حوار

البصائر تحاور الباحث في الفكر الإسلامي الدكتور السنوسى محمد السنوسى: • «فلسطين» هي قلب العالم الإسلامي حضاريا

• نحن بحاجة لفقه «قراءة المحن» من أجل الوقوف على مواطن الخلل

• هداية القرآن هي «إعجازه الأكبر»

حاوراته : فاطمة طاهي/

أشار الباحث في الفكر الإسلامي، السنوسى محمد السنوسى، إلى أهم القضايا التي تشغل الساحة الإسلامية في الوقت الراهن، مشيرا إلى القضية الفلسطينية باعتبارها قضية مركزية للأمة وجرحها النازف، حيث بين أهمية المساندة العلمائية التي تبقي الوعي بحقيقة القضية الفلسطينية، ودور علماء الأمة في التركيز على قضاياها المصيرية وبيان الحق للناس، وأن نصرة إخواننا المستضعفين في فلسطين واجبة وليست منة أو تطوعا قائلا في هذا الصدد: « إن العلماء من أعظم شرائح الأمة مسئولية في ذلك، بما حملوا من أمانة العلم والدعوة والبلاغ، وبما لهم من مكانة وصوت مسموع»، كما تحدث الباحث في الفكر الإسلامي عن القرآن الكريم وكيف أسس للفكر والفعل الحضاريين عند المسلمين، وفاعليته في صناعة الإنسان والحضارة. بالإضافة إلى نقاط أخرى لا تقل أهمية تطرق إليها الدكتور السنوسى محمد السنوسى في حوار خص به جريدة البصائر الجزائرية.

نريد بداية تعريفًا مختصرًا بكم ليتعرف عليكم القارئ الجزائري؟
– أشكر جريدة «البصائر» الرائدة على إتاحة هذه الفرصة للتواصل مع الأشقاء في الجزائر الحبيبة، وأسأل الله تعالى التوفيق لنا جميعًا.
نشأت في أسرة متدينة بمصر، عام 1979م، والتحقت بالتعليم الأزهري حتى تخرجت في كلية الدعوة الإسلامية بجامعة الأزهر بالقاهرة، ثم حصلت على الماجستير من كلية الآداب جامعة المنوفية، عن موضوع: «الإعلان العالمي لحقوق الطفل في ضوء الكتاب والسنة»، ثم على الدكتوراه من كلية الآداب جامعة قناة السويس، عن موضوع: «التداول الحضاري في السنن الإلهية بين ابن خلدون ومالك بن نبي».
وفي المسار العملي التحقت بالصحافة، واتخذت منها نافذة للإطلالة على قضايا الفكر الإسلامي المعاصر، وعلى ما يشغل العقل المسلم؛ فعملت بمجلة «التبيان»، وكتبت في عدة صحف ومواقع ومجلات مهمة لها متابعوها وقراؤها؛ مثل مجلة «الوعي الإسلامي»، وموقع إسلام أون لاين». كما وفقني الله تعالى لإصدار ثلاثة كتب هي: «إضاءات في الوعي»، عن دار البشير، 2014م. و»لماذا ينبهر الغربيون بالإسلام؟»، عن المكتب المصري الحديث، 2015م. و»النموذج المعرفي الإسلامي.. إبحارٌ في المفهوم والتجليات»، عن مفكرون الدولية للنشر والتوزيع، 2019م.
والحمد لله، أحرص على القراءة المتنوعة في مختلف فروع المعرفة، إيمانًا بأن المعرفة متشابكة الأغصان، وبأن واقع الفكر الإسلامي يستدعي فتح نوافذ ولو بمساحات مختلفة على المعرفة في شتى جوانبها، بحيث يصدر هذا الفكر في إبداعه وطروحاته عن وعي صائب يقترب من الواقع والحقائق أو يلامس ذلك من أقرب مسافة.

تبقى فلسطين الجرح النازف في جسد الأمة وهي قضية مركزية للأمة وتحريرها تحرير للبلاد الإسلامية.. فما هو المطلوب من جيلنا لنستعيد عزتنا ونهضتنا؟ حدثنا عن دور العلماء.. عن دور النخبة.. عن دور الإنسان المسلم.. تجاه القضية الفلسطينية وتجاه القضايا العادلة للأمة؟
–  هذا سؤال كبير جدًّا بحجم امتداد أمتنا حضاريًّا وجغرافيًّا، وبحجم التحديات الضخمة التي تواجهها وتضغط عليها في واقعها المعاصر، بل في لحظتها الراهنة التي تتكثف فصولها على أرض الرباط والبطولات في غزة العزة.
فلسطين هي قلب العالم الإسلامي حضاريًّا، كما أن مكة هي قلبه دينيًّا؛ والقدس تمثل عقل العالم الإسلامي كما أن مكة تمثل عاطفته؛ وليس في ذلك مبالغة، وإنما هي حقيقة يدلنا عليها التاريخ بما حمله من مواجهات بين الشرق والغرب، وبما كانت فيه القدس، وفلسطين عمومًا، بؤرة الصراع، وبوصلة الأمة حضاريًّا.
هذا الإدراك لمكانة فلسطين والقدس، وغزة الآن فيما تواجه من عدوان صهيوني شرس بتواطؤ ودعم غربيين غير محدودين.. يُلقي بالمسئولية على الأمة بشرائحها كافة، كلّ فيما يخصه، لا نستثني شريحة ولا نستبعد أحدًا؛ وكلما عظم الدور والمكانة، عظمت المسئولية. ولهذا، فالعلماء من أعظم شرائح الأمة مسئولية في ذلك، بما حُمّلوا من أمانة العلم والدعوة والبلاغ، وبما لهم من مكانة وصوت مسموع..
والمطلوب من الأمة لدعم فلسطين هو تقديم كل أنواع الدعم دون استثناء. وهنا نشير بأسف إلى أن الغرب يقدم كل أنواع الدعم لـ»طفله المدلل» بينما دولنا تقف عاجزة، بل إن بعضها يمنع التضامن ولو بالكلمة!! فأيّ مفارقة هذه! وأيّ انحدار وصلنا إليه!
ولهذا، يلزم لأمتنا أن تعمل على تحرير إرادتها، وعلى حرية إنسانها؛ حتى تكفّ يد العدوان والإجرام عنها.

هل يمكن أن نقول أن الأمة الإسلامية تعيش أزمات وتدهورًا في شتى مجالات الحياة، ويعود ذلك إلى تدهور علاقتها مع الدين ومع القرآن الكريم.. وبالتالي، كيف نحول فهمنا للقرآن الكريم إلى هداية على مستوى الفرد وإلى نهوض حضاري؟
– نعم، لا شك أن أساس الخلل الذي أصاب حياتنا وأدى إلى تراجع مكانتنا حضاريًّا؛ بحيث خسرنا نحن المسلمين بهذا «الانحطاط»، كما خسر العالـمُ أيضًا.. أساس ذلك يرجع إلى ما أصاب علاقتنا بالقرآن الكريم ودوره في حياتنا، سواء حياتنا الفردية أم المجتمعية.
لقد انقلبت علاقتنا بالقرآن الكريم إلى مستوى القراءة باللسان فحـــسب، طلبًا للبركة ومنعًا للحسد أو طلبًا للرحمة على الأموات!! هذا الكتاب العظيم الذي جُعل هُدى ونورًا ومنهاجًا وشرعةً وصراطًا مستقيمًا، إذا به يتحول إلى تمتمات أو إلى تلاوة منغَّمة بصوت يجلب النشوة!! أو حتى إلى محلّ للدراسات المتخصصة في اللغة والفقه والتشريع وغيرها، دون اعتبار حقيقي للمعنى الأساس الذي من أجله أُنزل القرآن، والذي عبَّر عنه القرآن نفسُه في آياته الأولى بقوله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ{[البقرة: 1، 2].
فوصفُ القرآن بأنه هُدى هو الوصف الأول والأساس له، وقد تكرر في أكثر من موضع، بما لا يحتاج إلى تدليل، وبما يدل على الصفة الأساس للقرآن والتي ينبغي أن تأخذ حظها من بين الصفات الأخرى للقرآن الكريم؛ فهداية القرآن، كما قلت في أحد مقالاتي هي «إعجازه الأكبر»؛ لأنها إعجاز يتجاوز اللغات والأجناس، ويخاطب مختلف العقول والأفهام. يكفي أن يستمع غير العربي للقرآن فيشعر بأثر القرآن يسرى لقلبه وجوانحه حتى لو لم يفهم الكلمات أو لم يعرف معانيها على نحو مفصل.
فالقرآن هداية للروح يزكِّيها ويسمو بها.. وهداية للعقل ينوِّره ويبصِّره ويفعِّله.. وهداية للجوارح يقيمها على الصراط المستقيم، ويحفظها من الانحراف والاعوجاج.. وهو هداية للفرد بمثل ما هو هداية للمجتمع.. بل هو هداية لغير المسلمين أيضًا؛ بما يمد لهم من نوره وإشعاعه، وبما يمثل للإنسانية كلها من رسالة خاتمة وكتاب مُعجِز.
وبجانب هذا، فالقرآن الكريم كتاب متصالح مع الحياة، متفاعل معها، لا يخاصم ما أحل الله من الطيبات ولا ما جعل لعباده من الزينة.. وهو كتاب يعرف للعقل مكانته، ويُنزل التفكير والتدبّر والتذكّر والتبصّر منزلتها اللائقة بها، ويجعل كلَّ ذلك سبيلاً لمعرفة الله تعالى والخشية منه.. كما أنه يأمر بالسير في الأرض للتعرف على معالم الخلق وكيف بدأ وعلامَ يدل، وللتعرف على سنن الله تعالى فيمن مضى من أقوام؛ لنهتدي بسبيل المؤمنين في إيمانهم، ونتجنب طريق الكافرين في كفرهم.. إنه باختصار كتاب الحياة والأحياء، كتاب الفكر والشعور، كتاب الفرد والأمة، كتاب أمة الإجابة/ المسلمين وأمة الدعوة/ الإنسانية.. كتاب مفتوح على امتداد الزمان والمكان، لا يَخْلق على كثرة الرد، ولا يَبلى بمرور الأيام: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ{[إبراهيم: 1].
على هذا المستوى، من الهداية، ومن إصلاح الحياة وتعميرها، ومن خطاب الناس جميعًا؛ ينبغي أن يكون تعاملنا مع القرآن الكريم، لا ننحصر به في زاوية ضيقة من زوايا الحياة، ولا نحبس أنواره في مجالات محدودة من المعرفة، ولا نحرم غير المسلمين من التعرف على هداياته والارتواء من معينه العذب.

يبين الله لنا في القرآن الكريم السنن التي وضعها في هذا الكون؛ وهي قوانين تحكم نظام هذا الكون.. حدثنا عن أهمية البحث فيها لتحقيق النهوض الحضاري؟
– السنن الإلهية هي قانون التاريخ، كما قال مالك بن نبي. والتاريخ هو المسرح الذي يتحرك عليه الإنسان جيئة وذهابًا، صعودًا وهبوطًا.. فهذا المسرح التاريخي- ومن زاوية أعم: هذا الكون المتسع، والخَلق الممتد بأنفُسِه وآفاقه- لا تسير الحركة فيه خبط عشواء؛ وإنما لكل فعل جزاؤه، ولكل نتيجة شرطها المستحق؛ وهذا هو معنى السنن في جوهرها ومضمونها.
ونحن بحاجة لهذه «السُّنن»؛ الخيط الناظم للتاريخ والكون.. وبحاجة لذلك «الفكر السُّنَنِيّ»؛ المتكوّن في رحابها، المنضبط بشروطها وقوانينها، الساعي لتحصيلها وتفعيلها.. حتى نكون على بصيرة من موطئ أقدامنا في مسرح التاريخ، وعلى بصيرة من خطواتنا باتجاه المستقبل؛ فإن رسالة السنن موجَّهة للمستقبل استبصارًا بالماضي؛ لأن الأمر هو كما قال ابن خلدون: «الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء». ولهذا، فالسنن ليست ترفًا فكريًّا وإنما هي شرط الحضارة وقانونها.
وقد لفتنا القرآن الكريم إلى السُّنن بطريقين:
الأول: الأمر بالسير في الأرض لتأمل أحوال السابقين واستنباط ما حلَّ بهم من سنن التمكين أو الإزاحة. قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 137، 138].
الثاني: النصُّ صراحة على بعض السنن لتكون نموذجًا لنا في الفهم والتحليل والاستنباط ونحن نمارس السيرَ في الأرض والنظرَ في أحوال من سبق؛ وذلك مثل سنة التدافع: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ}[البقرة: 251]، وسنة التداول: { وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران: 140]، وسنة الابتلاء: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ }[البقرة: 214].
كما جاءت السنة النبوية قولاً وعملاً لتكون نموذجًا لنا في التنبّه لهذه السنن والتزام طريقها؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله تعالى يأخذ بالأسباب مع التوكل التام على ربه سبحانه.. يتحرى عوامل النصر المادية مع توجيه البصر للسماء داعيًا وراجيًا.. ينظّم الصفوف ويتحمل الأذى ويقطع المسافات ويبذل العرق، ثم في إحدى المحطات (غزوة أحد) لا يحول وجودُه بين المسلمين من أن تجري عليهم سنن النصر والهزيمة حين خالفوا الأمر.
ولهذا لفت ابن خلدون في معرض حديثه عن العصبية ودورها في تأسيس الدول أو انهيارها، وأنها قانون ثابت في ذلك.. لفت إلى أن الأنبياء لم يُستثنوا من ذلك؛ فقال: «وأحوال الملوك والدّول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما قدمناه؛ وهكذا كان حال الأنبياء في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب وهم المؤيّدون من الله لو شاء بالكون كله؛ لكنه إنما أجرى الأمور بحكمته على مستقر العادة.
ونحن نقول إن الأنبياء لم يُستثنوا من السنن عامة، وحتى ما حصل لهم في التأييد والنصرة من المعجزات- وما حصل من الكرامات للصالحين من بعدهم- إنما حصل وهم في طريق البذل والتضحية، لا القعود والنكوص.. وهذا درس مهم لمن ينتظرون مثل معجزات الأنبياء وكرامات الصالحين بينما هم قاعدون متخلفون عن العمل والصبر والمصابرة والمرابطة!!
فباب النهوض الحضاري والتنافس والتداول بين الأمم، مفتوح على مصراعيه، لكن لا يلجه إلا من استوفى الشروط واستكمل الأركان.. فالأمر ليس بالتمني؛ وحيازة المنهج الإلهي والوحي المعصوم تحتاج إلى سعي بشري فاعل في الواقع، وإلى أن ندخل بهذا المنهج وذلك الوحي إلى حلبة التاريخ.
وأهمية الفكر السنني في النهوض الحضاري تنبع من أنه يرسِّخ جملةً من الأمور؛ أهمها:
الأول: تأكيد دور الإنسان في التاريخ: والتشديد على مسئوليته في عملية النهوض أو السقوط، وأن الأمر كما أشرنا لا يتعلق فقط بحيازة المنهج.
الثاني: احترام الأسباب: فالفكر السنني يحترم الأسباب ولا يهملها أو يهوِّن من قيمتها؛ إدراكًا منه بأن الله تعالى خلق الكون على نظام وقانون، ولا يمكن التعرف على هذا النظام والقانون، ولا الإفادة مما هو مودَعٌ في الكون من كنوز وخيرات، إلا باتباع الأسباب وإعمالها. أما القفز فوق الأسباب أو تعطيلها، بزعم انتظار المدد والعون من السماء، أو بدعوى أن الأسباب لا قيمة لها؛ فهذا مما أصاب العقلَ المسلم بالتراجع، وقعد به عن السعي في الأرض واتباع السنن والتزام موجباتها.
الثالث: النظر في العواقب والمآلات: فالفكر السنني يرتكز على النظر في العواقب والأمور؛ لأنه فكر قانوني منضبط، يضع نصب عينيه الشرطَ والجزاء، الفعلَ وعاقبته، الأمرَ ونتيجته.. لا ينتظر من الأرض قمحًا بعد أن زرعها شعيرًا.. ولا يُقْدِم على عمل إلا وهو متفكر في عاقبته؛ فيفعل ما يؤدي للخير أو ما يغلب على الظن أنه يؤدي للخير؛ ويجتنب ما يؤدي للشر أو ما يغلب على الظن أنه يؤدي للشر.
الرابع: الاعتبار بالتاريخ والسابقين: فالتاريخ- مع الاجتماع- هو المجال الطبيعي للسنن، وهو ميدان عملها وفعلها؛ فالسنن تجري على الناس في ضوء حركتهم بالطاعة أو بالمعصية؛ ومن ثم، تكون عاقبتهم بالفلاح أو الخسران. وحتى نعلم ذلك لا بد من تقليب صفحات التاريخ والاعتبار بها، ومن معرفة أحوال السابقين والاتعاظ بمصائرهم؛ فمن لم يَعتبر بالتاريخ صار من عِبَرِه!!
الخامس: رؤية الكون والتاريخ ضمن قانون وانتظام: فالكون منضبط في حركته ومساره: {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[يس: 40]. والتاريخ الإنساني لا يسير خبط عشواء؛ وإلا لما جاء الأمر بتدبره واستيعاب دروسه: ﵟ{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}ﵞ[النحل: 36]. والفكر السنني يعتمد هذه الرؤية القانونية وهذا المسار الانتظامي للكون والتاريخ؛ وبالتالي يتعلم في مدرستهما ويتمثل دروسهما في الحاضر القائم والمستقبل الآتي.

باعتباركم من المهتمين والباحثين في الفكر الإسلامي، ما هو تقييمكم لحصيلة البحث في الفكر الإسلامي؟ وكيف يمكن أن تكون هذه الأبحاث فاعلة في تحقيق نتائج تطبيقية تعزز جهود تطوير الأمة؟
– الفكر الإسلامي المعاصر استطاع أن يخطو خطوات واسعة في شتى سبل المعرفة، وأن يقدم مشاريع فكرية مهمة؛ سواء في نقد الذات ومراجعة الخطوات، أو في غربلة التراث والنظر إليه بإنصاف، أو في مراجعة العلاقة مع الغرب على قاعدة الإفادة لا القطيعة، والندية لا الاستتباع.
في شتى مجالات المعرفة نرى مشاريع فكرية إسلامية مهمة؛ في الاجتماع والتاريخ والسياسة والاقتصاد وقضايا المرأة والشباب، بجانب العلوم الإسلامية المتنوعة. لكن هنا عدة ملاحظات:
الأولى: أن الفكر الإسلامي متنوع المدارس والمشارب، وليس في ذلك ضير؛ فليس مطلوبًا ولا ممكنًا أن يكون «نسخة واحدة»؛ لكن الملاحظ أن بعضها ينال الدعم ويحظى بالفرصة أكثر من غيره. وربما كان ذلك، لغير الاتجاه الأقدر على مراعاة حاجة المجتمعات.
الثانية: أن الفكر الإسلامي، والفكر عامة، مطلوب منه باستمرار مراجعة نفسه، وتطوير آلياته. وليس معنى إحراز درجة ما، أن نقف عندها؛ فهنا يصاب الفكر بالجمود.. بل نستفيد مما تم ونبني عليه، دون تحجر أو تسفيه للجهود.
الثالثة: أن شرط تطوير الفكر هو إعطاؤه الفرصة للتحقق في عالم الواقع؛ فالفكر لا يتطور إذ وقف- أو: أُوقف!- عند مرحلة التصورات والنظريات.. لابد من اختبار الفكر عمليًّا، بإفساح المجال أمامه؛ ومن ثم، تسديد الثغرات، وإكمال البناء.
الرابعة: أننا بحاجة الآن للانتقال من المبادئ الكبرى والشعارات العامة- والتي أدت دورها في زمن ما- إلى مرحلة أكثر تفصيلية.. وهذا يتطلب الاتجاه أكثر نحو الأفكار العملية، والعناية بالبرامج والتفاصيل، والعمل على تكامل الخبرات المتنوعة، والالتزام بالجهد الجماعي والعمل المؤسسي لا الفردي..
بهذا، يمكن تطوير الفكر الإسلامي باستمرار وإكسابه صفة العملية والتطبيقية، مع سد الثغرات ومراعاة الحاجات المتجددة.

كتبت على جدارك بصفحة «فيس بوك»: القراءة الصحيحة للمحن والأزمات، هي القراءة التي تجعلنا نستخلص منها درسَيْن:
• درسًا يتعلق بالماضي، وهو: التوبة من مسبِّبات المحن، بعد تدبرها جيدًا.
• ودرسًا آخر يتعلق بالمستقبل، وهو: استخلاص العبرة لما بعدها. وهذا ما سميته بـ «فقه قراءة المحن». ممكن توضيح أكثر؟ وإلى أي حد تستطيع العلوم الإسلامية في العصر الراهن الإجابة على الأسئلة التي تؤرّق العقل المسلم؟
– من الملاحظ أن تاريخنا الممتد، لا سيما في فترته المعاصرة، قد مر بأزمات كثيرة وكبيرة، وشهد تحولات مهمة مفصلية.. وإزاء هذه الأزمات والتحولات، نحن بحاجة لفقه «قراءة المحن» أو فقه «المراجعات» أو فقه «نقد الذات»؛ حتى يمكن استيعاب الدرس، والوقوف على مواطن الخلل؛ وبالتالي، تجنب ذلك في المستقبل، والانتباه جيدًا للحظات تشكل الداء في بداياته المبكرة.
وهذه القراءة النقدية أو «المراجعية» هي منهج قرآني أصيل؛ أرساه القرآن ودعانا لالتزامه؛ قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران: 165].
وفي قوله تعالى: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126]. قال ابن كثير في تفسيره: «أَوَلَا يَرَى هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ أَنَّهُمۡ ‌يُفتَنُونَ} أَيْ: يُخْتَبَرُونَ، فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوۡ مَرَّتَينِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمۡ يَذَّكَّرُونَ أَيْ: لَا يَتُوبُونَ مِنْ ذُنُوبِهِمُ السَّالِفَةِ، وَلَا هُمْ يَذْكُرُونَ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ» أ.هـ. فأشار إلى درس الماضي: بالتوبة، ودرس المستقبل: بأَخْذِ العبرة.
وهنا نلفت النظر إلى أن هذه القراءة النقدية حاضرة لكن بدرجة غير كافية، والبعض لم يتحلّ بالشجاعة المطلوبة لممارسة هذه القراءة أو يمنعها، تحت دعاوى كثيرة؛ مثل أن هذا ليس وقته، أو أن البعض قد يستفيد من هذا النقد، فضلاً عن التصورات المثالية المتضخمة عن الذات التي تحجب أصلاً رؤية ما ينبغي أن يوجَّه إليه النقد!!
وهذه كلها معوقات للجهد التصويبي المطلوب باستمرار لمراجعة التاريخ أو الحاضر، والذي قد لا يقلقنا وقوع أزمات فيه- فهذا شأن الحركة البشرية- وإنما يقلقنا تكرارُ الأخطاء ذاتها، وعدمُ الانتباه لضرورة مراجعة الذات، والمكابرةُ.

وباعتباركم من المشتغلين بالصحافة، كيف يمكن للإعلام أن يحمل مشروعًا حضاريًّا ذا مرجعية دينية قيمية إنسانية لهذا العالم؟
– الإعلام، المقروء والمسموع والمرئي والتفاعلي، أصبح دوره أساسيًّا ومتعاظمًا في حياتنا، وأصبح أداة قوية لترويج الأفكار وتمرير الدعايات؛ ومن المهم الانتباه لذلك والإفادة منه. لكن علينا ملاحظة أن الإعلام بذاته لا يحمل مشروعًا، وإنما هو أداة ضمن المشروع. ولهذا، لا يمكن الحديث عن توظيف الإعلام والاستفادة منه، في غياب المشروع الكلي الذي يرعى هذا الإعلام ويوجِّهه. ومن ثم، كان من الطبيعي مع غياب مشروع حضاري ذي مرجعية دينية يتوجه بخطابه للإنسانية، أن نفتقد الإعلام الذي يمارس هذا الدور.
ومن الجيد أن نلفت هنا إلى أن الإسلام يمتلك خصيصة لا تتوافر لغيره، وهي أنه ينتشر في مواطن كثيرة بقوته الذاتية؛ لِمَا يملكه من منهج خاتم، ووحي محفوظ، وخطاب يلائم الفطرة السوية.. فكيف لو توافرت له نوافذ إعلامية واسعة الانتشار!
كما نلفت إلى أن قضايانا العادلة بحاجة لخطاب إعلامي متمكن يستطيع مزاحمة الخطابات المغرضة المحرِّفة؛ التي تثير الشبهات، وتنشر الأكاذيب، وتمثل مانعًا كثيفًا يحول بيننا وبين مخاطبة الشعوب الأخرى التي لدى شرائح كثيرة منها استعداد طيب للتجاوب مع قضايانا، متى أُحسنت مخاطبتها، ووُضعت أمامها الحقائق بلا تزييف.

شكرًا جزيلاً لكم أستاذي الكريم.. كلمة أخيرة تقولها للقراء وللشباب الجزائري وبماذا تنصحهم؟
– شبابنا هم عدة المستقبل وأمل الغد؛ علينا أن نبذل ما يكفل لهم حياة كريمة ووعيًا ناضجًا، وأن نمنحهم الفرصة لاكتساب الخبرات الاجتماعية والعملية.. هذا حقهم علينا.
وأما واجب هذا الشباب فهو أن يعتز بدنيه وقيمه، ويتمسك بأخلاقه ومبادئه، وأن يحرص على أن يكون عضوًا فاعلاً في مجتمعه، من خلال إتقان عمله الوظيفي مع بذل جهد في العمل التطوعي.. وعلى الشباب ألا يمل من التزود بالمعرفة واكتساب المهارات، وأن يدرك أنه ينتمي لأمة عظيمة لها آمال وعليها تحديات، وأن عليه دورًا ومسئولية في ذلك…

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com