وفرادة صاحبها صلى الله عليه وسلم، واستبطان أسراره، ومواهب مولاه تعالى لعبده وخاتم رسله عليهم السلام، واستنفار طاقاتهم الفكرية وألمعياتهم اللدنية ومواهب جليلهم الحنان المنان، وتذلل العباد العابدين لمولاهم، والطامعين للظفر بأسنى الجوائز قرب الحبيب في أعلى الجنان، جاهدين في أن تكون تيجان تآليفهم بعد تفاسير الكتاب، سيرة الحبيب العدنان صلى الله عليه وسلم فيكرمهم المولى تعالى باستخراج لآلىء المعاني، وغرر الفكر وطارف وجديد النظر، ومشكاة الأنوار، وهاديات السبل، مما يُشرق على أقلامهم من إبداعات السبق الفرائد المعاني ، وعوالي النظر.
وإذا كانت ميزة كتب السيرة النبوية المعاصرة تيسيرها للقارئ وتقريب أحداثها وأخبارها و دلالاتها ومعانيها وفوائدها: أسلوبا وحجما و انتقاء وتكييفا، فإن العلماء الأثبات الراسخين في علوم الإسلام و تاريخه وعقائده وتشريعاته ومقاصده وأسراره وحكمه، ومؤلفات الذين كتبوا في السيرة النبوية منهم تنطوي على نظرات وتفسيرات وتحليلات جليلة ، يكاد كل واحد منهم أن يكون منفردا بما هدي إليه من أسرارها.
ونحسب أنا انتبهنا إلى بعض ما هدى إليه فملكت علينا النفس واستغرقت الفكر فرأينا أن نعرض لبعضها في ما تيسر من المقالات نخلص المقال الواحد لفكرة واحدة لإمام واحد من أئمة المسلمين المعاصرين، أو كاتب واحد منهم.
الفاتحة من سفر من أرفع وأنفس ما كتب في السيرة النبوية في العصر الحديث أخلص صاحبه نفسه ووقته وعلمه وقدراته العقلية وطاقاته العليا الإبداعية وعواطفه الإيمانية، وقدراته اللغوية والبلاغية الفريدة لإخراجه عملا في السيرة المطهرة في ذرى ما عرف تاريخ التأليف فيها، خاصة في عصرنا، جعل من معارف الشريعة وعلومها جنودا مهرة مخلصين لتشييد سفر ” محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهج و رسالة – بحث وتحقيق” .
للشيخ الأزهري محمد الصادق إبراهيم عرجون ( 1321 هـ / 1903م – 1400 هـ / 1980م لعل من أهم ميزاته في التأليف منح مؤلفه أقصى ما يعتقد أنه استوفى لأعماله معايير الجودة التي وضعها لها: فكان يخرج کتابه ليخلد ويتميز و يبهر : فهذا كتابه ” خالد بن الوليد” قيمه أساطين الفكر والثقافة في مصر حين صدوره منهم عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ والأستاذ الشهيد سيد قطب الذي قدم له بمقدمة جليلة مضمونا فكريا عميقا في خاصية عميقة للفكر الإسلامي المبايئة للفكر الغربي، هي الأساس والأصل الذي انبثقت عنه الفلسفة الغربية الحديثة بكل اتجاهاتها، والرؤية الإسلامية التي يصدر عليها البناء الإسلامي والرؤية الإسلامية في كل المجالات صارت فيما بعد مشار بنان مفكرين إسلاميين كبارا ممن أسسوا لفلسفة الفكر الإسلامي المعاصر تأسيسا مذهبيا عميقا وسيعا، كالمفكر الكبير المسيري رحمه الله؛ أينعها قلم الأستاذ الشهيد رحمه الله في صياغة رشيقة عميقة وجيزة دقيقة باحتراز جوهري، لا يفريها إلا فري العباقرة المتهمين ..
يقول سيد قطب رحمه الله : ” إن الفكرة الإسلامية عن الحياة تختلف عن الفكرة الغربية، في أن الأولى تعتقد بأن هنالك مددا للإنسانية من وراء المعلوم المحدود، وأن البشر وأفرادا منهم بصفة خاصة ليسوا متروكين لطاقاتهم الظاهرية المحدودة، وأن هناك لحظات ترتفع فيها الجماعات ويرتفع فيها الأفراد فوق مألوف طاقاتهم الظاهرة بحكم هذا المدد اللدني الغامض ، سواء كان هذا المدد كامنا في ذواتهم غير معلوم لهم على وجه التحقيق، ولكن تكشف عنه اللحظات الخاصة على غير انتظار، أو مستعدا للحظته من القوة الكبرى التي تصرف أقدار الحياة والإنسان . بينما ترى الثانية أن الطاقة البشرية هي هذه المعروفة المعالم والحدود وأن كل النتائج والعواقب كامنة في الأسباب المعلومة المقدرة المكشوفة للحساب والتقدير .
يقول رحمه الله: ” إن الفكرة الإسلامية … لا تسلم نفسها إلى ذلك الغرور البشري بالفكر الإنساني الذي لم يشب عن الطوق بعد؛ وتمنحه مكانه الطبيعي في إدراك ما هو من شأنه، وما هو داخل في وسعه، ومألوف طاقته وتدع المنافذ الأخرى إلى المعرفة مفتوحة، مادام الواقع يأتي مثيرا بما تعجز عن تفسيره العقول “.
أما كتاب “خالد ” فوصفه بقوله :” إنه يمثل طرازا من دراسة الشخصيات الإسلامية غير مسبوق، ويقدم ربما للمرة الأولى نموذجا من المنهج الذي تدعو إليه في إعادة كتابة التاريخ الإسلامي ” . و” من منطق الفكرة الإسلامية عن الحياة استمد صادق إبراهيم عرجون كتابه عن خالد بن الوليد، فجاءت سيرة كتبت بروح الإسلام، واستقامت على نهج الإسلام.
لم يفتها من التحقيق العلمي شيء يعاب فوته. ولم ينقصها من الإيمان الغيبي شيء يعاب نقصه فاستقامت بهذا وذلك على نهج الإسلام في تناول الحياة والأشياء والأشخاص”.
وأما ” محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهج و رسالة بحث وتحقيق”، فيبدو من صنيعه كأنما جعله صاحبه رحمه الله ملك مؤلفاته: انصرف إليه بعد تخلصه من مهام علمية و قيادية أكاديمية في جامعات عربية، أعمل منهجه في تحقيق التاريخ الإسلامي عبر بعض أعلامه، وتضلعه في علم الحديث والرواية، وقراءاته العميقة لمصادر السيرة ، وتدبره الحصيف في حديث القرآن الكريم عن صاحبها صلى الله عليه وسلم وأحداثها و مطالعاته الثقافية لقضايا العصر، وقضى العقد الأخير من حياته لإنجازه في أربعة مجلدات ضخام 2706 صفحة من الحجم الكبير ليس فيها شقشقة حديث، ولا ركام روايات، ولا أحاديث أنس فالتحقيق المفضى للحقيقة ما أمكن هو الهدف الأسنى للعمل الجليل .
وافى الأجل الشيخ عرجون كما نقرأ في لمحة عن حياة المؤلف خطها نجله على الأرجح الدكتور محمد بهي الدين صادق عرجون . في مسار أحداث السيرة عند وفود وفد قبيلة طيء ولو امتد به الأجل و أتم مدارات السيرة المعهودة في كتب السيرة، لكنا إزاء مجلدين آخرين أو أكثر : حسب طول نفس منهج المؤلف في تتبع وتقصى الحقيقة من الأخبار والروايات فمذ البدء تراه يسلخ في المسألة عشرات الصفحات بحثا علميا مذهلا؛ فمثلا في جزئية ” أقصوصة التردي من شواهق الجبال ” كما وصفها ” التي وردت في كتب السنن والسيرة في فتور توقف الوحي ” بعد ما نزل عليه في حراء ، يخلص نحو سبعين صفحة في سبيل دحض ” أبطولة كاذبة ” حسب وصفه.
ومن لوافت النظر العجيبة في هذا الكتاب الجليل أسلوبه ولغته سلك فيها بالرحلة الطاهرة لغة خاصة وأسلوبا فريدا عما يقرأ في أساليب أئمة وأعلام الأزهر الشريف في عصره، بل هو لغة وأسلوب عجيب حتى عن أسلوبه هو نفسه على نحو ملحوظ ! فالشيخ محمد الصادق عرجون من أصحاب الأساليب مثل أغلب أعلام وشيوخ الأزهر الشريف المبرزين في القرن العشرين، لكنه كأنما أعدّ قاموسا خاصا بمادة يصوغ بها نسيج السيرة العطرة فمقارنة أسلوبه في كثير من كتبه الأخرى بالسيرة تجد خصوصية اللغة والأسلوب هنا بما في ذلك في ” الموسوعة في سماحة في الإسلام في 1150 ص – وهو العمل الجليل الأخر الذي تفرد به أحسب أن قوة أثر السيرة النبوية في نفسه والتفرغ لها كان بمثابة المزيج الكيماوي النفسي والروحي الذي أفضى إلى “معاصرة معتقة خاطبتنا بها سيرة “محمد الصادق “.
سبق القول فيما اصطلحنا على وصفه بــ”فتوح الأفكار في كتب السيرة النبوية المعاصرة” أن العلماء الأثبات الراسخين في علوم الإسلام ، تنطوي كتبهم على نظرات وتفسيرات وتحليلات جليلة ، يكاد كلّ واحد منهم أن يكون منفردا بما هُدِيَ إليه من أسرارها، دون جزم قاطع؛ لاحتمال ورود الفكرة هاته أو تلك عن غيرهم سبقا أو مجايلة .
وأن فاتحة عرض ما بدا لنا أنه كذلك كتاب الشيخ محمد الصادق إبراهيم عرجون
{ 1321 هـ / 1903م – 1400 هـ / 1980م} رحمه الله “محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهج و رسالة ـــ بحث وتحقيق” .
نعرض لبعضها ، ومنها ما وصفه الشيخ رحمه الله بـــ “تكافؤ الأخلاق” وصفها بــ “الظاهرة ” ؛ نظرا لما بدت له من فرادة الخاصية في شخصية المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وعمق أثرها في دعوته صلى الله عليه وسلم.
يصفها قائلا : ” نعني بالتكافؤ الخلقي أن أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم كانت كلها تنبع من فطرته بِنِسَبٍ متفقة؛ فصبره مثل شجاعته، وشجاعته مثل كرمه ، وكرمه مثل حِلْمْه، وحِلْمُه مثل رحمته، ورحمته مثل مروءته، وهكذا لا تجد له خلقا في موضعه من الحياة يزيد أو ينقص عن خلق آخر في موضعه منها” ج1،ص211.
فتغدو بهذا الإدراك الوصفي العبقري جاهزة للمرء بِعَدِّها معجزة كبرى من كوكبة معجزات الشخصية النبوية المحمدية ، ولعلّ مما يُسْتَأْنَسُ به في هذا الصدد، ما فُسِّرَ به قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ” النور الآية (36) في عود الضمير في “نوره”على من يعود، فقال كعب الأحبار وابن جبير : هو عائد على محمد صلى الله عليه وسلم ؛ أي : مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم . قال ابن عطية فيما نقل عنه الإمام القرطبي رحمه الله : “… فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو المشكاة أو صدره، والمصباح هو النبوة وما يتصل بها من عمله وهداه، والزجاجة قلبه، والشجرة المباركة هي الوحي. والملائكة رسل الله إليه وسببه المتصل به ، والزيت هو الحجج والبراهين والآيات التي تضمنها الوحي “الجامع لأحكام اللقرآن ، ،ج15، ص261. فعلى هذا تكون أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وحيا تكوينيا ما قبل بعثته، وتكوينيا تعليميا مدى رسوليته. ولذا كان من أخص خصائص أخلاق الإسلام كما يقول الدكتور محمد عبد الله دراز أنها مبثوثة في العقيدة الإسلامية والتشريعات العملية أي الأحكام العملية بنوعيها العبادات والمعاملات { بالدلالة الفقيه؛ أي فقه المعاملات : أحكام الأسرة والبيوع والشركات ، وغيرها }.
ولتنظيم وتسيير هذه الأحكام في مسار الدعوة وحياة الصحابة والجماعة المسلمة ثم المجتمع المسلم، والصِّلاَتِ مع غير المسلم إنفرادا و اجتماعا . والسَنِّ لسيروة وصيروة الحياة على الكوكب، مهادا للأبدية في مستقرها الأخروي ، كانت أخلاق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أضخم خصائص معجزاته ، قد تكون عبّرت عنها “نظرية تكافؤ الأخلاق” هذه.
وإذا كان التوحيد والعقيدة أصل الإسلام وتشريعاته وأخلاقه، فإنها خاصة الإنسان الكبرى؛ فهو كائن أخلاقي في أصله بمقتضى خلقه على الفطرة التي هي أصل إنسانيته كما أن مادة خلقه التي عرضها القرآن الكريم أصل وجوده المادي . وكذا هي “المادة المُلْصِقَةُ “المثبتة لتشريعات الإسلام وأحكامه، في انتظام حركة الإنسان، تنعكس آثاره على ما يبلغه أثره في الوجود، نفعا وضررا، خيرا وشرا ، صلاحا وفسادا . وأحسب أن كبرى المشكلات العالمية الآن في وجه من وجوهها تعبير عن تلف في المادة الملصقة أو نخر في الجزء أو الأجزاء المسؤولة عن سلامتها و ما تتطلبه متانتها وثباتها . فمشكلات البيئة العالمية الكبرى ، والطاغوت السياسي العالمي الذي ضُغِطَ في “قُرْصِ الإبادة” الغزية . وقس عليهما باقي مشكلات الحضارة العالمية الكبرى، فستجد عمقها أخلاقيا وفق أدق وأ قوم مفهوم للأخلاق في تاريخ البشرية ؛ “الأخلاق الإسلامية ” . وأحسب هذا من مقاصد صاحب ظاهرة ” نظرية التكافؤ الأخلاقي”؛ فالأخلاق هي الملكة الإنسانية الكبرى الوحيدة التي بوسعها إكتناف الكائنات قاطبة، و وسمها بالأوسام الملائمة، بألطاف القائم بالوسم .
قد يكون في قصة خلق آدم عليه السلام؛ من إخبار الخالق تعالى ملائكته بالنبأ، وما دار بمناسبته من حوار المتعالى الجبار مع ملائكة قدسه، فيما يوحى ظاهره بحوار حرّ ، أن مدار إشفاق الملائكة هو إلحاق الضرر بـ ” صلاح الأرض” في براثن الفساد ؛مسألة أخلاقية من كلّ أقطارها: ” وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ” البقرة الآية: 30 بذا تقدمت المسألة التعقلية المعرفية في المشهد القدسي الجليل المهيب؛ “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ . قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ” البقرة ، الآيتان :31،32 . فكان النظام السُّنَنِي الذي وضعه الله تعالى لكونه جوهره ومبناه المبدئي ” الأخلاق”؛ فتجلت في تدبير الله الحكيم الجليل في البشر أن تكون الأخلاق مظهر الفطرة، ومبادئها الكبرى أو الأولية حسب تصنيف الفاروقي، والأساسة حسب تقسيم المودودي رحمهما الله، مشترك بين بني البشر، وعملة التبادل الحرّ غير الخاضعة لتقلب “بورصات ” العملات .
كما تفسر لنا سبق التكوينية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بوسم ” الأمين” و شكر ” أدبني ربي فأحسن تأديبي”، فجاءت وفق ترتيب مراحل خلق الإنسان الأول : تقرير المسألة الأخلاقية مقدمة أساسا لخلقه ، ثم تمتيعه بالعقل ؛أرفع أدوات أداء دوره الاستخلافي؛” قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ” البقرة الآية (33) بعد المرحلة التجريبية؛” وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ . وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ . فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ” البقرة الآيات : 35 ــــــ 37. فهي التي عرف فيها الإنسان الأول غاية خلقه، ومعترك وجوده؛ انتصارا وهزيمة، سعادة وشقاء، فلاحا وخسارا.
بناء على ما تقدم فإن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الأول المتسق مع نواميس الكون ، وسننه التي ستدور مع رسالته الخاتمة عجلة قصة الحضارة الإنسانية، في أهم و أخطر تقلباتها المذهلة، بأحجام منجزاتها وتقلباتها، وتدافعاتها المتسارعة لخط النهاية؛ ” بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَة كَهَاتَيْن ” يعني أصبعين .أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.
كذا مبتغى التدليل عليها من أن الرسول صلى الله عليه وسلم مفطور مجبول ، غير مصنوع ومثقف ولا مُعَلَّمٌ من بيئته في شبابه،فتأتى ثمرات هذا التكافؤ في حدود بيئته، حسب وصف قومه الجامع بــ ” الأمين”، وعبّر عنه صلى الله عليه وسلم في حديثه :” أدبني ربي فأحسن تأديبي “. لكن دور الرسالة مدّد في تكافؤه الخلقي و وسّعَه ليغدو مبنى خلقيا فريدا فيما عرفه التاريخ البشري، اختاره المولى تعالى وَسْمًا للشخصية الرسولية لعبده محمد صلى الله عليه وسلم؛ بقوله ” وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ” القلم آية 4 ، فانفرد به من بين جميع أنبيائه ورسله الذين وصف القرآن الكريم بعضهم بخلة عظيمة أو أكثر، إنفراد خاتمية رسالته، وخلودها الزمني والمكاني؛ فيكون هذا ” الخلق العظيم” متطلب هذه الرسالة التي سَتُشَكِّل أطياف البشر بأحكامها دون طمسٍ جذري لتمايزاتهم الطَبْعِيِّة والعرفية واللسانية ، والوشائجية الرحمية. تُثَبِّتُها وتربطها أخلاق ” وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ” القلم آية 4 الذي كان خلقه القرآن .
هذا وجه الإعجاز في ظاهرة ” التكافؤ الخلقي ” لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ الذي ستسوس أخلاقه الأطياف البشرية بطباعها وأمزاجتها وسلوكها وعوائدها ، وعلاقاتها الطردية والعكسية . على كل أحوالها الفطرية الساذجة والحضارية المعقدة .
وإرتقاء بــ “نظرية التكافؤ الخلقي” معرفيا حسب منزلته الواقعية يقول الشيخ محمد الصادق عرجون رحمه الله : ” هذا التكافؤ الخلقي في وجوده الواقعي، في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم يوشك أن يكون معجزة الحياة في الإنسان؛ لأن التاريخ لم يذكر من النماذج العليا للبشرية من كان هذا التكافؤ الخلقي خليقته العامة سوى محمد صلى الله عليه وسلم… والتكافؤ الخلقي بهذا المقياس لم تعرفه الحياة الواقعية لإنسان غير محمد صلى الله عليه وسلم “م .س ،ص211.
تمثيلا لهذا التكافؤ من سيرته صلى الله عليه وسلم نتأمل واقعةً : أخرج البخاري ومسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَأَدْرَكَتنَا القَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ العِضَاهِ؛ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي العِضَاهِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَحْتَ شجرةٍ فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ فنام رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ” فجاء أَعْرَابِيٌّ، ورَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَائِمٌ، فَأَخَذَ السَّيْفَ فَلَمْ يشْعُرْ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَّا وَالسَّيْفُ صَلْتًا فِي يَدِهِ، فَقَالَ له: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قال: اللهُ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّانِيَةِ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: اللهُ، فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْهُ فَأَخَذَ -صلى الله عليه وسلم- السَّيْفَ، فَقَالَ لَهُ: “مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟” قَالَ: كُنْ خَيْرَ آخِذٍ. قَالَ: “أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟” قَالَ: لَا وَلَكِنْ أُعَاهِدُكَ أَنْ لَا أُقَاتِلَكَ وَلَا أَكَونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ”، قَالَ: فَخَلَّى.
فأبرز الخُلُقَيْن هنا : الثبات ــــ العفو . فعند تأملهما في الواقعة يتبين لنا تكافؤهما على نحو معجز؛ قد يستجيب للقياس الكمي ؛ فالحال التي اعتقد فيها الرجل تمكنه من النبي صلى الله عليه وسلم ، احتمال نجاته منها بالحس البشري الطبيعي نسبتة قد لا تتجاوز خمسة {05 بالمائة} باعتبار الوضع الفيزيائي للطرفين {الرسول والرجل}، وامتلاك أداة النَّيْلِ والإجهاز ، وعلى التخمين المجرد الفوارقُ العمرية ولازمتها من وفرة الصحة والقوة البدنية؛ فما كان ل مُتجرِّئ على زعيم في جيشه و لو منفردا إلا معتدا بأسباب قوته وشبابه وسرعة حركته . بينما عُمُرُ النبي صلى الله عليه وسلم نحو سبع وخمسين سنة، وما ناله في غزوة ذات الرقاع من شدة مع أصحابه؛ فقد كانت من أصعب الغزاوت وأشدّها عليهم.
في الوضع التالي تغيرت المعطيات : صدمة الرجل ــــ خواؤه من أي قيمة عليا تسنده في منقبله التعيس . مقابل : براعة النبي صلى الله عليه وسلم في قلب الموقف ـــــــ سلامة موقفه الأخلاقي بأي معيار جاهلي أو إسلامي في عقاب المُتَجرّئ ــــ فسحة الاختيار لديه من باقة الجزاء الذي يريد . فآثر العفو الذي يكافئ منسوبه الكمي ثَبَاتَهُ صلى الله عليه وسلم في الواقعة .
والله أعلم