من تراثنا

الشيخ عبد الرحمن اليعلاوي: نشاطه الاصلاحي وفكره الاقتصادي

أ.د. مولود عويمر/

الشيخ عبد الرحمن اليعلاوي والأستاذ أحمد توفيق المدني …. من الشخصيات السياسية والفكرية من أصول جزائرية التي ساهمت في الحركة السياسية والأدبية التونسية. وقد نفتهما السلطة الاستعمارية الفرنسية من تونس إلى الجزائر في عام 1925 ليبتعدا عن العمل الوطني، غير أنهما واصلا نشاطهما في الجزائر إلى أن بلغا أجلهما. فإذا كان الأستاذ المدني معروفا عند الباحثين والقراء الجزائريين ونال حقه من التعريف والبحث فإن الشيخ اليعلاوي بقي مغمورا لحد الآن، ولم ينل بعد ما يستحقه من الاهتمام والدراسة.

من تونس إلى الجزائر
ولد عبد الرحمن اليعلاوي في عام 1898 بسوق الاربعاء في تونس على الحدود الجزائرية حيث كان يشتغل والده –الذي يعود أصله إلى قنزات ببني يعلى (الجزائر) في سلك القضاء. درس عبد الرحمن في المدرسة الفرنسية الرسمية ثم التحق بجامع الزيتونة حيث نال منه شهادة التطويع في عام 1923.
انخرط مبكرا في العمل السياسي وناضل في الحزب الدستوري التونسي إلى جانب الشيخ عبد العزيز الثعالبي ورفاقه. وساهم في المظاهرات الشعبية وكتابة المقالات الصحفية. وقد عاقبته سلطة الحماية الفرنسية في تونس ونفته في ديسمبر 1925 إلى الجزائر بلاد أجداده الأولين.
واستقر اليعلاوي في مدينة عنابة في الشرق الجزائري ليتابع من قريب أحداث تونس وأخبارها. اشتغل في ميدان التعليم الحر لمدة 7 سنوات. وانتشرت سمعته الطيبة بين الناس واشتهر اسمه في الوسط الثقافي والعلمي في القطر الجزائري. وقد وصفه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في جريدة «البصائر» بأحسن وصف فقال: «والأستاذ اليعلاوي- مع ذلك كله- دائب الحركة، جمّ النشاط، دقيق النظام، منسّق المواعيد، لا تلمّ الفوضى بساحته، ولا تضيّع حزمه بساطة المظهر وهدوء الطبع. وهو لذلك، يتمتع بالاحترام من كل من عرفه، وبسمعة عطرة هي حلية المسامع والأفواه».

نشاطه الفكري والسياسي في فرنسا
في عام 1932 سافر إلى باريس واشتغل مترجما ثم موظفا في شركة التأمين، واكتسب مهارات وخبرات في المجال المالي. وقد اختارته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ليكون مندوبها العام في فرنسا ومسؤولا عن نواديها الاصلاحية الموجودة في باريس، وفي عدد من المدن الفرنسية بين 1948 و1954 إحياءً للعمل الجبار الذي قام به الشيخ الفضيل الورتلاني ورفاقه قبل الحرب العالمية الثانية. وعن سبب اصطفاء الشيخ اليعلاوي لأداء هذه المهمة يقول رئيس هذه الجمعية الشيخ الإبراهيمي: «يشغل الأستاذ اليعلاوي من وظائف جمعية العلماء رئاسة شعبتها بباريس منذ سنين وهو معتمدها الوحيد ومرجعها في كل ما لها من علائق وشؤون وراء البحر، والجمعية تثق الثقة التامة برأيه وأمانته، كما تثق بعلمه وعقيدته، وتركن إلى عقله وأناته، كما تركن إلى صدقه وإخلاصه، وتفخر بأن يكون مثله في استكمال التجارب وسعة الاطلاع على رأس حركتها في فرنسا».
وبهذه الصفة شارك الشيخ اليعلاوي في الاجتماع العام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين المنعقد في 1 أكتوبر 1951 بقاعة سنيما دنيا زاد بمدينة الجزائر، وقدم تقريرا عن حالة العمال الجزائريين في فرنسا، ودعا الحاضرين إلى الاهتمام الزائد بهم نظرا للمخاطر المحدقة بهم، فقال في هذا السياق: «لا يحسن بنا أن نتركهم فريسة للشر ولقمة سائغة للإلحاد».
في نوفمبر 1951، حضرت الوفود العربية والإسلامية إلى باريس للمشاركة في الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة. فتشكلت لجنة من الأحزاب والجمعيات الجزائرية الناشطة في فرنسا لاستقبالها. وكان الشيخ اليعلاوي من الأعضاء البارزين في هذه اللجنة إضافة إلى شخصيات أخرى أمثال أحمد بومنجل العضو السياسي لحركة الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري (حزب فرحات عباس)، وأحمد مزغنه وحسين الأحول العضوين في المكتب السياسي لحزب حركة انتصار الحريات الديمقراطية (حزب المصالي)…وممثلين عن الطلبة الجزائريين والكشافة الاسلامية.
كما أقامت الشُعبة المركزية لجمعية العلماء مأدبة عشاء مساء الثلاثاء 29 فبراير 1952 بفندق العالمين في شارع الأوبرا حضرها وفود الدول العربية والإسلامية وممثلو المنظمات والأحزاب المغاربية وذلك لإسماع صوت الجزائر والبحث عن كل السبل لتحرير الشعوب الإسلامية. وكان من أبرز الذين استجابوا للدعوة عبد الوهاب عزام الأمين العام لجامعة الدول العربية، ورؤساء وفود باكستان والهند وأندونسيا والعراق وسوريا وزعماء الأحزاب الاستقلالية المغاربية.
في عام 1958 اعتقل بتهمة جمع الأموال لصالح الثورة الجزائرية. وبعد الافراج عنه، توجه إلى الشام ليعمل مساعدا لأحمد فرنسيس وزير المالية للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. وشهد له الكثير ممن عرفوه بكفاءته العالية في تدبير الشؤون المالية.

آراء من أجل بناء المنظومة المالية
استفادت الدولة الجزائرية بعد استعادة الاستقلال من خبراته وتجاربه، فعيّنته الحكومة الجزائرية أول مدير للصندوق المركزي للقروض الشعبية. واستمر في خدمة الجزائر وتنظيم شؤونها المالية إلى أن التحق بالرفيق الأعلى بعد أن تعرض لحادث مرور في مارس 1976 ودفن في مقبرة العائلة في جندوبة.
ولقد عثرت على نص خطابه الذي ألقاه أمام مجموعة من الوزراء وموظفي المؤسسات المالية في الجزائر بمناسبة تعيينه على رأس الصندوق المركزي للقروض الشعبية، وقدم فيه تشريحا للواقع الاقتصادي في البلاد، واقترح بعض الأفكار لإصلاح المنظومة المالية التي تعرضت لهزات عنيفة غداة الاستقلال.
ولحسن الحظ نشر هذا النص في العدد 8 من الجريدة الأسبوعية «الجماهير» الصادر في 29 ماي 1963. وهذه الجريدة صدر عددها الأول في 10 أفريل 1963. وترأس هيئة تحريرها الكاتب الطاهر وطار. وكان مقرها بـ 1 شارع باستور بمدينة الجزائر. وشارك في تحريرها عدد من الكتاب الجزائريين والعرب، أذكر منهم: محمد الهادي السنوسي، صالح خرفي، زهور ونيسي، الأخضر عبد القادر السائحي، عبد الرزاق مناع، والعفيف الأخضر…
رسم الشيخ عبد الرحمن اليعلاوي صورة قاتمة لسوق العمل في الجزائر في السنة الأولى للاستقلال ونقص الاطارات المتخصصة، والفوضى التي سادت في المؤسسات مما يستوجب تنفيذ سياسة صارمة لبناء منظومة مالية تسمح بالإقلاع الاقتصادي في البلاد التي خرجت من الاحتلال الذي دام قرنا و32 سنة. وقدم بعض الحلول لتدارك ذلك مبرزا دور الإنسان ويقظته وحسه الحضاري ومسؤوليته الاجتماعية في بناء المجتمع المتقدم المنشود.
ونظرا لأهمية هذا النص المغمور قررت أن أنشره هنا حفاظا عليه، وتعريفا بآثار الشيخ اليعلاوي المفقودة، وتعميما لفائدته خاصة وأن النصوص التي تتناول الاقتصاد والمال قليلة جدا في تراث الحركة الاصلاحية الجزائرية.
«إني أقدر هذه المسئولية التي عهدت بها إلي حكومتنا الثورية. وإني وزملائي سنقوم بواجبنا كاملا غير منقوص حتى تؤدي هذه المؤسسة الشعبية ما يرجوه منها الشعب من مشاركة في معركة البناء والتعمير.
إن وجودكم (موجها حديثه للإخوان الوزراء) بيننا في هذه المناسبة لدليل واضح على اهتمامكم أنتم وبقية أعضاء حكومتنا الثورية بمسألة القروض والتسليف والإدخار، لأنكم تعلمون دور المصارف في بناء اقتصاد المجتمع العصري.
إن العالم الغربي لم يصل إلى ما وصل إليه من تشبع وازدهار إلا بفضل مؤسساته المالية التي موّلت المشاريع الكبرى بما تجمع لديها من أموال ضخمة مكوّنة في الغالب من مبالغ صغيرة مودعة من طرف ذوي الدخل البسيط، أي من الفئات الشعبية.
فالعبرة إذا ليست برأسمال المصارف مهما كان كبيرا، ولكن بفضل ثقة الشعب في هذه المصارف وفهمه لدورها الايجابي، وبالتالي بالودائع التي توضع فيها من قبل الطبقات الشعبية ذات الدخل الصغير لأن أصحاب المبالغ الصغيرة في العادة عاجزون من استثمار أموالهم القليلة عمليا في أعمال تجارية أو صناعية لذا فهم يعمدون إلى وضعها إما في المصارف الوطنية، وإما في صناديق الادخار، وفي ذلك فائدتان، فائدة شخصية وفائدة وطنية.
الفائدة الشخصية: يستفيد الشخص صاحب المال المودع. والفائدة الوطنية: يستفيد الوطن إذ تستثمر هذه الأموال المودعة والمجمعة في مشاريع صناعية وإنتاجية. وأذكر على سبيل المثال قصة لا تحتاج إلى تعليق: لقد عملت فى مؤسسة مالية من هذا النوع بباريس – أسست في عام 1889- برأسمال قدره 50 ألف فرنك ذهب، دفع منها الربع أي 12500 إثنا عشر ألف وخمسمائة فرنك فقط. وقد وصلت موجودات هذه المؤسسة في عام 1908 ما يتجاوز 70 ألف.
وقد وجدنا مؤسستنا هذه عندما استلمناها تتخبط في صعوبات ورثتها من عهد الاستعمار البائد وهي تشكو اليوم –كغيرها- فقدان اليد العاملة الفنية بسبب نزوح أغلبية العنصر الأوروبي من البلاد قبل أن يطلعوا أبناءنا على أساليب العمل أو تكوين فئة من شبابنا تحل مكانهم فتضعضع الجهاز الإدارى وحدث خلل في تسيير العمليات.
ونتج كذلك عن فقدان اليد العاملة تسابق بين أرباب المصالح لتوظيف ذوي الكفاءات. سباق استعملت فيه كل وسائل الاغراء من مرتبات عالية ومن استثنائية الخ… مما خلق صعوبات جديدة.
إن استقرار الوظيف في الظروف الحاضرة ضرورة ملحة، فالحكمة تقضي أن يوضع حد لهذه الفوضى وأن لا يسمح لأحد بترك محل عمله إلا بموافقة الجهات المختصة.
أما التنقل من مصنع إلى آخر أو من مؤسسة إلى غيرها، فليس من فائدة العمال في شيء لأنهم بذلك يحدثون سابقة قد يستثمرها ضدهم أصحاب المعامل يوم تتقلب الوضعية ويصير الطلب أكثر من العرض.
وهناك قضية أخرى نلفت إليها النظر، وهي أن توسيع دائرة النشاط الاقتصادي يتطلب مجهودا ماليا كبيرا. ففى امكان الحكومة أن تعين على ذلك، وذلك بتطبيق قانون كان معمولا به يحدد دفع الرواتب الشهرية بمبلغ معين يدفع نقدا وما زاد عليه يدفع بواسطة شيك أو حوالة.
وهكذا تصل إلى نقطة أساسية فإذا أحسن شعبنا التصرف في الرصيد الذي اكتسبه واعتمد على نفسه كما فعل أيام الجهاد فإنه جدیر بأن يأتي بمعجزة أخرى هي معجزة البناء والتعمير والازدهار».
رغم كل ما عرفه موضوع الإصلاح في مجال المالية منذ الاستقلال، ورغم كل الجهود التي بذلت من أجل الارتقاء به فإن النتائج ما زالت لا ترقى إلى مستوى متطلبات الحركة الاقتصادية والتبادلات التجارية المحلية والإقليمية والعالمية ومستوى طموحات الجزائريين في التنمية والتقدم والازدهار. فمازال هذا القطاع في حاجة إلى التطوير والتجديد برجال يملكون الكفاءة والرؤية والجدية والإخلاص من طبقة الشيخ عبد الرحمن اليعلاوي.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com